عليٌ الهدوء والوعي البعيد
في ذلك الفجر الحزين خَرَّ سيدنا ومولانا علي مضرجاً بدمه في محراب الصلاة، يشيع الخبر بين الناس فيأتون المسجد زرافات والصدمة تؤلمهم والحزن يأخذ بتلابيب قلوبهم، وحالة الغضب بادية على وجوههم.
الحدث خطير ووقح، عملية اغتيال ينفذها عبدالرحمن بن ملجم في موقع ديني له حرمته وكرامته عند المسلمين، والاستهداف هو لشخصية دينية لا يضاهيها في مقامها وعلوها أحد من البشر، وهي في ذات الوقت الشخصية السياسية الأولى (حاكم الدولة الإسلامية).
فعليٌ هو حاكم الدولة الأول, وهو صاحب الزعامة الدينية التي لا يضاهيه فيها أحد, ومن يملك الهيمنة الدينية والهيمنة السياسية فقد ملك قلوب الناس وحكم عواطفهم.
فماذا سيصنع (وهو يمتلك تلك السلطات) إذا أوذي واستحل دمه وعلا السيف رأسه وسقط في مصلاه مضرجاً بدمه؟
أي بلاء سيحل بقاتله ومن يقفون وراءه؟ وبعائلته وأولاده ومن تربطهم علاقة بذلك المعتدي مهما كانت بسيطة؟
كان يمكن أن تنفلت الأمور إلى الفتنة وإلى خوض المسلمين في دماء بعضهم بعضاً، وإلى تمزق إسلامي داخلي ربما يؤدي للكارثة، لكننا نجد أنفسنا أمام مشهد آخر من هذا الرجل الذي خلد بمواقفه وحكمته.
فهو في لحظة المس به وإيذائه البليغ يحرك ما بيده من سلطة دينية وسياسية لحفظ مجتمعه بعيداً عن الزوبعات والاهتزازات والمصائب وإن كانت الحادثة هي تلك الحادثة التي يهتز لها العرش.
يحرك قوتيه السياسية والدينية في اتجاهين...
1- الأول إيقاف حالة الغضب والانتقام:
«إلا لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً... تقولون «قُتل أمير المؤمنين»، فلم يقبل أمام هذا الجرم الفادح أن يعرض السلم الأهلي للخطر وإن تهدمت أركان الهدى وانفصمت العروة والوثقى.
أن تتموج حالة غضب داخلية في المجتمع المسلم ضد بعضه بعضاً فهذا خطر قد لا يمكن السيطرة عليه في المستقبل، ولذلك كان رهان عليٍّ هو في وأد حالة الغضب، كي لا تصل النوبة لآثاره التي قد تبطش بالمسلمين وتزيد الفجوة والانقسام بينهم.
وهذا نابع من النظرة الحكيمة والأفق الواسع الذي يكشف للإنسان أن ردة الفعل وإن حققت شيئاً في لحظة ما، لكنها قد تخلف جروحاً غائرة في النفوس وفي المجتمع، وتولد ردات فعل لم تحسب بشكل مدروس.
ينقل الخوارزمي في المناقب أن عليّاً سأل عن ضاربه وأوصى به قائلاً «أطعموه من طعامي واسقوه من شرابي»، ومثل هذه الوصايا كانت تعيد الكثير من التوازن للمفجوعين بعليّ ، فالقضية لا تقف عند الحسن والحسين وإلا لهانت، فهما أعرف بتكليفهما، بل كان خوف عليٍّ هو أن تنفلت الأمور خارجهما إلى بني عبد المطلب وبقية المسلمين.
2- معالجة الموضوع بحكمة ودون مبالغة أو ضجيج، وقد عرض عدة معالجات.
الأولى: حال حياته فقال: «إنْ أبْقَ فأنا وليُّ دمي, وإنْ أفنَ فالفناء ميعادي, وإنْ أعفُ فالعفوُ لي قربةٌ ولكم حسنةٌ, فاعفوا (ألا تحبون أن يغفر الله لكم)».
وهذه الفقرة تبدد الكثير من الاحتقان الذي كان مهيمناً على قلوب بني عبد المطلب، فهو يشعرهم في كلامه أنه إنْ بقيَ حيّاً فالعفو أقرب الطرق وأحبها له.
الثانية: حال استشهاده فقال: «انظروا إذا أنا مُتُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثَّل بالرجل فإني سمعت رسول الله يقول إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور».
هكذا يحوِّل علي الحادثة إلى جرم له أحكامه وقوانينه في الإسلام، شأنه شأن أي جريمة من هذا النوع ترتكب مع بشر عادي لا يملك ما يملكه علي من سلطات (أعني دينية وسياسية)، فيبعد ذاته وكل ما يرتبط بها ويتحرك بحكمة ووعي باتجاه القانون، وفوق ذلك يعلن استعداده للعفو.
نحن بحاجة في قضايانا الاجتماعية العامة والخاصة لاستعادة حكمة عليٍّ وهدوئه ووعيه البعيد.