تأملات في إحياء عاشوراء

عاشوراء هو اليوم الذي قُتل فيه سيد الشهداء أبو عبدالله الحسين سبط رسول الله وريحانته وحبيبه. وهذا الاسم لم يكن معروفاً عند العرب من قبل، بل أطلق على اليوم الذي استشهد فيه الحسين كما تشير إلى ذلك بعض الآراء. الشيعة يحتفون في كل عام بهذا اليوم العظيم ويتخذونه يوم حزن ومصاب ويعزون فيه رسولَ الله بحبيبه الحسين ، ويعزون فيه أهل بيت النبوة ، فلماذا هذا الإصرار على تعظيم هذا اليوم، والاستمرار على إقامته كمأتم وعزاء؟

1ـ أهمية التذكير بعاشوراء

في بحث مفصل وجميل لسماحة الشيخ حسن الصفار في كتابه: (الحسين في وجدان الأمة) يشير إلى أن عاشوراء هو يومٌ من أيام الله عز وجل وينبغي التذكير به، كما في الآية المباركة: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[(1)]. وفي بحثه عن معنى اليوم، وأيام الله، يقول: «كل الأيام لله، ولكن نسبة بعضها لله يدل على تعظيمها وتشريفها، مستعرضاً رأي العلماء والمفسرين في تعريف أيام الله، ومنها:

- أنها أيام انتصارات الأنبياء والمؤمنين على الطغاة المعاندين، أي أيام تحقق نصر الله.
- أنها أيام نزول غضب الله على الكافرين، أي أيام تحقق وتجلي قدرة الله.
- أنها أيام وقوع حدث مصيري يغير تاريخ أمة.

وهذه كلها تنطبق على يوم عاشوراء،  لذا فالتذكير به أمر في غاية الأهمية»[(2)].

مؤكداً أن إحياء الذكرى عرف اجتماعي، فأغلب الدول تحتفي بيوم استقلالها، أو بأي حدث كان فيه تحول مصيري، حتى المملكة العربية السعودية ـ التي تتبع النهج السلفي الذي يحرم مثل هذه الاحتفالات ـ أصبحت تحتفي باليوم الوطني، وذلك لمَّا رأت الحاجة ماسة لترسيخ الهوية الوطنية في نفوس المواطنين.

ملفتاً إلى أن القرآن الكريم لم يُشر إلى كيفية معينة للتذكير بأيام الله حتى يرى البعض أن الاحتفال بشكل منتظم ومبرمج بأي مناسبة ـ تاريخية أو اجتماعية أو دينية ـ بدعة في الدين! مفنداً استشهادهم بحصول ممارسات خاطئة بأن هذا استدلال غير علمي ولا موضوعي، فهناك برامج دينية يتفق عليها الجميع وقد دخلها بعض الممارسات الخاطئة، فهل نمنعها؟ هل نمنع الحج إذا صارت فيه ممارسات خاطئة من قبل الحجاج؟

2ـ رسول الله يحتفي بعاشوراء

إن ما يدعونا إلى إقامة عاشوراء الحسين والاحتفاء به، الاقتداء برسول الله وهو الذي احتفى بعاشوراء قبل حدوثها. والشواهد على ذلك كثيرة. من ذلك ما يذكره الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث ـ وهي لبابة زوج العباس بن عبد المطلب أولُ امرأةٍ أسلمت في مكّة بعد أم المؤمنين خديجة  ـ تقول أنها دخلت يوماً على رسول الله  فقالت: يا رسول الله، إني رأيت حلماً منكراً الليلة، قال: «ما هو؟»، قالت: إنه شديد، قال: «ما هو؟»، قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري. فقال رسول الله : «رأيت خيراً، تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك» فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري، كما قال رسول الله ، فدخلت يوماً إلى رسول الله  فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله  تهريقان من الدموع، قالت: فقلت يا نبي الله، بأبي أنت وأمي ما لك؟ قال: «أتاني جبرئيل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا. فقلت: هذا! فقال: «نعم» وأتاني بتربة من تربته حمراء».

وهذا حديث يصححه المحدث الشيخ محمد ناصرالدين الألباني ويشير بأن له شواهد كثيرة، منها ما جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا وكيع قال: حدثني عبد الله ابن سعيد عن أبيه عن عائشة أو أم سلمة، أن النبي   قال لإحداهما: «لقد دخل عليّ البيت ملك لم يدخل عليّ قبلها، فقال لي: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء».

ومما يدل على كثرة أخبار رسول الله عن مقتل الحسين بكربلاء يوم عاشوراء قول ابن عباس: ما كنّا نشكُّ وأهلُ البيت متوافرون أن الحسين يقتل بالطف. فرسول الله يحدد للأمة يوم ومكان مقتل سبطه الحسين ويبكي لذلك مرات يعني كلما تذكره أو نُعي إليه هذا الخطب بكى.

ورواية أخرى عن ام سلمة قالت: سمعت بكاء النبي في بيتي فاطلعت فإذا الحسين بن علي في حجرة وهو يمسح على رأسه ويبكي!!

قالت: فقلت: يارسول الله على ما بكاؤك؟!

فقال إن جبرائيل أخبرني أن ابني هذا يقتل بأرض من العراق يقال لها كربلاء.

قالت: ثم ناولني كفاً من تراب احمر وقال: إن هذه تربة الأرض التي يقتل بها فمتى صارت دماً فاعلمي أنه قد قتل.

قالت أم سلمة:فوضعت التراب في قارورة عندي وكنت أقول: إن يوماً تتحول فيه دماً ليوم عظيم...

3ـ أهل البيت وعاشوراء

حتى أهل البيت الكرام كانوا يحتفون بعاشوراء قبل وقوعها وبعد وقوعها، كيف لا وهم خير من يقتدي برسول الله . ومن ذلك ما روي في مسند الإمام أحمد بن حنبل، عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، أنه سار مع علي، وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، فنادى علي: اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله، بشط الفرات، قلت وماذا؟ قال : دخلت على النبي   ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله، أأغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك إلى أن أُشمك من تربته؟ قال: قلت: نعم. فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا.

ـ الإمام زين العابدين وهو الذي كان حاضراً في عاشوراء ولكن المرض أعياه وأقعده عن نصرة أبيه الحسين وما ذاك إلا ليحفظ الله به الإمامة. كان كثير البكاء على ما جرى في كربلاء من أبشع الجرائم في حق عترة رسول الله . يقول الإمام الباقر بكى علي بن الحسين عشرين أو أربعين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له  مَوْلًى لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ!

قَالَ: ﴿إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ، إِنِّي لَمْ أَذْكُرْ مَصْرَعَ بَنِي فَاطِمَةَ إِلَّا خَنَقَتْنِي لِذَلِكَ عَبْرَةٌ".

وفي رواية أخرى يقول الباقر : «ولقد كان بكى على أبيه الحسين عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: يا ابن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟

فقال له: ويحك، إن يعقوب النبي كان له اثنا عشرة ابناً، فغيب الله عنه واحداً منه، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟»

وكان إذا أخذ إناء ليشرب الماء ـ تذكر عطش أبيه الحسين ومن معه ـ فيبكي حتى يملأها دمعاً.

فقيل له في ذلك. فقال: «وكيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش وكان يقول للقصاب وهو يذبح الشاة اسقها فقد ذبح أبي عطشاناً ثم يقول:

لا تذبح الشاة حتى تروى من ظمأٍ ويقتل   ابن  رسول  الله  عطشاناً

ـ الإمام جعفر بن محمد الصادق يقول: يا ابا هارون أنشدني في الحسين ، قال: فأنشدته، فبكى، فقال: انشدني كما تنشدون - يعني بالرقة - قال: فأنشدته:

أُمرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكيّة
يا  أعظما  لازلت  من  وطفاء  ساكبة  iiرويّه
ما   لذّ  عيشُُ  بعد  رضك  بالجياد  iiالأعوجية
قبرُُ    تضمّن    طيّبا...   آباؤه   خير   iiالبريّة

ـ الإمام علي بن موسى الرضا ينصب مأتماً للإمام الحسين في العاشر من المحرم ويأمر من في البيت بالحضور، ثم يأمر الشاعر دعبل الخزاعي أن يرثي الإمام الحسين ويبكي وهو يستمع إليه.

ـ وهكذا حتى حجة الله المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف يبكي ويقول: فلأندبنك صباحاً مساءً، ولأبكين عليك بدل الدموع دمًا.

ـ بل كان أهل البيت يؤكدون هذا الأمر ويشجعون عليه حتى بالبكاء ولو بقدر جناح بعوضه، بل يشجعون على التباكي. عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «ما من عين ذرفت على مصاب جدي الحسين ولو قدر جناح البعوضة إلا بوأه الله في الجنة غرفاً يسكنها أحقابًا».

من هنا فنحن نقيم عاشوراء في كل عام، ونبكي في كل عام، بل كلما مرّ اسم الحسين ومصابه ومصاب من معه. بعد كل ما مرّ لا ينبغي أن نُسأل لماذا نحيي عاشوراء، بل ينبغي للطرف الآخر أن يسأل نفسه، لماذا لا نحيي عاشوراء؟

4ـ تأملات

وهنا بعض الأمور لا بدَّ من التأمل فيها:

- تكرار الحدث لرسول الله : من يقرأ الأحاديث التي وردت في أمر عاشوراء ومقتل الحسين بن علي يلحظ أن الأمر تكرر أكثر من مرة على رسول الله . مرة يروى عن أم الفضل. ومرة في بيت أم سلمة أو عائشة. وأخرى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . أحيانًا يقول نزل عليّ جبرئيل ، ومرة يقول مَلَك لم ينزل عليّ من قبل قط.

إذًا فالأمر ذُكرّ به رسولُ الله من قبل الله عز وجل أكثر من مرة، ورسول الله أخبر من حوله أكثر من مرة. حتى صار شائعًا عندهم أن الحسين يقتل بالطف.

- بكاء النبي. في كل مرة نعي الحسين إلى رسول الله كان يبكي، وكان يشم تربته ويبكي، ويريها من يسأله، حتى إن أم سلمة احتفظت بتلك التربة في قارورة.

- بكاء السماء والحَجَر والشجر وكل شيء دمًا في يوم مقتل الحسين وهذا ثابت عند الطرفين.

- كما يوجد عند الشيعة روايات كثيرة تدل على أن الله تعالى أخبر أنبياءه عن مقتل الحسين ، وبكاؤهم على ذلك.

- الإخبار عن رسول الله ، فكل من سمع ورأى رسول الله في حالة بكائه على الحسين روى عنه هذا الأمر.

- إقامة العزاء من قبل أئمة أهل البيت وبكاءهم على ذلك.

- الطلب من شيعتهم أن يحيوا ذكرى عاشوراء، وأن يبكوا لمصاب الإمام الحسين ، بل وأكثر من ذلك يتباكون. ووعدوا من يقوم بذلك بثواب الله عز وجل.

- إصرار الشيعة على إحياء هذه المناسبة مع ما ينالهم من أذى وضرر من قبل الآخرين.

- قضية البكاء على الإمام الحسين أمر غير عادي، وذلك لعدة أمور:

أولها: أنه ما تُلي خبر مقتله على ذي قلب سليم إلا وبكى، حتى أهل السنة الذين يرون الاحتفاء بعاشوراء يبكون بدعة إذا تُلي عليهم قصة مقتله . وقد ذكر الشيخ سعد البريك في حديثه مع الشيخ حسن الصفار في لقاء قناة دليل أنه قرأ مقتل الحسين فبكى وبكى معه من كان حاضرًا.

ثانيها: أن يبكي الإنسان مرة لحدث مريع ومشهد فظيع، فذاك أمر طبيعي، ولكن أن يمر عليه المشهد ووما يدور حوله من حديث أكثر من مرة وفي كل مرة يبكي وهو يعلم بكل تفاصيل الأمر فهذا أمر غير طبيعي. جرّب أن تشاهد مشهدًا حزينًا في فلم ما، سوف تبكي في المرة الأولى والثانية، ولكنك إذا شاهدته عشرين مرة فلن تبكي، لكن من يسمع مصاب الحسين لو سمعه طول عمره سيبكي كما لو أنه سمعه لأول مرة. كما أن من يجسد الدور قد يتفاعل في المرة الأولى والثانية، ولكن أن يبقى طول عمره يكرر المشهد ولو كل عام مرة فسوف يملّ، لكن من يقرأ مأساة الحسين يقرأها وكأنه يقرأها على الناس لأول مرة، وهذا أمر غير طبيعي أيضًا.

ولا عجب أن يبكي الشيعة أكثر من مرة كلما قرؤوا سيرة الحسين ، وقد بكى رسول الله والأئمة أكثر من مرة، بل إن الإمام زين العابدين عاش طول عمره يبكي على الحسين .

ثالثها: اعتاد الشعراء أن يكتبوا قصائد في الأحداث المهمّة، وفي الشخصيات البارزة إما مدحًا أو رثاءً، ولا يستطيعون أو لا يأنسون بأن يكتبوا في ذات الحدث أكثر من قصيدتين أو ثلاث، ولكن الموالي لآل البيت مستعد أن يكتب كل عام قصيدة أو أكثر في مصاب الإمام الحسين، وكلما مرّت به السنون تراه ينافس من أجل التجديد في القصائد.

ـ على أخواننا أهل السنة أن يتأملوا مليًّا في قضية عاشوراء، وإذا كانوا يختلفون مع الشيعة في الطقوس التي يمارسونها فهذا لا يعفيهم من ذلك، فما عندهم من روايات صحيحة في كتبهم حرِيَّة بالتأمل.

ـ كل ما يحيط بقضية عاشوراء أمر غير عادي، فليس هناك واقعة إسلامية تماثلها شكلًا ومضمونًا وتفصيلًا، وبدل أن يتم التهجم على من يحيها ويتفاعل معها، أن يطرح هذا السؤال: ما سر هذه الأمور العجيبة في هذه القضية؟ القضية تحتاج إلى تأمل عميق، والاستفادة من كل ما يدور حولها.

16/12/2010م.
[(1)]. سورة إبراهيم، الآية: 5.
[(2)]. انظر: الصفار: حسن موسى، الحسين في وجدان الأمة، مكتب الشيخ حسن الصفّار ـ القطيف، ط1، 1429ﻫ ـ 2008م، ص 12 ـ 14.
كاتب وشاعر