الشيخ الصفار يدعو للتواصل العقدي بين المذاهب الإسلامية
* إذا كان التعارف والتواصل مطلوباً بين أبناء الأمة في مختلف المجالات، فهو في المجال العقدي أكثر أهمية وفائدة.* العلماء الناضجين في الأمة لم يولوا المجال العقدي ما يستحق من عناية واهتمام، وتركوه لتفاعلات تراث العصور الماضية، بما فيه من خصومات وخلافات.
* ساحة الأمة وخاصةً في هذا العصر بحاجة إلى مبادرات جريئة لكسر حالة الجمود والقطيعة على الصعيد العقدي معرفياً.
دعا سماحة الشيخ حسن موسى الصفار علماء الأمة الإسلامية للتواصل في الميدان العقدي، مستنكراً التردد الذي تعيشه الأوساط العلمية تجاه هذا الأمر، ومؤكداً أن التواصل هو السبيل الأفضل لتتعرف كل جهة على آراء وأفكار ومعتقدات الجهات الأخرى. وأشاد بإنجازات التواصل التي تحققت على الصعيد الفقهي والثقافي، مدعّماً حديثه بنماذج معاصرة لحالات التواصل والانفتاح الفقهي والثقافي، وتُقابلها نماذج من حالات الانغلاق العقدي. جاء ذلك في الكلمة التي ألقاها الشيخ الصفار ظهر الجمعة 17 رجب 1425هـ (3 سبتمبر 2004م).
بدأ الشيخ الصفار كلمته بالآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (الزمر، 17، 18)، وقال: ليست هناك دعوة أهم إلى حرية التفكير من هذه الدعوة، وليس هناك شعارٌ أفضل لحسن الاختيار وللثقة بعقل الإنسان كمثل هذا الشعار الذي ترفعه الآية الكريمة. مشيراً أن الآية تُقدم البشرى لشريحةٍ من الناس، هذه الشريحة هي التي تكون عقولها مفتوحة على مختلف الآراء والأفكار، وتكون لها الثقة الكاملة بذاتها ونفسها لكي تختار القول الأصح والأحسن والأصوب. وأضاف: الآية تقول: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾ ولم تقل الآية (يسمعون)، لأن السماع قد يكون بشكلٍ عفوي، وبالصدفة وغير مقصود، بينما ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ تعني يتقصدون أن يطلعوا على الآراء والأفكار الأخرى. وأشار إلى اختلاف المفسرين في تفسير كلمة ﴿الْقَوْلَ﴾ في الآية، فمنهم من يقول إنها تعني: القرآن الكريم، وهناك من يرى رأياً آخر كابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير، حيث يقول: إن التعريف في (القول) تعريف الجنس، أي يستمعون الأقوال مما يدعو إلى الهدى مثل القرآن وإرشاد الرسول ، ويستمعون الأقوال التي يريد أهلها صرفهم عن الإيمان من ترهات أئمة الكفر فإذا استمعوا ذلك اتبعوا أحسنه وهو ما يدعو إلى الحق.
وأضاف الشيخ الصفار إن الآية الكريمة فيها دلالتان هامتان:
الأولى: تأكيد الثقة بعقل الإنسان، فهو المرجعية المعتمدة للتمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر.
الثانية: الثقة العالية للدين بأحقيته وأفضليته، لذلك فهو لا يخشى من انفتاح أبنائه على غيره من الأديان والآراء، إذا ما عرفوا حقائق الدين واستخدموا عقولهم في المقارنة والتمييز.
واستعرض بعض النصوص الدينية التي تشجع الإنسان المؤمن على أن يتطلب كل فكرة نافعة، بغض النظر عن مصدرها. كالحديث الوارد عن رسول الله : «الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها»، وفي كلمة الإمام علي بن أبي طالب يقول فيها: «الحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها». وفي كلمةٍ أخرى عنه : «الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق».
وأشار الشيخ الصفار إلى وجود بعض حالات الانغلاق والتعصب في أوساط المسلمين، مؤكداً أن هذه حالة مرضية، في حين أن الحالة الصحية أن يطلع الإنسان على الرأي الآخر.
وأشاد الشيخ الصفار بمبادرات التواصل التي حصلت في بعض المجالات والميادين، ومن أهم الميادين –كما يقول سماحته:
الميدان الفقهي: وفيه تم العديد من الإنجازات ومنها:
- صدرت عام 1961م موسوعة جمال عبد الناصر الفقهية من القاهرة، لتذكر آراء المذاهب الإسلامية في مسائل الفقه جنباً إلى جنب، المذاهب الأربعة والمذهب الظاهري ومذهب الإمامية ومذهب الزيدية ومذهب الأباضية.
- صدرت مجموعة من الكتب الفقهية التي تتناول آراء مختلف المذاهب في جميع أبواب الفقه الإسلامي أو بعضها. ككتاب (الفقه على المذاهب الخمسة) للشيخ محمد جواد مغنية، وموسوعة (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي، وكتاب (الأحوال الشخصية) للشيخ محمد أبو زهرة، وكتاب (أحكام الأسرة في الإسلام) للدكتور محمد مصطفى شلبي، وغيرها كثير.
- تأسيس (مجمع الفقه الإسلامي) بالقرار الصادر عن مؤتمر القمة الإسلامي الثالث المنعقد بمكة المكرمة، بتاريخ 22 ربيع الأول 1401هـ الموافق 28 يناير 19891م وهو خطوة رائدة على هذا الصعيد. وذكر الشيخ الصفار جانباً من إنجازات هذا المجمع على الصعيد الفقهي.
الميدان الثقافي: حيث أن حركة التواصل بين مفكري الأمة وعلمائها ومثقفيها من مختلف المذاهب والتيارات أقوى وأنشط، فهناك أكثر من مؤتمر ولقاء يعقد كل عام في مختلف أنحاء العالم، لتناول قضايا الإسلام وأوضاع الأمة، وهناك عدد من المجلات الفكرية الثقافية العامة أو المتخصصة التي يشارك في تحريرها كتاب من مختلف الاتجاهات والمذاهب في الأمة.
واستنكر الشيخ الصفار حالة التردد التي تنتاب علماء الأمة من التواصل في الميدان العقدي، مؤكداً أن العلماء الناضجين في الأمة لم يولوا هذا المجال ما يستحق من عناية واهتمام، وتركوه لتفاعلات تراث العصور الماضية، بما فيه من خصومات وخلافات، فأصبح ساحة للقوى المتطرفة المتعصبة من مختلف المدارس والمذاهب.
وأكد الشيخ الصفار أنه إذا كان التعارف والتواصل مطلوباً بين أبناء الأمة في مختلف المجالات، فهو في المجال العقدي أكثر أهمية وفائدة.
وذلك للأسباب التالية:
أولاً: يساعد الإنسان المسلم على اكتشاف الحق ومعرفة الصواب في مسائل العقيدة، عن طريق اطلاعه على مختلف الآراء، وفهمه لأدلتها.
ثانياً: إن القراءة الموضوعية لأراء الفرق والاتجاهات العقدية الأخرى، تمكن الإنسان من معرفة الآخرين على حقيقتهم وواقعهم، بينما تكون القطيعة المعرفية سبباً للجهل بالآخر، ورسم صورة غير دقيقة عن توجهاته.
ثالثاً: إن التواصل العلمي وتدارس القضايا بموضوعية وإخلاص على أي صعيد ديني ومعرفي يتيح المجال لبلورة الرأي، وتكامل الفكر، وحل العُقَد، ومعالجة الثغرات.
رابعاً: هناك مسائل جديدة في علم الكلام تشكل تحدياً أمام العقيدة الإسلامية ككل، وهي تستوجب تعاوناً بين علماء الأمة المتخصصين من مختلف المذاهب، لتوضيح الرؤية الإسلامية تجاه هذه المسائل المطروحة في أذهان الجيل المسلم المعاصر.
وأشار إلى نماذج يتضح فيها العزوف عن التعرف على الآراء العقدية الأخرى، ومن هذه النماذج:
- صدور موسوعة باسم (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة) من مؤسسة إسلامية عالمية هي (الندوة العالمية للشباب الإسلامي) وروجتها بشكل مكثف وبطبعات متكررة، لكنها تقدم سائر المذاهب والاتجاهات الإسلامية المخالفة للنهج السلفي، بصورة مشوهة، وبأسلوب يقطر حقداً وتعصبا. وطالب سماحته سرعة المبادرة لإعادة النظر في موادّ هذه الموسوعة من قبل الجهة التي أصدرتها.
- ما كتبه الحافظ المؤرخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (توفي 748هـ) وهو عالم مؤلف شهير، حينما يُترجم في كتابه (سير أعلام النبلاء) للشيخ المفيد محمد بن النعمان البغدادي (توفي 413هـ) وهو من أبرز علماء الشيعة ومقرري آرائهم العقدية، فإن الشيخ الذهبي يحمد الله تعالى أنه لم يقرأ شيئاً من مؤلفات هذا العالم الذي يُمثل مدرسةً فكرية عقدية في ساحة الأمة. راجع سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 17، ص: 344.
ويؤكد الشيخ الصفار أنه قد يوجد مثل هذه الحالة في أتباع مختلف المذاهب، فلابد من توفير أجواء دافعة للتواصل، لتتجاوز الأمة حالات القطيعة، وعوامل الفرقة والتمزق.
فالشيخ الصفار يدعو علماء الأمة الواعين إلى تجاوز حالات القطيعة العقدية، وأن يتواصلوا فيما بينهم عقدياً كما تجاوزا حالات القطيعة في الميدان الفقهي والثقافي. مؤكداً أن ساحة الأمة وخاصةً في هذا العصر الذي تشتد فيه التحديات، وتتسم أجواؤه بالانفتاح المعرفي، بحاجة إلى مبادرات جريئة لكسر حالة الجمود والقطيعة على الصعيد العقدي معرفياً، وتوفير فرص التواصل العلمي، وعرض الآراء والأفكار بموضوعية وإنصاف.
يُمكنك قراءة نص كلمة الجمعة عبر الوصلة التالي:
http://www.saffar.org/?sec=friday&action=view&page=14250717&id=191&ex=1