الشيخ الصفار يتحدث عن البعد الغيبي في المعتقدات الدينية، قضية الإمام المهدي نموذجاً
أكد الشيخ الصفار في بداية حديثه بأن الأديان تمتاز عن غيرها من النظريات والأنظمة الوضعية بأن لها جانباً غيبياً (ميتافيزيقياً). مشيراً إلى أن الأنظمة الوضعية والنظريات العلمية عادة ما تكون وفق المحسوسات والقوانين والعادات المألوفة لبني البشر، أما الأديان فعادة ما يكون فيها جانبٌ يتناول ما وراء الطبيعة، ويرتبط بما خلف المحسوسات. وهذا الجانب متوفرٌ في اليهودية والنصرانية والإسلام بمختلف مذاهبه.وأضاف: إن الإيمان بقضية الإمام المهدي هي من القضايا التي ترتبط بما وراء المحسوسات، والنقاش حولها غالباً ما يأخذ مسارين:
الأول: ثبوت هذه القضية عن طريق النص أو عدمه. بمعنى: هل هناك نصوص تُثبت أن هناك إماماً غائباً مستتراً يخرج في آخر الزمان ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملأت ظلماً وجوراً؟
الثاني: الأدلة الحسية. بمعنى: هل من المعقول أن يعيش إنسان طول هذه الفترة من الزمن؟
وأكد أن هذا لا يُخالف العقل، وإنما هو يُخالف العادة والمعادلات الطبيعية التي ألفها البشر. ولكننا كمسلمين ليس كل ما نؤمن به وفق المعادلات الطبيعية، وإنما آمنا بها لوجود نصوص حولها. وقضية الإمام المهدي هي ضمن هذا السياق.
واستشهد الشيخ الصفار بقضية تاريخية يؤمن بها جميع المسلمين تتمثل في الحياة المميزة التي عاشها نبي الله عيسى ابن مريم وأنها تحمل جوانب خارج المعادلات الطبيعية حيث ولدته أمه من غير أب، وهذا ما يُثبته النص القرآني: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران، 59).
وكذلك الخاتمة التي اختتمت بها بقاء نبي الله عيسى على الأرض ليست وفق المألوف أيضاً، وهذا ما تُقرره الآيات القرآنية: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء، 157 – 158).
يعتقد المسيحيون أن نبي الله عيسى ابن مريم قد صُلب، وهذا ما تؤكده الأناجيل الأربعة، ولكن الآيات القرآنية تُنكر هذا الأمر، وتُعلن أن المسألة فيها شبهة، وأن الذي قتل ليس نبي الله عيسى ، حيث يحتمل أن الذي قُتل هو (يهوذا) الذي يحمل شبهاً بنبي الله عيسى ، وتؤكد الروايات أن (يهوذا) هو الذي وشى على نبي الله عيسى عند اليهود، وأنه فقد بعد الحادثة.
ويُضيف الشيخ الصفار: إذا كان نبي الله عيسى لم يُقتل، فأين هو؟ تُجيب الآيات القرآنية: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾، وقد اختلف علماء المسلمين في تفسير هذه الآية: هل أن نبي الله عيسى مات وبعدها رفعه الله إليه؟ هل أن رفعه كان بالروح والجسد أم بالروح فقط؟
يجيب الشيخ الصفار قائلاً: رفعه الله إليه بروحه وجسده، لأن الآية الكريمة تقول: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ وهذا تعبيرٌ شامل يشمل الروح والجسد، ولكن هل بعد وفاته أم لا؟ الآية لا تحمل إشارة إلى أن نبي الله عيسى قد مات، بل إن الآية جعلت رفعه بديلاً عن حالة القتل.
ويُشير الشيخ الصفار أن هناك آياتٌ من القرآن أوجدت لبساً في فهم الآية الكريمة، ومنها قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ (آل عمران، 55)، فأحدثت هذه الآية اختلافاً عند المفسرين، بعضهم قال إن هناك تقديماً وتأخيراً في هذه الآية، حيث أن كلمة (متوفيك) جاءت قبل (رافعك إلي) والمعنى أن الله تعالى يُخلّص نبيه من القتل وفيما بعد يتوفاه. ومتى يكون ذلك؟ يتفق المسلمون على أن نبي الله عيسى يخرج في آخر الزمان وسيُصلي خلف الإمام المهدي المنتظر، وهذا ما تؤكده الصحاح، فقد جاء في صحيح البخاري أن رسول الله قال: «كيف بكم إذا نزل فيكم عيسى ابن مريم وإمامكم منكم».
وهناك رأيٌ آخر عند المفسرين وهو: إن معنى (متوفيك) ليس الموت، وإنما بمعنى الاستيفاء، كما تقول: فلان استوفى دينه. والبعض قال: إنها تعني النوم.
وخلاصة القول: أن المحققين من المسلمين يعتقدون أن نبي الله عيسى ابن مريم حيٌّ كما تُثبته النصوص والأحاديث الواردة عن رسول الله كقوله : «إن عيسى حيٌّ لم يمت، وسيرجع إليكم ويُصلي خلف إمامكم».
ولكن كيف سيعود نبي الله عيسى ؟ إما أنه لا يزال حياً، وهذا خلاف المألوف أن يعيش هذه المدة الطويلة، أو أنه مات وسيبعثه الله تعالى، وهذا أيضاً خلاف المألوف، فالقضية ليست قضية مادية محسوسة، وإنما فيها جانب إعجازي غيبي.
وأضاف الشيخ الصفار: إن قضية الإمام المهدي ينبغي أن تُناقش من خلال هذه الزاوية، بمعنى أن المسألة لها جانبٌ غيبي إعجازي. فمن ثبت له هذه المسألة، وهو رأي الشيعة، يؤمنون به ويتعبدون الله تعالى بذلك، ومن لم تثبت لديه هذه المسألة لا يخرج من الإسلام، لأن هذه القضية جزئية في الإسلام.
وبين الشيخ الصفار الرأي الإمامي في هذه المسألة وهو: أن الشيعة يعتقدون أن الإمام المهدي ولد في الخامس عشر من شهر شعبان سنة 255هـ، وقد أخبر بولادته أبوه وأمه وعمته حكيمة والخدم الموجودين في البيت، وقد كتب الإمام العسكري رسائل عديدة لخلص الشيعة وشخصيات أسرته يُخبرهم بولادة الإمام المهدي ، كما أن كثيرين قد رأوه وتحدثوا عن ذلك. إضافةً إن بعض المصادر السنية أثبتت ولادته كالصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي.
ويُضيف: بالنسبة لبقاء الإمام هذه المدة الطويلة هناك نصوصٌ من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهم عندنا معصومون وكلامهم حجة.
إضافةً إلى ذلك كله، يقول الشيخ الصفار: هناك نصوصٌ يرويها السنة والشيعة تتحدث عن الخلفاء الإثني عشر، ومنها قوله : «يكون بعدي إثنا عشر خليفة كلهم من قريش»، «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش»، وهذا الرقم (12) لا ينطبق بالشكل المعقول المقبول كما تنطبق على هذه السلسلة الطاهرة من أئمة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم). وإذا لم نؤمن بهذه السلسلة لن نجد مصداقاً معقولاً مقبولاً لهذه الأحاديث النبوية.
وكذلك الروايات التي ثبتت عن رسول الله والتي يُوصي فيها الأمة بالتمسك بالثقلين: «إني مخلفٌ فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، وهذا الحديث يؤكد ضرورة وجود الكتاب والعترة إلى يوم القيامة وإلا لما أمر رسول الله بالتمسك بهما معاً، وإذا افترضنا أنه في وقتٍ من الأوقات لا يكون أحدهما موجوداً، خصوصاً وأن الفترة الزمنية التي تلت عهد الإمام العسكري هي أطول فترة من سنة 260هـ وإلى يومنا هذا، وبالتالي عدم الإيمان بالإمام المهدي ينفي مصداقية الحديث الشريف.
وهناك نصوصٌ أخرى تؤكد أيضاً أن الأرض لا تخلوا من حجة لله، وبناءً عليه: نحن نعتقد أن لابد من وجود حجة وإمامٍ يحتج به الله تعالى على الناس.
لهذه الأدلة وأمثالها نحن نعتقد بوجود الإمام صاحب العصر والزمان ، أما إخواننا أهل السنة يعتقدون أنه بعد لم يولد.
ونحن جميعاً نتطلع إلى ذلك اليوم الذي يظهر فيه الإمام بالفعل، وحينئذٍ سيتفق السنة والشيعة، ويجتمع المسلمون كلهم على إمامته، بل البشرية كلها، وما نزول نبي الله عيسى وصلاته خلف الإمام المهدي إلا مؤشراً على أن المسيحيين في العالم كلهم سيكونون تبعاً للإمام المهدي وبالتالي سيكون ذلك مصداقاً للآية الكريمة: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة، 33).