الخطبة الأولى: المهرجانات ومكاسبها الاجتماعية
الإمام علي (ع) ومعاناته الاجتماعية
الحمد لله الكريم الذي لا حدّ لجوده، والعظيم الذي لا نهاية لوجوده، قصرت العقول عن ادارك كنه عظمته، و كلّت الألسن عن بيان جمال صفته.
نحمده سبحانه حمدا لا يليق بغيره ولا يصلح لسواه، ونشكره تعالى على سابغ نعمه وقديم عطاياه.
ونشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له ولا ظهير، وليس له في تدبير ملكه معين ولا مشير.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين وخاتما للأنبياء والمرسلين.
اللهم صل على محمد أمينك على وحيك، و نجيبك من خلقك، وصفيك من عبادك، وعلى آله الأطهار، المصطفين الأخيار.
أوصيكم عباد الله ونفسي قبلكم بتقوى الله فقد جاء عن رسول الله : من أراد أن يكون أعز الناس فليتق الله عز وجل.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون﴾.
يصرف الإنسان في حياته لونين من الجهد والوقت، فهناك وقت يصرفه من أجل إدارة شؤون حياته، ومستلزمات وجوده، والجهد الآخر من أجل الترفيه عن نفسه، وكلا الجهدين ضروري لحياة الإنسان فهو لا يستطيع أن يتوفر على متطلبات العيش إلا إذا صرف جهدًا وبمقدار هذا الجهد تنتظم حياته.
اللون الآخر من الجهد يصرفه الإنسان من أجل الترويح عن نفسه، ولتصريف فائض الطاقة الكامنة لديه لأن الإنسان بشر له أحاسيس ومشاعر، وإجهاد نفسه يصيبه بالفتور فيحتاج إلى الترفيه ليريح نفسه، ويساعده ذلك على التخلص من فائض الطاقة الكامنة في ذاته. هذه الطاقة الفائضة تحتاج في تصريفها إلى قنوات مناسبة.
كما أن حالة الإنسان النفسية قد يعتريها الضجر والملل فيضعف نشاطه وإنتاجه, وهنا يحتاج إلى شيء من الترفيه لتغيير ونسيان ما يعكر صفوه.
عبر تاريخ الإنسان ترى ضمن تقاليد أي مجتمع نمطًا من البرامج الترفيهية والآية الكريمة التي جاءت في سياق قصة نبي الله يوسف حيث طرح أخوته على أبيهم النبي يعقوب أن يسمح ليوسف بالذهاب معهم لبرنامجهم الترفيهي «أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب» فكان طلبهم من أبيهم أن يأخذوا أخاهم يوسف ليلعب ويتنزه ويلهو معهم، وأبوهم النبي لم يستشكل على هذا الأمر، بل وافق وأرسله معهم.
وهذا دليل على أن الترويح عن النفس واللعب أمر مقبول شرعًا وإلا لما مارسه أولاد الأنبياء، ولما أقرّ الأنبياء ذلك، وفي الفقه أبواب لأحكام المسابقات والرماية. جاء عن الإمام الصادق إن النبي أجرى الإبل مقبلة من تبوك فسبقت العصباء وعليها إسامة، فجعل الناس يقولون: سبق رسول الله ورسول الله يقول: سبق أسامة. وفي رواية أخرى أن رسول الله أجرى الخيل وجعل سبقها أواقي من الفضة. وروى الإمام الصادق أيضًا: أن رسول الله كان يحضر الرمي والرهان.
وقد أصبحت المجتمعات تهتم بتوفير مجالات الترفيه وخاصة للشباب، لما لذلك من أثر ايجابي لصالح الأمن الاجتماعي, حيث تنخفض الجريمة والعنف والأمراض النفسية, بينما مجتمعات الكبت تكون معرضة للخطر أكثر من غيرها. ومن أبرز تلك المخاطر الأمراض النفسية التي تتولد نتيجة الكبت، وعدم تصريف الطاقة الفائضة بالشكل السليم.
في السنوات الأخيرة بدأ مجتمعنا يعتني بهذا الأمر بشكل بارز، فقد شهدنا عقد عدة مهرجانات يبرز فيها النشاط الترفيهي والتراثي والأدبي. هذه المهرجانات لها جوانب إيجابية كثيرة من أهمها: 1/ إبراز طاقات وكفاءات أبناء المجتمع، 2/ تعزيز روح العمل الجمعي والتطوعي، 3/ إعطاء صورة عن المجتمع وتاريخه وأعرافه وكفاءاته.
في مهرجان الدوخلة بتاروت كان أكثر من 1000 متطوع ومتطوعة مشتركين في أنشطته، وقد زاره أكثر من 250 ألف زائر. ومهرجان «واحتنا فرحانة» في القطيف زاره أكثر من 60 ألف زائر وشارك فيه مئات المتطوعين. وفي سيهات مهرجان الوفاء استقبل أكثر من 100 ألف زائر وعمل فيه مئات المتطوعين. هذه الأنشطة وجودها مهم ونأمل التفاعل معها أكثر رسمياً وشعبيا، حتى تحقق النفع للمجتمع.
كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأخيه عقيل رسالة ورد فيها قوله : «لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولا تحسبن ابن أبيك ولو أسلمه الناس متضرعا متخشعًا، ولا مقرًا للضيم واهنا».
يعتقد الشيعة بأن رسول الله قد نص على علي بالخلافة بعده، ولهم أدلتهم العقلية والنقلية على ذلك. ومن أجلى الأدلة النقلية وأبرزها حديث الغدير، لكن أخواننا أهل السنة يخالفوننا هذا الاعتقاد، ولهم أدلتهم وتأويلاتهم التي يعتقدون بها. وقد انتهى الأمر كواقع تاريخي فلا داعي للنزاع حوله، لكن من حق كل طرف أن يعبر عن رأيه، وفي موقع الحوار العلمي يمكن مناقشة المسألة، دون أن تكون سببا للصراع والنزاع، والانشغال عن المصالح الحاضرة.
من حق كل فئة أن تعبّر عن رأيها، ولا يحق لمن يعتقد بأن أمر الخلافة تُرك شورى للمسلمين يختارون خليفة لهم، أن يمنع عن التعبير عن الرأي الآخر.
السنة يربّون أبناءهم على ما يعتقدون، ومن حق الشيعة ذلك أيضًا. وينبغي مراعاة هذا الأمر في المناهج الدينية التعليمية، فلا يصح تعليم الأبناء عقيدة تخالف عقيدة آبائهم فيعيشون حالة إرباك وتشويش. إن مناهج الدين في المدارس الرسمية ينبغي أن تركز على المشتركات في عقيدة المسلمين وفقههم، أما إذا تعدت المشتركات فمن حق أي مذهب تعليم أبناءه منهجهم.
وإذا كان لابد من مناقشة الموضوع فيجب أن يدار النقاش حوله في دائرة أهل العلم، بنقاش علمي رصين، لأن هذا الأمر وإن كان قد انتهى ولا يمكن تغيير ما حصل في التاريخ، لكنه يترتب عليه أمور عقدية ومن حق كل فئة الالتزام بعقائدها التي تراها صحيحة. ولا ينبغي أن يدار الحوار في جو تهريجي يشغل الأمة عن أهدافها الرئيسية ومصالحها الحاضرة، ويشق عصا المسلمين، ويعبئ كل فئة على الأخرى.
الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ولده، والعلماء المصلحون الواعون لا يقبلون ذلك، لما يترتب عليه من آثار وخيمة. المرجع السيستاني حفظه الله في بيانه بتاريخ 14/1/1428هـ أكد على «التجنب عن إثارة الخلافات المذهبية، تلك الخلافات التي مضى عليها قرون متطاولة ولا يبدو سبيل إلى حلّها بما يكون مرضيًا ومقبولًا لدى الجميع، فلا ينبغي إذًا إثارة الجدل حولها خارج إطار البحث العلمي الرصين».
لسنا من دعاة إثارة الجدل حول الخلافة، لكن من حقنا الدفاع عن عقائدنا، ونرحب بالنقاش العلمي الهادف.
لماذا لم تلتف الأمة حول علي أكانت مكانته مجهولة؟ أما كان الصحابة يرون ويعرفون مكانة علي عند رسول الله ؟ أما سمعوا تلك الأحاديث في حق علي ؟ أما كانوا يرون كفاءته وعلمه، وشجاعته، وكل ما تميز به؟ لماذا لم يلتفوا حوله بعد وفاة رسول الله ولا حتى حين آلت إليه الخلافة؟ فحين بويع بالخلافة لم يكن الالتفاف حوله بالشكل المطلوب، كانت هناك حالة مؤلمة من التمزق والتمرد حتى قال : «فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ».
وحول الأوضاع التي عاشها أمير المؤمنين بعد أن آلت إليه الخلافة، يقول الأديب طه حسين: «كان علي لا يسد ثغرة إلا فتحت له أخرى، وأصحابه على ذلك ممعنون في العجز مغرقون فيما أحبوا من العافية، قد فُل حدهم، وكسرت شوكتهم، وطمع فيهم العدو البعيد، وأغري العدو المقيم بين أظهرهم».
يتعجب الإنسان حين يقرأ تاريخ أمير المؤمنين ويتألم لسوء تعامل الأمة معه، وهو صاحب المنزلة العظيمة عند الله ورسوله، لقد انفلتوا من تحت إمرته فلم يبق إلا الكوفة حتى قال : «ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك الله» مناطق كبيرة كالشام، ومصر واليمن، ومناطق مختلفة غلب عليها المتمردون، حتى الكوفة أغار عليها أبو مريم في جيش من الموالي المرتزقة ودنا منها فأرسل الإمام جنودًا لحربه فهزمهم المتمردون فاضطر الإمام أن يخرج بنفسه.
لماذا كل ذلك حصل في عهده، هل كان عنده نقص في قدراته الإدارية والقيادية؟
كلا، وألف كلا, أحاديث رسول الله وتاريخ علي المشرق كلها شهود على مكانته ومقامه السامي، ولكن من يدرس تاريخ علي بموضوعية يجد أن الظروف الخارجية لم تكن مساعدة، وذلك لعدة أسباب من أهمها: الالتزام المبدئي عند أمير المؤمنين حتى قال: «ما ترك لي الحق من صديق». من يساير الناس يجد مؤيدين، أما إذا التزم بالحق والذي لا يقوى على تطبيقه من حوله، فقد لا يجد من يلتف حوله.
أشاروا عليه أن يلتزم بما كان عليه من قبله، وأن يبقي معاوية على ولاية الشام، وأن يُرضي طلحة والزبير حتى يأمن تمردهما، لكنه رفض طريق المراهنة والمساومة على الحق والعدل وقال: «والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس» وقال: «أتأمُرونّي أن أطلب النصر بالجور؟».
ما كان في إدارته نقص، لكن الاتجاه المصلحي السائد، ورفضه لهذا النهج كان سبباً رئيساً لعدم التفافهم حوله. وكان ذلك ابتلاء عظيم من الله عز وجل. يقول : «ما زلت مظلومًا منذ قبض رسول الله ».
وعلي ما كان يتوقع حسب المعايير المنطقية أن الأمة سوف تتعامل معه بهذا الشكل، يقول : «فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل».
علي يعطي لكل المصلحين درسًا عظيمًا، أن لا يتخلوا عن مبادئهم رغبة في التفاف الناس حولهم. إتباع الناس فيما يريدون ومخالفة المبادئ والقيم الربانية غير صحيح ولا يعطينا عذرًا أمام الله عز وجل يوم القيمة. الإمام ثبت على نهجه المبدئي فانفض الناس عنه، وسبوه ولعنوه على المنابر عشرات السنين، ولكن ذلك لم يقلل من شأنه لا في نفسه ولا عند ربه عز وجل فما كان يهتم لذلك: «لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة».
فعلينا أن نتعلم درس الثبات على الحق من إمام الحق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .