الحسد طاحونة الصراعات الدينية
خمسة مقالات في الحديث عن أسباب التنازع بين المتدينين سبقت هذا المقال، لأبدأ الحديث عن الحسد كسبب رئيسي من دوافع الصراع بينهم.
«لا يوجد هناك من لا يعرف الحسد لأنه يكاد لا يخلو منه إنسان، وكأنه يدخل عنصرا من عناصر الغريزة في التركيب البشري» مصطلحات قرآنية لصالح عظيمة.
لقد جاءت الأحاديث والروايات، متكاثرة ومحذره من سلطة الحسد، ودفعه الإنسان إلى المساوئ فهو آفة الدين، قال أمير المؤمنين «آفة الدين الحسد». وهو آفة الجسد قال «الحسد يذيب الجسد». وهو آفة الروح قال «ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، نفس دائم، وقلب هائم، وحزن لازم».
والحاسد تتعطل قواه عن الإنتاج والإبداع والتطور، ذلك أن الإنتاج والإبداع بحاجة ماسة لأمرين اثنين:
الأول: التوجه إلى قوى الذات وإمكاناتها، ومحاولة استثمارها والاستفادة منها على أحسن وجه، وأقصى إمكانية.
الثاني: هدوء البال وراحة الضمير إذ هما شرط أساسي لكل عملية تفكير مثمرة.
والأمران معا يفقدهما الحاسد، ذلك أن قواه متوجهة إلى المحسود، وناظرة إلى النعم التي عنده وغافلة عن الذات وما فيها من كنوز وخيرات، ونفسه متعبة بنجاحات المحسود، فمن أين له صفاء الذهن؟ وراحة البال؟! بل هو مضطرب البال، مشوش الذهن، ملبد الخاطر.
والأمر دائماً إلى الزيادة وليس إلى النقصان، فكلما تقدم المحسود زاد الغم وعلا الهم على الحاسد، وكلما أحرز مكانة اجتماعية وميدانية فقد صاحبنا صوابه واستغنى عن عقله.
والحاسد لا يتمنى زوال النعم والمكاسب من المحسود فحسب، بل يعمد بما أوتي من جهد وأعطي من قوة إلى العمل على زوال تلك النعم، وإيقاع الأذى بذلك الشخص.
لقد دفع الحسد ابني آدم للتقاتل، حينما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، يقول مجتبى الموسوي اللاري في كتابه دراسة في المشاكل الأخلاقية والنفسية «فحينما رأى قابيل أن قربان (هابيل) قد قبل، بينما لم يتقبل قربانه حسده حتى صمم على قتله، وقتله خيانة، أنشب الحسد مخالبه على قلبه فسلبه عاطفة الأخوة والإنسانية، فحطم بالصخرة رأس أخيه وخضب جسده المقدس بدمائه، لا لشيء إلا لأنه أخلص في نيته وكان طاهرا في عمله، لقد شهد العالم الهادئ في ذلك العصر أولى ضحايا الحسد على أثر جناية عظيمة مهولة وقعت على يد ولد آدم ».
ودفع الحسد بأبناء يعقوب أن يتبادلوا المكر فيما بينهم عن أفضل الطرق للتخلص منه، هل القتل؟ أو الإعاقة؟ أم الإلقاء في غيابة الجب؟ كل ذلك حتى لا يستحوذ على محبة أبيهم دونهم. وقد أعاد القرآن قصة يوسف في أماكن كثيرة ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾.
ويعلق عظيمة على حديث الإمام الصادق حين سئل عن الحسد فقال : «لحم ودم يدور في الناس» فيقول: «يعني ذلك أن الحسد يولد في المنطقة المظلمة من الإنسان، وهي نفسه أو غريزته المبثوثة في لحمه ودمه، وحين يكبر فيه الحسد ويثور، فإن دمه يغلي ويتحرك ويدفع صاحبه إلى القيام والحركة والسعي لإيذاء المحسود، وخلق الأسباب لإزالة النعم عنه» مصطلحات قرآنية.
لكم أفسد الحسد إخوانا متحابين، يقول العلامة الطباطبائي في تفسير ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ﴾ «الغل هو الحقد وضغن القلوب وعداوتها، وغل الصدور من أعظم ما ينغص عيش الإنسان، وما من إنسان يعاشر إنسانا ويأتلف به إلا وائتلافه مشروط بأن يوافقه فيما يراه ويريده، فإذا شاهد من حاله ما لا يرتضيه جاش صدره بالغل وراحت الألفة، وتنغصت العيشة».
الحسد والغل والحقد والبغضاء أمراض لها انعكاسها على المجتمع بجميع مكوناته وألوانه، فلا يلتئم جرح اجتماعي حتى يعمل الحسد في نفس الإنسان لينكأ جروحا اجتماعية أخرى، ويتسبب في مصائب أدهى وأمر.
ويمكنك أن ترى الحسد في بعض النقد الذي يسود أوساطنا، فحين تراه نقدا مكملا فهو خير، وحين تراه نقدا ممزقا فتمعن في مؤدياته «فإذا فشا الحسد بين أفراد المجتمع شاعت فيهم مظاهر كثيرة من المشاجرات المختلفة، وفي مجتمع كهذا مليء بالآلام والمحن، يصبح كل واحد منهم بدل أن يكون مكملا لنقائص الآخرين، ومساهماً في تحسين أوضاعهم سدا أمام سعادتهم وتقدمهم في الحياة، وإن حسد هؤلاء سيمنع من أي إصلاح بينهم وبالتالي ينفرط روح النظام والراحة والطمأنينة وينتهي الأمر بهم إلى الفناء والدمار، على ما هم عليه من الحضارة والعمران، إن أكثر الجرائم التي تقع اليوم في زوايا هذا المجتمع مصحوبة بأنواع من الشدة والقسوة إنما ينبع من الحسد ويظهر ذلك بالتعمق في الحوادث» دراسة في المشاكل الأخلاقية والنفسية.
علينا أن نبحث عن الحسد في أغلب الصراعات الاجتماعية، وسنراه جليا بعد التأمل والتمعن وضم تقاطيع الصور والأحداث لبعضها.