من دخله كان آمناً
الأمن في مكة ليس خاصة تكوينية لها، بمعنى أنه تستعصي المعصية والجريمة فيها، ولا يمكن أن يقع فيها القتل والدمار والرعب والخوف، ذلك لأن الأحداث التاريخية التي وقعت في مكة تكذب ذلك.
لقد تعرضت الكعبة المشرفة للهدم بالمنجنيق، واحترق جزء منها وتهدم، ووقعت فيها حروب أسالت الدماء وأزهقت الأرواح، وحصلت فيها حوادث خطيرة ومخيفة، ولعل أحداً لم ينسَ حادثة جهيمان وسيطرته على الحرم قبل نحو 30 عاماً.
أما اليوم فنحن نسمع الكثير عن السرقات التي يتعرض لها الحجيج من ضعاف النفوس، كل ذلك يكذب ويعارض أن يكون الأمن خاصة تكوينية لمكة المكرمة.
نعم الأمن الوارد في الآيات والروايات «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً» (البقرة: 125)، «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» (آل عمران: 97) سياقه سياق تشريعي، أي أن الله سبحانه وتعالى شرع خاصية الأمن لمكة بسنِّه لمجموعة من التكاليف والأحكام التي تحافظ على أمن ذلك المكان وطمأنينة الناس الموجودين فيه.
فجعل الحيوانَ فيه آمناً، والنبات آمناً، والإنسان آمناً، وفرض لدخول مكة لباساً (وهو الإحرام) ليشعر الإنسان أنه في بقعة ليس للسلاح فيها مكان، ولا للكذب ولا للسب والشتم ولا للتفاخر، ليعيش الناس في الأمن بأجلّ وأرقى صوره.
وهذا يعني أننا مطالبون شرعاً بحفظ الأمن والأمان في ذلك المكان، والعمل على أن تسود الطمأنينةُ نفسَ كل من يصل إلى تلك الديار المقدسة، وهذا لا يكون إلا إذا امتلأت أوقاتنا ومجالسنا وفضائياتنا وصحفنا وخطبنا بأحاديث الود والمحبة للآخرين.
بالطبع تبدل الجهات الرسمية جهوداً كبيرة لحفظ الأمن والأمان من السرّاق والمعتدين وأصحاب النفوس الضعيفة والإرهابيين، ولكن على العالم الإسلامي كله اليوم أن يبذل المزيد من الجهد لأن عالمنا الإسلامي يعيش ظروفاً استثنائية، من حيث ارتفاع منسوب التوترات الطائفية في نقاط عديدة من العالم العربي والإسلامي، ولذلك تجليات عديدة.
فأولاً: مازالت الصحف في عالمنا الإسلامي تتبارى في صب الزيت على النار، ومازال بعض الكتاب الذين لا يهمهم وضع الأمة يثيرون الضغائن ويتصيدون كلمة هنا وموقفاً هناك ثم يوجهون الناس بلغة تحريضية ضد هذا وذاك.
وثانياً: لازالت بعض المنابر والخطب تقذف الحمم والنيران وتثير العواطف وتشنع على الجميع، فكلما هدأت النبرة وخفتت الفتنة وجدت متطرفاً من هذا الطرف أو ذاك يحركها ويثيرها من جديد.
وثالثاً: ولازالت بعض الفضائيات تتقيأ سماً قاتلاً تبثه في عقول هذا الجيل الناشئ البريء.
وأخيراً: مواقع النت التي تبث الكراهية، والتي تسمم العقول وتخرب النفوس، إن علينا اليقظة والانتباه من هذا التشنج والضخ المريض.
فليس من مصلحة أمتنا أن تتحول إلى أمة متصارعة متحاربة، لا تقوى إلا على نفسها، إن كل صراع داخلي سيقطّع أوصال الأمة، ويحول المنتصر فيها إلى مهزوم ضعيف، لا يدرأ الأخطار والتهديدات عن نفسه.
وليس ذلك أيضاً من مصلحة الحجيج، لأن هذه الأجواء تؤدي إلى هيمنة الخوف والتوجس والقلق في نفوس الحجاج على حساب السمو الروحي والتحليق الوجداني.
علينا جميعاً أن نساهم في رفع التوترات وأن نسعى بمسئولية ووعي باتجاه أجواء المحبة والمودة.
يكفينا الزمن الذي دارت فيه أسطوانات الفتنة والفرقة، وعلينا أن نتجه لأيام الله ولحجاج بيته وكل قيم الدين وتعاليمه حاضرة في أذهاننا.