الخلافات الزوجية - قراءة اجتماعية في التصور الإسلامي

نشرت مجلة المنهاج (إسلامية – فكرية – فصلية) تصدر عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية (بيروت)، في العدد الثالث والثلاثون، السنة التاسعة، ربيع الأول 1425هـ - 2004م، دراسة لسماحة الشيخ حسن موسى الصفار تحت عنوان: الخلافات الزوجية – قراءة اجتماعية في التصور الإسلامي.

وفيما يلي نص ما نشرته المجلة:

 

الخلافات الزّوجيّة

 

 

قراءة اجتماعية في التصور الإسلامي

 

 


التوافق الزوجي


من وظائف الزواج الأساسية تحقيق الاطمئنان والاستقرار النفسي، حيث يجد كل من الزوجين في الآخر مبعث سرور وارتياح، وسند تعاطف ودعم، في مواجهة مشاكل الحياة، وتلبية احتياجاتها.

لذلك يعبّر القران الكريم عن العلاقة الزوجية بأنها سكن وملجأ، يأوي إليه الإنسان، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [1] ، ولا يحصل السكون والاطمئنان في الحياة الزوجية، إلا إذا كانت العلاقة بين الزوجين في إطار المودة والرحمة، والمودة تعني الحب والإنشاد العاطفي، والرحمة تعني رفق كل منهما بالآخر، وشفقته عليه.

وذلك هو أرضية التوافق الزواجي، والذي لا تحقق الحياة الزوجية أغراضها إلا بوجوده. ويعني التوافق الزواجي: قدرة كل من الزوجين على التواؤم مع الآخر، ومع مطالب الزواج. ونقيض التوافق حالة التنافر، والتي تبدأ بحصول انطباعات سلبية من أحد الزوجين تجاه الآخر، أو من كليهما، وبصدور ممارسات وتصرفات من أحدهما مخالفة لرغبة الآخر، أو من كليهما، مما يلبّد سماء الحياة الزوجية بغيوم الخلاف والنزاع، ويكدّر صفوها بشوائب الأذى والانزعاج.

إن الخلافات والمشاكل في الحياة الزوجية، إذا لم تعالج تسلب الطرفين راحتهما وسعادتهما، وتُفقدهما أهم ميزات وخصائص الارتباط الزواجي:

ويضغط الخلاف العائلي على الإنسان أكثر من أي خلاف آخر، لأنه يقع في أقرب الدوائر والحلقات إلى ذاته.

كما تنعكس الخلافات العائلية على تربية الأولاد، فتتمزق نفوسهم، وتضيع حقوقهم، ويستقبلون الحياة من خلال أجواء سيئة ملوثة.

بالطبع مهما كانت درجة التوافق الزواجي عالية، فإنها لا تمنع حصول بعض الخلافات والإشكالات، فيما بين الزوجين، بخاصة في السنوات الأولى من الزواج، حيث تكون خبرة كل منهما بالآخر قليلة، والثقة في بدايتها، لكن أسلوب التعامل، مع المشاكل الحادثة، إذا كان واعياً ناضجاً، فإنه يمنع تفاقمها وتطورها، بل يحوّلها إلى مصدر إغناء وحماية لتجربة التوافق بين الزوجين.

أسباب المشاكل


لا أحد من الزوجين يرغب في وجود مشاكل في حياته الزوجية، بل يتمنيان السعادة والانسجام، لكن هناك عوامل وأسباباً، تنشأ وتنمو في ظلها الخلافات والمشاكل العائلية، منها أسباب ذاتية، تعود إلى ضعف ثقافة العلاقات الزوجية، حيث يعتمد الأزواج الجدد في بناء حياتهم الزوجية، على الاندفاع العاطفي، ومحاكاة الحالة القائمة في المجتمع، وعلى الإدراك العفوي البسيط لطبيعة العلاقة الزوجية، دون أن يتوفروا على معرفة مناسبة لتشريعات الإسلام وتعاليمه، فيما يرتبط بالحقوق المتبادلة بين الزوجين، وبآداب وأخلاق التعامل العائلي. ودون إطلاع كاف على الأبحاث والتوجيهات العلمية المتخصصة.

ومن الأسباب الذاتية: انحراف المزاج وسوء الأخلاق، والذي قد يكون لدى أحدهما أو كليهما، وبمقدار ذلك تحدث الخلافات والأزمات، إن لم يكن الطرف الآخر قادراً على الاستيعاب والتكيف.

وهناك أسباب خارجية، منها تدخلات بعض أهالي الزوجين، ومنها الصعوبات الحياتية المعيشية، فكثير ما تنعكس الأزمات الاقتصادية للعائلة، على التوافق الزواجي.

الوعي والثقافة الزوجية


الوعي الحياتي للزوجين، وتوفرهما على مستوى من الثقافة الزوجية، يشكل عامل وقاية وحصانة من نشوب الخلافات الضارة، أو اشتدادها وتفاقمها.

ومهما كانت درجة التوافق الزواجي، فإن حصول شيء من الخلاف أمر محتمل ومتوقع، وخاصة عند مواجهة الأزمات والصعوبات، وهنا يأتي دور الوعي، ونضج الشخصية، لمعالجة الموقف بتعقل وحكمة، بعيداً عن التشنج والانفعال، الذي يحوّل المشكلة البسيطة إلى قضية معقّدة.

والتعاليم الدينية التي تتحدث لكل من الزوجين حول حقوق الآخر، وفضله ومكانته، وتحث على احترامه وخدمته، وتحمّل ما قد يصدر منه من أخطاء أو تقصير، إنما تريد تعزيز المناعة في نفسية الطرفين، تجاه ما قد يواجههما من مشاكل في علاقتهما الزوجية.

فهناك نصوص دينية كثيرة تخاطب الزوج ليعرف قدر زوجته، وليحسن معاشرتها، وليتحمل مسؤوليته تجاهها. ففي موارد متعددة يؤكد القرآن الكريم على معاشرة الزوجة بالمعروف، يقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[2] ، ويقول تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [3] .

وينهى الله تعالى الرجل عن توجيه أي مضايقة لزوجته، أو إنزال أي ضرر بها، في شرائط حياتها المعيشية كالسكن، حتى ولو كانت مطلقة، ما دامت في فترة العدة الرجعية، يقول تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ[4] .

وفي السنة الشريفة أحاديث وروايات كثيرة بهذا الاتجاه، كقوله : ((ما زال جبريل يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقها إلا من فاحشة مبينة))[5] ، وعنه : ((ألا ومن صبر على خلق امرأة سيئة الخلق، واحتسب في ذلك الأجر، أعطاه الله ثواب الشاكرين في الآخرة))[6] .

وعنه : ((ألا خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي))[7] .

وعنه : ((قول الرجل للمرأة: إني أحبك لا يذهب من قلبها أبداً))[8] .

وعن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبدالله (جعفر الصادق) : ما حق المرأة على زوجها الذي إذا فعله كان محسناً؟ قال : يشبعها ويكسوها وإن جهلت غفر لها. وقال : ((كانت امرأة عند أبي تؤذيه فيغفر لها))[9] .

وعن الإمام الصادق : ((رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته))[10] .

وعن الإمام الصادق : ((لا غنى بالزوج عن ثلاثة أشياء فيما بينه وبين زوجته: وهي الموافقة ليجتلب بها موافقتها ومحبتها وهواها، وحسن خلقه معها، واستعماله استمالة قلبها بالهيئة الحسنة في عينها، وتوسعته عليها))[11] .

من ناحية أخرى هناك نصوص دينية تخاطب الزوجة، لتذكرها بفضل الزوج، ودوره ومكانته في حياتها الزوجية، وأن عليها أن تحترم مقامه كربّ للأسرة، ومتحمل لأعبائها ومسؤولياتها.

روت أم المؤمنين عائشة عن رسول الله أنه قال: ((أعظم الناس حقاً على المرأة زوجها))[12] .

وعنه : ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدّي المرأة حق ربها حتى تؤدّي حق زوجها))[13] .

وعن حصين بن محصن الأنصاري أن عمته أتت النبي فقال لها: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم. قال : ((أنظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك))[14] .

وعنه : ((إنه ليس من امرأة أطاعت وأدت حق زوجها، وتذكر حسنته، ولا تخونه في نفسها وماله، إلا كان بينها وبين الشهداء درجة واحدة في الجنة))[15] .

الإرشاد والتوعية


إن إجراء عقد الزواج بالإيجاب من قبل الزوجة أو وكيلها، والقبول من طرف الزوج أو وكيله، يعني توقيعهما على اتفاقية مشتركة، ينبغي أن يسبقها معرفة واضحة من كليهما، بما تلزمه هذه الاتفاقية من واجبات تجاه الآخر، وما تعطيه من حقوق على الآخر. لكن مثل هذه المعرفة الواضحة، بالواجبات والحقوق الزوجية، قد لا تتوفر لكثير ممن يدخلون عش الزواج الذهبي.

ومن الملحوظ: أن التصدي للأعمال الهامة، يأتي بعد التأهيل والاستعداد المناسب لإنجازها، فقيادة الطائرة، أو حتى السيارة، ومباشرة العمل الطبي، بل حتى التمريض، وكذلك التعليم وما شابه من الأعمال والمهام، عادة ما يسبقها تأهيل وإعداد، لكن الحياة الزوجية على أهميتها يدخلها الشاب والفتاة، دون التوفر على برنامج تأهيلي إرشادي، ودون الحصول على مستوى من الثقافة والمعرفة، لطبيعة هذه العلاقة الزوجية، ووظائفها وآدابها، ومواجهة ما قد يعترضها من عراقيل وصعوبات.

إن ذلك يجب أن تتكفله مناهج التعليم في المرحلة الثانوية والجامعية، ويجب أن يسبق عقد الزواج إرشاد توعوي، ولو عن طريق التثقيف الذاتي، بأن يقتني كل من الزوجين بحوثاً تتضمن تعاليم الإسلام في تسيير الحياة الزوجية، بوسائل مقروءة أو مسموعة.

ومن المناسب جداً أن يكون هناك دور وإسهام للأشخاص المتصدين لإجراء عقود الزواج، من الوكلاء والمأذون الشرعي، في توجيه المقبلين على الزواج إلى توجيهات الإسلام وأحكامه، في مجال العلاقات الزوجية، بالحديث معهم، وإعطائهم الكتب والمطبوعات المناسبة، والمحاضرات المسجّلة، أو تشجيعهم على اقتنائها.

وفي ذلك نفع كبير، وأجر عظيم من قبل الله تعالى، لأنه مصداق للدعوة إلى الخير، وللهداية والإرشاد، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كما يشكل خدمة للإصلاح الاجتماعي، وتقوية كيان المجتمع، وتوثيق تلاحمه.

وقد بادرت بعض المؤسسات الاجتماعية، لعقد دورات تثقيفية توعوية لمجاميع من المقبلين على الحياة الزوجية، وهو برنامج مفيد جداً، ينبغي أن يتحول إلى سنَّة حسنة، ليساعد أبناءنا وبناتنا على النجاح في حياتهم الزوجية، خاصة ونحن نعيش ظرفاً زادت فيه حدة المشاكل العائلية، وارتفعت وتيرة الطلاق، كما تتحدث الأرقام والإحصائيات.

حماية الحقوق الزوجية


إن تشريع الحقوق المتبادلة والمناسبة بين الزوجين، في نظام الاجتماع الإسلامي، يشكل الأساس الرصين، والقاعدة الصلبة، لبناء صرح العلاقة السليمة بينهما، ولإقامة حياة أسرية طيبة.

حيث لم يترك التشريع الإسلامي سفينة العلاقات الزوجية، لرياح العاطفة والمزاج الذاتي، ولا لأمواج العادات والتقاليد غير العادلة. بل شرّع ضوابط وحدوداً واضحة للعلاقة بين الزوجين، وحذّر من تعدّيها وتجاوزها، ففي آيتين متتاليتين من سورة البقرة، يتحدث القرآن الكريم عن هذه الضوابط، تحت عنوان (حدود الله)، ويكرر هذا العنوان لها ست مرات في الآيتين الكريمتين. يقول تعالى: ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[16] . وفي الآية التي تليها يقول تعالى: ﴿إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[17] .

ثم إن الإسلام لم يجعل الحقوق الزوجية امتيازاً ولا سلاحاً بيد أحد الطرفين، بل هي حقوق متبادلة متوازنة بينهما، يقول تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ[18] .

والمماثلة هنا ﴿مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ لا تعني المشابهة والمطابقة في نوع الحقوق، وتفاصيلها، فكل حق على أحدهما، يكون بذاته حقاً على الآخر، وبنفس القدر، كلا، لأن هناك شيئاً من الاختلاف في طبيعة دور كل منهما في الحياة الزوجية، يستلزم نوعاً من التغاير في الوظائف والحقوق، فالنفقة حق للمرأة على الرجل، وليس له عليها حق الإنفاق، وخروجها من البيت يحتاج إلى إذنه، (ضمن تفصيل سبق بيانه) بينما ليس لها عليه مثل هذا الحق. إن المماثلة إذاً تعني المقابلة والمشابهة في أصل وجود الالتزام بحقوق من كل طرف تجاه الآخر، وهي متوازنة متكافئة، لكنها متغايرة في بعض الجوانب والتفاصيل.

ضمانات الالتزام


إن تشريع الحقوق الزوجية هو بمثابة تصميم لخريطة البناء الأسري، لكن هذه الخريطة مهما كانت رائعة في هندستها وتصميمها ستبقى حبراً على ورق، إن لم تتوفر إرادة التنفيذ والالتزام بتلك الحقوق، على الصعيد الفعلي، في العلاقة بين الزوجين.

وملحوظ حصول كثير من التجاوزات والتعديات على الحقوق الزوجية في مجتمعاتنا، وما ارتفاع نسبة الطلاق، وكثافة قضايا الخلافات العائلية في المحاكم، إلاّ مؤشر على وجود تلك التجاوزات والتعديات.

فلا بد من تفعيل ضمانات الالتزام، وبرامج حماية الحقوق الزوجية، لتوفير أجواء التوافق الزواجي، وأرضية الانسجام والسعادة، ولوقاية العلاقات الأسرية من التصدع والانهيار.

ومن أهم ضمانات الالتزام بالحقوق الزوجية، معرفتها والوعي بها من قبل الطرفين، حيث نلحظ أن كثيراً من الأزواج يجهل الالتزامات المتوجبة عليه، ويتصور أن له على زوجه حقوقاً لم يفرضها الشارع المقدس، ونتيجة لهذا الجهل والتصورات غير الصحيحة، تحدث المشاكل والأزمات العائلية.

فمثلاً: يعتقد بعض الأزواج، أن الخدمة المنزلية حق على الزوجة، فيغضب إذا قصرت أو تقاعست عن بعض الخدمات، كالطبخ والغسل، و رعاية شؤون الأطفال، وقد يتخذ إجراءً لمحاسبتها ومعاقبتها، اعتقاداً منه أنها أخلّت بواجب عليها.

وقبل مدة من الزمن تحدثت مع أحد الأشخاص، حول أزمة بينه وبين زوجته، كادت أن تؤدي إلى الفراق، لأنها اشترت منزلاً من أموالها الشخصية أثناء سفره دون علمه، وكان يتصور أنه لا يجوز لها أن تقوم بمثل هذه الخطوة دون إذنه، وإلاّ فما هي قيمته كزوج إذاً؟ وحينما أخبرته أن لا حق ولا سلطة للزوج شرعاً على تصرفات زوجته في أموالها وشؤونها الشخصية، تفاجأ بهذا الكلام!!

كما أن بعض الزوجات، ترى أن على زوجها تلبية كل رغباتها، وخاصة في مجال التسوق ومتابعة موضات الأزياء والكماليات، وامتناع الزوج عن ذلك تعتبره تقصيراً تجاه حقوقها!!

وأكثرهن يعتبرن تفكير الزوج في الاقتران بزوجة أخرى، وإقدامه على ذلك، خيانة وذنباً لا يُغتفر، ويصبح مبرراً للتمرد على حقوق الزوج، والتخلي عن كل التزام تجاهه.

وأعرف عن إحدى الزوجات أنها تقدمت بدعوى للمحكمة الشرعية، لطلب الطلاق من زوجها، لأنه قد تزوج بامرأة أخرى، مع إقرارها في المحكمة بعدم وجود أي تقصير من زوجها تجاهها.

بل تطور الأمر عند بعض الزوجات إلى مراقبة اتصالات زوجها التليفونية، وتسجيل مكالماته، لضبطه متلبساً بالجريمة!!

إن هذه التصورات والممارسات، تكشف في كثير من الأحيان، عدم المعرفة والوضوح في قضايا الحقوق الزوجية، بينما يريد الله تعالى بيانها ووضوحها للناس كما تشير الآية الكريمة: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[19] .

إجراءات الحماية


إن مجرد المعرفة والوعي بالحقوق، لا يمنع من تجاوزها والتعدي عليها، ذلك أن دوافع وعوامل مختلفة، قد تغري أحد الزوجين بانتهاك شيء من حقوق الطرف الآخر، وهنا لا بد من تشريع إجراءات لحماية هذه الحقوق. وهذا ما تكفلت به أحكام النشوز المفصلة في الفقه الإسلامي.

والنشوز في اللغة: الارتفاع، يقال: (نشز من الأرض) عن المكان المرتفع عما حوله.

وفي الاصطلاح الشرعي: مخالفة الزوج أو الزوجة لما يقتضيه عقد الزوجية من التزامات، بحسب جعل الشارع. فالنشوز صفة تنطبق على كل واحد من الزوجين إذا لم يلتزم بحقوق الآخر عليه، مع التزام الآخر بحقوق الناشز. فكما يتحقق النشوز من الزوجة، إذا لم تلتزم بحقوق الزوج عليها مع التزامه بحقوقها، كذلك يتحقق من الزوج، إذا لم يلتزم بحقوق زوجته عليه، مع التزامها بحقوقه عليها[20] . وقد استعمل القرآن الكريم لفظ النشوز وصفاً لسلوك الزوجة مع زوجها، ولسلوك الزوج مع زوجته، قال تعالى: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ[21] . وقال تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا[22] .

نشوز الزوجة


نشوز الزوجة يتحقق بخروجها عن طاعة الزوج الواجبة عليها، وذلك بعدم تمكينه مما يستحقه من الاستمتاع بها، وكذا بخروجها من بيتها دون إذنه، ولا يتحقق بترك طاعته فيما ليس واجباً عليها[23] .

قال ابن قدامة الحنبلي: ((فإن أظهرت النشوز، وهو أن تعصيه وتمتنع من فراشه، أو تخرج من منزله بغير إذنه))[24] .

فالنشوز بالمعنى الشرعي، لا يحصل من الزوجة، إلا إذا تمردت على الالتزام بأحد هذين الحقين المطلوبين منها لزوجها، بمقتضى عقد الزوجية، وهما: الاستمتاع، واستئذانه في الخروج من البيت، أما مخالفتها له في غير ما يرتبط بهما، لا يعتبر نشوزاً، ولا تترتب عليه أحكام النشوز.

قال الشهيد الثاني في المسالك: ((ليس من النشوز ولا من مقدماته بذاءة اللسان والشتم، ولكنها تأثم به، وتستحق التأديب عليه، وهل يجوز للزوج تأديبها على ذلك ونحوه مما لا يتعلق بالاستمتاع، أم يرفع أمره إلى الحاكم؟ قولان تقدما في كتاب الأمر بالمعروف، والأقوى: أن الزوج فيما وراء حق المساكنة والاستمتاع كالأجنبي، وإن نغص ذلك عيشه وكدر الاستمتاع.. ولا أثر للامتناع من حوائجه التي لا تتعلق بالاستمتاع، إذ لا يجب عليها ذلك))[25] .

وقال السيد الشيرازي: ((والظاهر أن النشوز شرعاً حسب الأدلة، لا يتحقق بامتناع أحدهما عن المستحب بالنسبة إلى الآخر، وإن كان ذلك موجباً لعدم الملائمة والموافقة، وسبباً لتغير الحالة السابقة، فامتناع المرأة مما لا يجب عليها، من الرضاع والطبخ والكنس والغسل وما أشبه، ليس بنشوز، وتحققه منهما ليس شقاقاً، وكذلك ليس من النشوز والشقاق السب، بل وحتى الضرب والتضارب وما أشبه، مما يعتاد عند بعض العوام))[26] .

دفاع الزوج عن حقوقه


حينما تمتنع الزوجة عن الاستجابة لرغبة زوجها في الاستمتاع دون مبرر، أو تصرّ على الخروج من بيتها دون رضاه لغير واجب، فإن الشارع المقدس أتاح له استخدام بعض أساليب الدفاع عن حقوقه، لإعادة زوجته إلى طريق الاستقامة، وتتدرج الأساليب المشروعة لردع الزوجة عن تمردها على النحو التالي:

1- الوعظ: قال تعالى: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ[27] . فإذا ظهرت مؤشرات على حالة التمرد من قبل الزوجة، على حقوق الزوج، فينبغي المبادرة إلى معالجة هذه الحالة، نفسياً وفكرياً، بانفتاح الزوج على زوجته، وتلّمس دوافعها إلى هذه التصرفات، ومخاطبة وجدانها وعقلها، بأن اضطراب علاقتها الزوجية، ليس في مصلحتها دنيا وآخرة، وتحذيرها من غضب الله تعالى، ومن تدمير مستقبلها العائلي. ومناقشة الأفكار والتصورات والدوافع الباعثة على التمرد، وإثبات خطئها وسوئها، بالأسلوب المقنع، والطريقة المؤثرة، وقد تستلزم الحالة تكرار الموعظة وتعدد أساليبها.

أما استخدام أسلوب الأمر والنهي، ومقابلتها بالنهر والزجر، فهو لا يحقق المطلوب، وقد يؤدي إلى نتيجة عكسية.

2- الهجر في المضجع: إذا لم تُجد الموعظة، ولم تنجح في تغيير موقف الزوجة، ينتقل الزوج لممارسة أسلوب آخر، يضغط به على شخصيتها، وهو إظهار إعراضه عنها، وعدم مبالاته بها، وذلك عن طريق هجرها في فراش النوم، يقول تعالى: ﴿فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ[28] . بالإنفراد عنها وقت النوم، أو أن يدير ظهره لها إذا ناما في مكان واحد.

3- هل يجوز ضرب الزوجة؟: حينما يفشل أسلوب الموعظة والنصيحة، ولا يجدي أسلوب الضغط النفسي بالهجر والإعراض، ومع بقاء الزوجة مصرّة على تمردها، فهل يظل الزوج مكتوف الأيدي ساكتاً على تجاوز حقوقه؟ هل الحل إنهاء علاقته الزوجية معها، وفي الطلاق ما فيه من مضاعفات على حياة الطرفين والأولاد؟ هل يرفع الأمر إلى الحاكم وفي ذلك كشف لأسرار حياتهما الزوجية، وخاصة مع تعذر الإثبات في القضايا الداخلية؟

يبقى هناك أسلوب يحتمل فيه التأثير، وإعادة المرأة إلى رشدها، وهو استخدام شيء من الإيذاء الجسدي بالضرب، والذي له انعكاس نفسي كبير، وقد يحقق المطلوب.

إن ضرب الزوجة وسيلة غير محببة، وهو أسلوب مهين، لذلك وردت نصوص كثيرة تحذر من استخدامه، فقد روي عن رسول الله أنه قال: ((أي رجل لطم امرأته لطمة أمر الله عز وجل مالكاً خازن النيران فيلطمه على حر وجهه سبعين لطمة في نار جهنم))[29] .

وعنه : ((إني أتعجب ممن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى منها، لا تضربوا نساءكم بالخشب فإن فيه القصاص))[30] .

وعنه : ((أيضرب أحدكم المرأة ثم يظل معانقها))[31] .

لكن هذا الأسلوب البغيض إذا أصبح وسيلة لتلافي ما هو أبغض منه، وكان بمثابة الكي آخر الدواء، فإن الإسلام أجاز للزوج استخدامه، ضمن حدود ضيقة.

قال الفقهاء: ((... جاز له ضربها إذا كان يؤمل معه رجوعها إلى الطاعة، وترك النشوز، ويقتصر منه على أقل مقدار يحتمل معه التأثير، فلا يجوز الزيادة عليه مع حصول الغرض منه، وإلا تدرج إلى الأقوى فالأقوى، ما لم يكن مدمياً ولا شديداً مؤثراً في اسوداد بدنها أو احمراره، واللازم أن يكون ذلك بقصد الإصلاح، لا التشفي والانتقام، ولو حصل بالضرب جناية وجب الغرم))[32] .

أي أنه إذا أحدث بضربه أثراً في جسدها، ولو تغيراً في لون جلدها، باحمرار أو اسوداد، فعليه الدية المقررة في كتاب الديّات. وهو رأي الشيعة (والحنفية والشافعية. أما الحنابلة والمالكية فيرون أنه لا ضمان عليه لأن الضرب مأذون فيه شرعاً)[33] .

إن هناك من يستغلون هذا الرأي الشرعي، بانتهاج أسلوب العنف الجسدي مع زوجاتهم، في غير محله، ويتجاوز الحد المسموح به، وذلك عمل إجرامي محرم، وكل القوانين معرضة للاستغلال وإساءة الاستخدام، إن الجواز حالة استثنائية عند تمرد الزوجة على الحقوق الزوجية، وعند فشل الوسائل الأخرى في المعالجة، وبشرط أن يكون الضرب بقصد الإصلاح لا التشفي والانتقام، وأن لا يترك أثراً في الجسد من إدماء أو اسوداد واحمرار، كل ذلك مع احتمال تأثير الضرب في إصلاحها، ومع العلم بعدم التأثير لا يجوز.

وذكر ابن قدامة الحنبلي: ((ولا يزيد في ضربها على عشرة أسواط لقول رسول الله : ((لا يَجِلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)). متفق عليه))[34] .

4- تجميد حقوقها: عند تحقق النشوز من الزوجة، بتمردها على حقوق زوجها، يكون من حق الزوج تجميد حقوقها، من النفقة، والعلاقة الجنسية، والمبيت، إلى أن تعود إلى جادة الالتزام بوظائف الزوجية، فتعود لها كل حقوقها.

5- الرجوع إلى الحاكم الشرعي: حيث لا مجال لاتخاذ أي إجراء آخر من قبل الزوج، غير الإجراءات السابقة، فإذا أصرت الزوجة على نشوزها، رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي، ليتصرف بما يراه مناسباً.

دفاع الزوجة عن حقوقها


يتحقق نشوز الزوج بتمرده على حقوق زوجته الواجبة عليه، من النفقة، والعلاقة الجنسية، والمبيت عندها في ليلتها، وحسن المعاملة، فإذا أخل بأحد هذه الحقوق، فإن أمام الزوجة وسائل الدفاع التالية:

1- المطالبة بالحق: حيث لا يلزمها السكوت والاستسلام، بل لها أن تتمسك بحقها، وتطالبه بأدائه.

2- الوعظ والتحذير: بالتخاطب الوجداني مع الزوج، وتذكيره بحدود الله تعالى، وتحمله للمسؤولية أمامه، وأنه تعالى يسخط للظلم، ويمقت الظالمين، وتحذره من مضاعفات اضطراب حياتهما الزوجية، وانعكاس ذلك على نفوسهما وعلى الأولاد.

3- انتزاع حقوقها المالية: إذا امتنع الزوج عن بذل النفقة لزوجته، أو قصّر في ذلك، ولم تُجد معه المطالبة والوعظ، جاز لها أن تأخذ مقدار نفقتها من أمواله بدون إذنه، فقد جاءت هند بنت عتبة أم معاوية إلى رسول الله فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال : ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف))[35] .

4- تجميد بعض حقوقه: فحين يتوقف عن الإنفاق عليها، وتضطر للعمل لتوفير نفقاتها، فإنها أثناء عملها غير ملزمة بطاعته، والاستجابة له في ما يطلبه من حقوقه.

5- تدخل الحاكم الشرعي: غالباً ما لا تستطيع الزوجة أن تفرض مطالبها المشروعة، وأن تنتزع حقوقها بقدرتها الذاتية، وهنا عليها أن تعرف أن النظام الإسلامي، والحكم الشرعي، يقف إلى جانبها، ويدافع عن حقوقها، ويلزم الزوج بوظائفه تجاهها.

فعند امتناع الزوج عن بذل النفقة اللازمة لها، يمكنها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، فيخيره بين الإنفاق أو الطلاق، فإن رفض الأمرين، انتزع الحاكم الشرعي نفقتها من ماله رغماً عنه، فإن لم يمكن ذلك، جاز للحاكم أن يطلقها إذا أرادت الزوجة ذلك.

وإذا هجرها زوجها ولم يقم بواجب العلاقة الزوجية معها، ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، فيلزمه بالتراجع عن هجره لها أو الطلاق، فإذا رفض الأمرين، قام الحاكم الشرعي بتأديبه بما يراه مناسباً من سجن وغيره، وإذا لم ينفع ذلك وأرادت الزوجة الطلاق طلقها الحاكم الشرعي.

وإذا كان الزوج يؤذي زوجته ويشاكسها بغير وجه شرعي، جاز لها رفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، ليمنعه من الإيذاء والظلم، ويُلزمه بالمعاشرة معها بالمعروف، فإن نفع وإلا عزّره بما يراه، فإن لم ينفع أيضاً كان لها المطالبة بالطلاق، فإن امتنع منه، ولم يمكن إجباره عليه، طلقها الحاكم الشرعي[36] .

ولا يجوز للزوج أن يبتزّ زوجته، فيؤذيها، أو يقصّر في حقوقها، لتبذل له شيئاً من أموالها، ليقوم بحقوقها، أو ليطلقها، فذلك المال الذي يأخذه يكون من السحت الحرام.

التحكيم والإصلاح في الخلافات الزوجية


واقع الحياة الزوجية استقراراً و اضطراباً، لا تقتصر آثاره على حياة الزوجين، بل تنعكس نتائجه سلباً وإيجاباً على المجتمع كله. وتتضح هذه الحقيقة في النقاط التالية:

1- تؤثر طبيعة علاقة الإنسان الزوجية على حالته النفسية والسلوكية، وبالتالي على مستوى إنتاجيته وفاعليته، فإذا كان يعيش توافقاً زواجياً، فسينعكس ذلك إيجاباً على أدائه الاجتماعي، وفي الحياة العامة، وإذا كان يعاني اضطراباً في علاقته الزوجية، فسيؤثر سلباً على إنتاجيته وسلوكه.

2- ويظهر الأثر الأكبر لحالة العلاقة الزوجية، على تنشئة الأولاد وتربيتهم، ففي ظل الاستقرار العائلي، تتوفر لهم رعاية وتربية أفضل، أما مع أجواء الاضطراب والنزاع في العلاقة بين الوالدين، فسيكونون هم الضحايا، لما ينالهم من تمزق نفسي عاطفي، ولانشغال الأبوين عنهما، وقد يصبحون ساحة لانتقام أحد الزوجين من الآخر.

وتشير البيانات التي تتحدث عن جنوح الأحداث، إلى أن النسبة الغالبة منهم تنتمي إلى عوائل تعاني اضطرابات في علاقاتها الزوجية:

كما يلاحظ الموجهون التربويون في مدارس التعليم، أن أغلب الطلاب الذين يعانون من تدني المستوى التعليمي والأخلاقي، هم من أبناء عوائل تفقد الانسجام الداخلي.

3-كما تنعكس حالة العلاقات الزوجية على وحدة وتماسك المجتمع، الأمن الاجتماعي، لأن اضطرابها تمتد آثاره إلى مساحة واسعة من عوائل الزوجين، والمتعاطفين معهما، وقد تتصاعد الخلافات لتصل إلى المحاكم والجهات الرسمية، أو تتطور إلى نزاعات حادّة.

4- وتشكل الخلافات العائلية ثغرة في أمن المجتمع الأخلاقي، لأن اضطراب العلاقات الزوجية، قد يدفع بعض الزوجات والأزواج إلى البحث عن علاقات عاطفية خارج الإطار الزوجي، فتحصل الخيانات الزوجية، والانحرافات السلوكية.

في مواجهة هذه الأخطار لا بد أن يتحمل المجتمع مسؤوليته في الوقاية منها، بتوفير أجواء الاستقرار العائلي، ومعالجة أسباب الاضطراب، وبالتصدي والمبادرة لحل الخلافات العائلية، فلا يصح السكوت والتفرج من قبل المجتمع، على حالات الخلاف والشقاق في الحياة الزوجية.

التحكيم العائلي


تحدث القرآن الكريم، عن ضرورة المبادرة والتصدي لمعالجة أي خلاف زوجي، يهدد باضطراب العلاقة الزوجية، وطرح مشروعاً للمعالجة والحل، يتمثل في اختيار حكم من عائلة الزوج، وآخر من عائلة الزوجة، ينتدبان لدراسة مشكلة الخلاف بينهما، ويقترحان ما يلزم للحل، وأمرهما يكون نافذاً على الزوجين. يقول تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[37] .

واختيار الحكمين من أهل الزوجين، يقصد منه الاستفادة من عاطفتهما، وحرصهما على مصلحة الزوجين القريبين منهما، كما أن إطلاعهما على أسرار حياة الزوجين، لا يشكل إحراجاً كبيراً، كإطلاع الأجانب ضمن المحاكم العامة، إضافة إلى تجاوز هذا التحكيم العائلي قيود ونفقات المحاكم العامة.

لكن ذلك مشروط، بأن يأتي كل واحد من الحكمين بقصد الإصلاح، وعودة الانسجام والوئام بين الزوجين، لا بقصد الانتصار لطرف، أو الانتقام من الآخر. وهذا ما يؤكد عليه قوله تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا.

من يبعث الحكمين؟


الآية الكريمة ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ... توجه أمراً بالمبادرة إلى بعث حكمين للمعالجة والإصلاح. ((فالظاهر وجوب هذا البعث وفاقاً لجماعة، لظاهر الأمر، ولكون ذلك من الأمر بالمعروف، ومن الحسب التي نصب الحاكم لأمثالها))[38] . وبه قال الشربيني الشافعي في (مغني المحتاج) ونقله عن عدد من العلماء[39] .

وذهب بعض الفقهاء إلى أنه مستحب وأن الأمر في الآية ((إرشاد إلى طريق من طرق الإصلاح فلا يستفاد منه الوجوب))[40] .

ويرى أكثر الفقهاء ((أن المخاطب بالبعث ـ بعث الحكمين ـ الحكام المنصوبين لمثل ذلك))[41] .

ويبدو للمتأمل في الآية الكريمة: أن الراجح ما ذكره علماء آخرون، منهم السيد السبزواري، والذي قال ما نصه: ((حيث أن الموضوع من الإصلاح والمعروف، وهو محبوب عند الشرع، بل عند جميع الناس، فالخطاب متوجه إلى كل من يطلع على الموضوع، ويتمكن على رفع الشقاق بينهما، بقول حسن، وتدبير لطيف ونحوهما، مثل قوله تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ سورة الحجرات، آية10، ولا يختص بخصوص الحاكم الشرعي، إلا إذا كان تنازع و تخاصم بينهما، يحتاج إلى فصله بحسب موازين القضاة وإن كان الاحوط تعيينه مطلقاً))[42] .

وليس هناك خلاف في جواز المبادرة واستحبابها من أجل إصلاح ذات البين، من قبل أي جهة، كأن يبادر الزوجان أو أهلوهما، أو الحاكم، أو غيرهم ((وبالجملة ينبغي أن لا يكون خلاف في جواز البعث من كل من هؤلاء، ووجوبه إذا توقف الإصلاح عليه، خصوصاً الحاكم والزوجين))[43] .

فإذا بعث الزوجان حكمين من قبلهما، يعتبران وكيلين فيمضي قرارهما في حدود الوكالة الممنوحة لكل منهما، لا أكثر، وليسا حكمين حينئذٍ، في رأي أكثر الفقهاء.

ويرى السيد الشيرازي: صحة كون من يبعثهما الزوجان حكمين، أيضاً، قال ما نصه: ((صحة جعل الزوجين الحكمين بعنوان الحكم، كما يصح أن يكون بعنوان الوكيل، أو بالاختلاف، والفرق هو أن الحكمين يحكمان حسب ما يرياه صلاحاً، بعد جعلهما إياهما حكمين، بينما الوكيل لا يتمكن أن يعمل إلا في دائرة الوكالة، وهذا هو الفارق بين الأمرين))[44] .

أما أهل الزوجين فلو بعثا شخصين للتحكيم في الشقاق، فيحتاج إلى إجازة الزوجين، ليكونا وكيلين عنهما، فيمضي رأيهما ضمن حدود الوكالة، أو على أساس أنهما حكمان كما هو رأي السيد الشيرازي. أو بإجازة الحاكم الشرعي، فيكونان حكمين ينفذ قرارهما. ولو بعث أهل الزوجين حكمين دون إجازة الزوجين أو الحاكم، فلا اعتبار لذلك، إلا في حدود الوساطة لإصلاح ذات البين.

وللحاكم الشرعي صلاحية بعث الحكمين حتى من دون رضا الزوجين، وخاصة إذا رفعت خصومتهما إليه.

ولو لم يكن حاكم شرعي، أو لم يمكن الوصول إليه، قام عدول المؤمنين بهذه المسؤولية، فتبعث الجهة المتصدية منهم الحكمين ويكون أمرهما نافذاً.

صفات الحكمين


لكي ينجح الحكمان في مهمتهما الإصلاحية، ولتكون قراراتهما معتمدة من قبل الشارع، لا بد من توفر الصفات المساعدة على ذلك، وقد تحدث الفقهاء عن تلك الشرائط على النحو التالي:

1- القرابة من الزوجين: حيث نصت الآية الكريمة على أن يكون الحكمان من أهل الزوجين ﴿فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا لأن ذلك في الغالب أنجح لمهمة الإصلاح، وإذا كان الأجنبي أقدر على التأثير، فلا مانع من اختياره، وكذلك لو لم يكن لهما أهل، أو لم يكن من أهلهما من يصلح للقيام بهذا الدور، فيمكن اختيار أي عنصرين صالحين.

2- البلوغ.

3- العقل.


4- الصلاحية؛ بمعنى قدرتهما على القيام بهذا الدور، بمعرفة الأحكام المتعلقة بالحقوق الزوجية، وامتلاك الخبرة الاجتماعية. ويمكن أن يتعدد الحكم عن كل طرف، بأن يكون شخصين أو أكثر من جهة الزوجة، وكذلك من قبل الزوج.

5- العدالة: وهي شرط عند فقهاء السنة، أما فقهاء الشيعة فلم يشترطوا ذلك.

6- الإسلام: وهو شرط إذا كان الزوجان مسلمين.

7- الذكورة: وقد اشترطها بعض الفقهاء، وسكت عن ذلك أكثرهم، وصرح بعض الفقهاء بعدم اشتراطها. قال السيد السبزواري: ((الظاهر عدم اعتبار الرجولية فيهما بعد كون المرأة قابلة لذلك))[45] .

مهمة الحكمين


الهدف الأساس للتحكيم، هو إصلاح العلاقات الزوجية، التي أصابها النزاع والشقاق، وإرجاعها إلى حالة الوفاق والوئام. ولإنجاز هذه المهمة، على كل من الحكمين أن يتحدث مع من يمثله بصراحة وانفتاح، ليعرف واقع حالته، وما يشكو منه، وما يطلبه، ويتحاور معه في الموضوع، للوصول إلى نتيجة للمعالجة.

ثم يلتقي الحكمان ويتدارسان الأمر بصراحة ووضوح، لا يخفي أحدهما على الآخر شيئاً مما له ارتباط بمعالجة الموضوع. ويتفقان على رأي واحد للحل، ورأيهما ملزم للطرفين، ((فكلما استقر عليه رأيهما وحكما به نفذ على الزوجين، ويلزم عليهما الرضا به، بشرط كونه سائغاً، كما لو شرطا على الزوج أن يسكن الزوجة في البلد الفلاني، أو في مسكن خصوصي، أو عند أبويها، أو لا يسكن معها في الدار أمه أو أخته، ولو في بيت منفرد، أو لا تسكن معها ضرتها في دار واحدة، ونحو ذلك. أو شرطا عليها أن تؤجله بالمهر الحال إلى أجل، أو ترد عليه ما قبضته قرضاً، ونحو ذلك. بخلاف ما إذا كان غير سائغ، كما إذا شرطا عليه ترك بعض حقوق الضرة، من قسم أو نفقة أو غيرهما.))[46] .

أما لو رأى الحكمان أن الحل هو الطلاق والفراق، فهل يمضي قرارهما؟

فقهاء الشيعة يحصرون نفاذ أمر الحكمين فيما يتعلق بالإصلاح والجمع، أما التفريق فلا يمضي أمرهما فيه، إلا إذا كانا وكيلين عن الزوجين في ذلك، أو اشترطاً منذ البداية أن لهما الجمع والتفريق، أو بموافقة الزوج على الطلاق، وإذا كان التفريق يتضمن بذلاً وفدية من الزوجة، فيحتاج مراجعتها وموافقتها.

ويوافق الشيعة على ذلك أبو حنيفة والشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل.

وعند المالكية ينفذ أمرهما في الإصلاح والتفريق.

تعدّد الزوجات


الحالة الطبيعية أن يتزوج الرجل امرأة واحدة، تتمركز مشاعر الحب و المودة بينهما، ويسيطر كل منهما على قلب الأخر، دون أي منافس، ويشتركان في بناء حياة عائلية سعيدة، تنتج للمجتمع أبناءً وأفراداً صالحين.

لكنه شاع في المجتمعات البشرية، ومن قديم التاريخ، نظام تعدد الزوجات لدى قسم من الرجال في المجتمع، ولم يكن ذلك حالة عامة، في أي مجتمع من المجتمعات، بحيث يتزوج كل رجل أكثر من زوجة، وإنما كان يحصل أن يتزوج بعض من الرجال عدداً من النساء، وغالباً ما كان أولئك الرجال الذين تتعدد زوجاتهم من طبقة الحاكمين، أو الأثرياء والنافذين.

ومن أشهر الشعوب التي أخذت بنظام تعدد الزوجات في العصور القديمة: العبريون، والعرب في الجاهلية، والصقالبة، وبعض الشعوب السكسونية، وكان معمولاً به لدى اليهود، والإيرانيين في عهد الساسانيين، ولدى شعوب أخرى، وقد أباحت اليهودية تعدد الزوجات، ولم يرد في المسيحية نص يمنعه.

ولم يكن لتعدد الزوجات حد في بعض المجتمعات، كعرب الجاهلية، فقد ورد أن غيلان بن سلمة أسلم على عشر نسوة، فقال له النبي : ((أمسك أربعاً وفارق سائرهن))[47] .

وروى أبو داود وابن ماجة، عن قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فأتيت النبي فذكرت ذلك له، فقال: اختر منهن أربعاً.

وروى الشافعي عن نوفل بن معاوية: أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي : أمسك أربعاً وفارق الأخرى[48] . وذكر (كريستينسن) في كتاب (إيران في زمان الساسانيين): إن مبدأ تعدد الزوجات يعد الأساس في تشكيل العائلة، وكان للرجل أن يتزوج من النساء ما وسعه[49] .

تحليل اجتماعي


تحدث العالم المؤرخ (ول ديورانت) في موسوعته قصة الحضارة، عن نظام تعدد الزوجات في التاريخ البشري، والمبررات التي أنتجته في المجتمعات الإنسانية، ونقتطف من تحليله الفقرات التالية:

لقد ظن رجال الدين (المسيحي) في العصور الوسطى، أن تعدد الزوجات للزوج الواحد، نظام ابتكره محمد ابتكاراً لم يسبق إليه، لكنه في الواقع نظام سابق للإسلام بأعوام طوال، لأنه النظام الذي ساد العالم البدائي، وهنالك من الأسباب عدة عملت كلها على تعميم هذا النظام ونشره.

إن حياة الرجال في المجتمع الأول، كانت أشد عنفاً، وأكثر تعرضاً للخطر، بسبب اضطلاعهم بالصيد والقتال، ولذا زاد الموت في الرجال عليه في النساء، واطّراد الزيادة في عدد النساء يضع أمام المرأة إختياراً بين حالتين: فإما تعدد الزوجات للرجل الواحد، وإما عزوبة عقيمة ليس عنها محيص لبعض النساء.

كذلك يحب الرجال أن تكون عشيراتهم في سن الشباب، والنساء يكتهلن بسرعة في المجتمعات البدائية، بل إن النساء أنفسهن كنّ أحياناً يحبّذن تعدد الزوجات، حتى يباعدن بين فترات الولادة، دون أن ينقصن عند الرجل شهوته وحبه للنسل، وأحياناً ترى الزوجة الأولى، وقد أبهضها عبء العمل، تشجع زوجها على الزواج من امرأة ثانية، حتى تقاسمها مشقة العمل، وتنسل للأسرة أطفالاً يزيدون من إنتاجها وثرائها.

ولا شك أن تعدد الزوجات، لاءم حاجة المجتمع البدائي في ذلك الصدد، أتم ملاءمة، لأن النساء فيه يزدن عدداً على الرجال، وقد كان لتعدد الزوجات فضل في تحسين النسل، أعظم من فضل الزواج من واحدة، الذي نأخذ به اليوم، لأنه بينما ترى أقدر الرجال وأحكمهم في العصر الحديث، هم الذين يتأخر بهم الزواج عن سواهم، وهم الذين لا ينسلون إلا أقل عدد من الأبناء، ترى العكس في ظل تعدد الزوجات، الذي يتيح لأقدر الرجال أن يظفروا - على الأرجح - بخير النساء، أن ينسلوا أكثر الأبناء، ولهذا استطاع تعدد الزوجات أن يطول بقاؤه بين الشعوب الفطرية كلها تقريباً، بل بين معظم جماعات الإنسان المتحضر، ولم يبدأ في الزوال في بلاد الشرق إلا في عصرنا الحاضر، لأنه قد تآمرت على زواله بعض العوامل.

وفي هذه الحالة أصبح تعدد الزوجات المكشوف، حتى في الجماعات البدائية، ميزة تتمتع بها الأقلية الغنية وحدها، أما سواد الناس فلا يجاوزون الزوجة الواحدة، ثم يخففون وطأة ذلك على نفوسهم بالزنا، بينما ترى أقلية أخرى آثرت العزوبة راضية أو كارهة[50] .

مسوّغات تعدّد الزوجات


وما أشار إليه هذا العالم المؤرخ، من مبررات لتعدد الزوجات في المجتمعات الإنسانية، هي مبررات حقيقية، ويمكننا توضيحها أكثر عبر النقاط التالية:

1- عادة ما يكون عدد الإناث أكثر من عدد الذكور، وليس ذلك لسبب زيادة مواليد الفتيات على الفتيان دائماً، وإنما أيضاً لتعرض الذكور للأخطار وأسباب الموت أكثر، كالحروب وحوادث العمل.

ويذكر الفيلسوف البريطاني (برتراند رسل) في كتاب (الزواج والأخلاق) أنه: يوجد الآن - وقت كتابته - في إنكلترا أكثر من مليوني امرأة زائدة على عدد الرجال، وهؤلاء النسوة طبقاً للعرف السائد، يجب أن يعشن إلى آخر العمر عقيمات في الواقع، وهذا يشكل حرماناً عظيماً لهن، إن نظام الزوجة الواحدة مبني على افتراض تساوي عدد النساء والرجال في البلد، فحين ينعدم التساوي، يقع ظلم عظيم على أولئك الذين يجب أن يعيشوا حالة العزوبة، طبقاً لهذا القانون الرياضي[51] .

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، كتبت الصحف الألمانية عن حرمان عدد كبير من النساء من الحصول على زوج وبيت عائلي، وحصلت حركة ضغط من النساء على الحكومة الألمانية، لإلغاء قانون الزوجة الواحدة، وإقرار تعدد الزوجات، لكن الكنيسة عارضت ذلك[52] .

2- والمرأة أسرع بلوغاً وتهيئاً للزواج من الرجل، فالفتيات اللاتي يولدن مع الفتيان في سنة واحدة، يتهيأن للزواج بيولوجياً وسيكيلوجياً قبلهم ببضع سنوات، كما هو معروف. وفي نفس الوقت فإن الاستعداد الجنسي أسرع نضوباً وخفوتاً عند المرأة، حيث تتلاشى قدرتها على الإنجاب، ولياقتها الجسمية قبل الرجل. لذلك أصبح مألوفاً أن يتزوج الرجل من امرأة تصغره بعدة سنوات.

3- وتمر على المرأة فترات تعاني فيها من العوائق الجنسية، كأيام العادة الشهرية، وبعض فترات الحمل، بينما لا يعاني الرجل من مثل ذلك.

4- وهناك نساء يفقدن أزواجهن لبعض الأسباب، من وفاة أو طلاق، فلا يتيسر لهن جلب اهتمام الرجال كزوجة أولى، وقد تكون المرأة مصابة بالعقم، أو أي مرض آخر، ففي ظل نظام الزوجة الواحدة فقط، تصعب معالجة مثل هذه الحالات.

كل هذه الأسباب تنتج حالات العنوسة والحرمان من الزواج، لعدد من النساء، كما قد تدفع الرجال للعلاقات الجنسية غير المشروعة، وهو ما تعاني منه المجتمعات الغربية الآن، وبشكل مبتذل فاضح.

من أجل ذلك أمضى الإسلام ما كان معمولاً به من تعدد الزوجات، ولكن ضمن حدود وضوابط.

حدود التعدّد


اتفقت كلمة فقهاء المسلمين: على أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من أربع زوجات بالنكاح الدائم، في وقت واحد، وحتى لو طلق واحدة منهن، لم يجز له أن يتزوج الخامسة، حتى تخرج زوجته المطلقة من عدتها، إذا كان الطلاق رجعياً، أي يصح له الرجوع فيه.

أما إذا كان الطلاق بائناً، فالمشهور عند فقهاء الشيعة: أنه يجوز له الزواج من أخرى قبل انتهاء عدتها، وهو رأي السيد الشيرازي من المعاصرين. كما أفتى بذلك المالكية والشافعية[53]  واحتاط بعض الفقهاء الشيعة بوجوب الانتظار إلى انتهاء عدة البائنة، كما هو رأي السيد السيستاني من المعاصرين.

وهو رأي الحنفية أيضاً، حيث يرون وجوب الانتظار حتى في الطلاق البائن[54] .

أما إذا كانت العدة لفسخ الزواج فلا يجب الانتظار باتفاق الفقهاء.

وإذا ماتت الزوجة الرابعة فهل يجب عليه الانتظار؟ أو يجوز له الزواج من أخرى فوراً؟. المشهور عند فقهاء الشيعة عدم وجوب الانتظار، وهو رأي فقهاء السنة أيضاً. لكن بعض فقهاء الشيعة أوجب الصبر احتياطاً مدة عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام. وهو رأي السيد السيستاني.

وتحديد تعدد الزوجات بأربع لقولـه تعالى: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ[55] . إضافة إلى العديد من الأحاديث الصريحة بهذا التحديد. والواو في قوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ للتخيير، يعني: إما اثنتان، أو ثلاث، أو أربع، وهذا باتفاق المسلمين. ونسب الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه (الفقه الإسلامي وأدلته) إلى الشيعة: أنهم يجوزون الزواج بتسع نساء، على أساس أنهم يعتبرون الواو هنا للجمع مثنى وثلاث ورباع، فالمجموع تسعة[56] . ولم يذكر مصدراً لهذا الإدعاء.

وهذا القول افتراء على الشيعة، حيث لم يرد لا في كتب تفاسيرهم، ولا في كتب فقههم، وهو نموذج للنقل عن الشيعة من مصادر مخالفيهم ومناوئيهم، لرسم صورة مشوهة عنهم، بعيدة عن الموضوعية والواقع.

والتحديد بأربع خاص بالزواج الدائم، أما الزواج المؤقت الذي يرى الشيعة استمرار جوازه، فإنه غير مشمول بهذا التحديد.

لزوم العدل بين الزوجات


يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من زوجة، إذا كان يجد نفسه قادراً على التعامل معهن بعدالة، بأن لا يجور على حقوق واحدة لصالح الأخرى، في النفقة أو في المبيت، حيث يجب عليه أن يتحمل نفقات زوجاته، فلا يصح له أن يجحف باحتياجات واحدة منهن، ونفقة كل واحدة بحسب وضعها وشأنها، فليس المقصود بالعدالة المساواة، وإنما توفير المستلزمات، فلو كانت حياة إحداهن تتطلب نفقة أكثر من الأخرى، وجب عليه ذلك, مع توفير حاجة الأخرى ضمن احتياجها.

وبالنسبة للمبيت فإن عليه أن يعدل في القسمة بين زوجاته، وحق الزوجة أن يبيت عندها زوجها ليلة من كل أربع ليال، ولا يجوز لمن يعرف من نفسه عدم القدرة على العدل أن يتزوج أكثر من واحدة، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً[57] .

اشتراط عدم التعدّد


إذا اشترطت الزوجة على الزوج، في عقد النكاح أو في غيره، أن لا يتزوج عليها صح الشرط، ويلزم عليه أن لا يتزوج، وإذا تزوج عليها يكون آثماً مذنباً لكن زواجه صحيح[58] .

الموقف من تعدّد الزوجات


من الناحية الشرعية، فإن الإسلام قد أجاز تعدد الزوجات ضمن الحدود والضوابط المقررة، ولا يستطيع مسلم أن يعترض على تشريعات الإسلام، وما دامت المسألة في إطار الجواز والإباحة، فالأمر متروك لوضع كل إنسان وظروفه، وللأعراف والاعتبارات السائدة في المجتمع.

ومن الواضح أن ظروف الحياة اليوم، أصبحت أكثر تعقيداً من السابق، فأخذ زوجة أخرى، يعني إدارة عائلة وأسرة أخرى، تستلزم نفقات مادية، وجهوداً في الرعاية والتربية، فمن كان قادراً على ذلك، ومطمئناً من تطبيق العدالة المطلوبة شرعاً، فليس من الصحيح تعويق رغبته وإرادته في تعدد الزوجات.

إن هناك أشخاصاً في المجتمع، تستدعي ظروفهم الشخصية والعائلية اتخاذ زوجة أخرى، لكن تحسس الزوجة الأولى بشكل مبالغ فيه، قد يجعل الرجل أمام أحد خيارين كلاهما صعب: إما أن يكبت رغبته، ويتجاهل حاجته، وقد يلجأ إلى طريق الحرام. أو يغامر بخراب وهدم بيته العائلي.

من ناحية أخرى فإن عدد النساء العوانس في تصاعد وتزايد، وتعدد الزوجات هو الذي يفسح أمامهن أمل الحياة الطبيعية، ويتيح لهن فرصة السعادة الزوجية، وممارسة دور الأمومة.

وأشارت إحصائيات لوزارة التخطيط في المملكة العربية السعودية: أن عدد الفتيات اللاتي لم يتزوجن، وتجاوزن سن الزواج اجتماعياً (30 عاماً) بلغ حتى نهاية 1999م حوالي مليون و925 ألفاً و814 فتاة. وأوضحت الإحصائية: أن عدد المتزوجات في السعودية بلغ مليونين و836 ألفاً و475 امرأة[59] .

وذكرت إحصائية سابقة أن عدد العوانس في الكويت بلغ 40 ألف عانس[60] .

ويجب أن نعترف بأن جزءً من المشكلة يكمن في النماذج والتجارب السيئة، التي قد تحصل من قبل من يتزوجون زوجة أخرى، ثم لا يمارسون العدالة، بل يهملون الزوجة الأولى، ويجحفون بحقوقها، وتتضاءل حتى رعايتهم واهتمامهم بأبنائهم منها.

وإذا كان مفهوماً وجود مبررات للميل العاطفي نحو الزوجة الجديدة، عبرت عنه الآية الكريمة ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ[61]  حيث تعني استحالة العدالة في الميل النفسي والعاطفي، ولكنه ليس منطقياً أن لا يعدل الإنسان في الجانب الممكن، وهو العدالة في النفقة والرعاية، وأداء الحقوق الشرعية.

يقول تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً[62] .

ورد عن الإمام محمد الباقر عن جده رسول الله أنه قال: ((من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما في القسم من نفسه وماله جاء يوم القيامة مغلولاً مائلاً شقّه حتى يدخل النار))[63] .

وورد مثله عن أبي هريرة عنه أخرجه الترمذي والحاكم.

 

 

[1]  سورة الروم : الآية 21.
[2]  سورة النساء: الآية 19.
[3]  سورة البقرة: الآية 231.
[4]  سورة الطلاق: الآية 6.
[5]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج100 ص253.
[6]  المصدر السابق: ص244.
[7]  الحر العاملي: محمد بن الحسن، وسائل الشيعة – حديث رقم 25340.
[8]  المصدر السابق: حديث رقم 24930.
[9]  المصدر السابق: حديث رقم 25330.
[10]  المصدر السابق: حديث رقم 25334.
[11]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج75 ص237.
[12]  الهندي: علي المتقي، كنز العمال - حديث رقم 44771.
[13]  المصدر السابق: حديث رقم 44776.
[14]  المصدر السابق: حديث رقم 44796.
[15]  المصدر السابق: حديث رقم 44804.
[16]  سورة البقرة: الآية 229.
[17]  سورة البقرة: الآية 230.
[18]  سورة البقرة: الآية 228.
[19]  سورة البقرة: الآية 230.
[20]  شمس الدين: الشيخ محمد مهدي، حقوق الزوجية ص17-18، الطبعة الأولى 1996م، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر - بيروت.
[21]  سورة النساء: الآية 34.
[22]  سورة النساء: الآية 128.
[23]  السيستاني: السيد علي الحسيني، منهاج الصالحين. المعاملات - القسم الثاني، مسألة 350.
[24]  ابن قدامة: المغني، ج10 ص259، الطبعة الثانية 1992م، هجر - القاهرة.
[25]  النجفي: الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام، ج11 ص132، الطبعة الأولى 1992م - بيروت.
[26]  الشيرازي: السيد محمد الحسيني، الفقه ج67 ص364.
[27]  سورة النساء: الآية 34.
[28]  سورة النساء: الآية 34.
[29]  النوري الطبرسي: ميرزا حسين، مستدرك الوسائل، حديث رقم 16619.
[30]  المصدر السابق: حديث رقم 16618.
[31]  الكليني: محمد بن يعقوب، الكافي، ج5 ص509.
[32]  السيستاني: السيد علي الحسيني، منهاج الصالحين، المعاملات - القسم الثاني، مسألة353.
[33]  الزحيلي: الدكتور وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته، ج7 ص340.
[34]  ابن قدامة: المغني ج10 ص261.
[35]  البخاري: محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، حديث رقم 5364.
[36]  السيستاني: السيد علي الحسيني، منهاج الصالحين، المعاملات - القسم الثاني، مسألة 360.
[37]  سورة النساء: الآية 35.
[38]  النجفي: الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام، ج11 ص137.
[39]  الخطيب: الشيخ محمد الشربيني، مغني المحتاج، ج3 ص261، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
[40]  السبزواري: السيد عبد الأعلى، مهذب الأحكام، ج25 ص228.
[41]  النجفي: الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام، ج11 ص136.
[42]  السبزواري: السيد عبد الأعلى، مهذب الأحكام، ج25 ص229.
[43]  النجفي: الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام، ج11 ص137.
[44]  الشيرازي: السيد محمد الحسيني، الفقه، ج67 ص404.
[45]  السبزواري: السيد عبد الأعلى، مهذب الأحكام، ج25 ص231.
[46]  السيستاني: السيد علي الحسيني، منهاج الصالحين - المعاملات، القسم الثاني، مسألة 362.
[47]  ابن عاشور: محمد الطاهر، التحرير والتنوير ج4 ص17.
[48]  الزحيلي: وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته ج7 ص166.
[49]  مطهري: مرتضى، نظام حقوق المرأة في الإسلام ص269 الطبعة الثالثة 1987م - طهران.
[50]  ديورانت: ول، قصة الحضارة ج1 ص70-72 دار الفكر 1988م.
[51]  مطهري: مرتضى، نظام حقوق المرأة ص292 – 297.
[52]  المصدر السابق.
[53]  الموسوعة الفقهية - الكويت ج36 ص225.
[54]  المصدر السابق.
[55]  سورة النساء: الآية 3.
[56]  الزحيلي: وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته ج7 ص166.
[57]  سورة النساء: الآية 3.
[58]  السيستاني: السيد علي، منهاج الصالحين ج3 مسألة 333، الشيرازي: السيد محمد، أجوبة المسائل الشرعية، إعداد جعفر الحائري 4392.
[59]  المجلة:أسبوعية، لندن عدد 1071 بتاريخ 26/8/2000م ص21.
[60]  المسلمون: جريدة، لندن عدد 666 بتاريخ 7/7/ 1418ه‍.
[61]  سورة النساء: الآية 129.
[62]  سورة النساء: الآية 3.
[63]  الحر العاملي: محمد بن الحسن، وسائل الشيعة حديث رقم 27248.