نهج القيادة النبوية
في الخطبة الأولى:
ـ منهج اللين والجذب في القيادة هو النهج الرباني الصحيح.
ـ كيف تعامل رسول الله مع المعارضين؟
في الثانية:
ـ الرسول تحمّل معاناة التغيير الرسالي.
ـ كان رسول الله يبعث روح الأمل في النفوس وقت الازمات.
ـ حركة التاريخ باتجاه القيم الصحيحة العادلة.
قال الله تعالى: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين﴾.
ونحن نستقبل ذكرى المولد النبوي الشريف، لابد لنا أن نستحضر شيئًا من سيرة رسول الله لنتأسى بسيرته العطرة، ونستفيد من هديه ومنهجه المبارك، فقد أمرنا الله تعالى بالتأسي به : (ولكم في رسول الله أسوة حسنة).
سيرة رسول الله حياة رحبة من الفضائل والمكارم، وعالم واسع من الدروس والعبر التي لا تستغني عنها البشرية في كل عصر وجيل، ومن تلك الأبعاد منهجيته في القيادة.
لرسول الله منهجية عظيمة في القيادة، يحتاجها كل قائد في أي موقع من مواقع القيادة. فالأب قائد في الأسرة، ورب العمل يقود الموظفين، وكذلك الزعيم في جماعة، والحاكم في شعب، كل هؤلاء وغيرهم ينبغي أن يستفيدوا من سيرة رسول الله في القيادة. فكيف كان يمارس القيادة في أمته ومجتمعه؟
كل قائد في أي موقع يريد ممن حوله الطاعة، والانسجام والتآلف معه، ولكن كيف يكون ذلك؟
هناك منهجان بارزان وهما منهج الفرض، ومنهج الإقناع والجذب.
إذا أخذنا الأب مثلًا كقائد في أسرته، فإنه يريد من أفراد أسرته أن يطيعوه، وان يكونوا في سيرتهم كما يرغب ويراه صالحًا. ولكن كيف يحقق الأب هذا الأمر في أسرته؟
إما أن يختار منهج الفرض باعتباره في موقع القوة فيفرض طاعته والالتزام بمنهجه، أو أن يتخذ منهج الجذب والإقناع ويكون قادرًا على تحفيزهم وحثهم على ما يريد، وهكذا الحال في كل مجال من مجالات القيادة.
وباستقراء تاريخ رسول الله يتضح جليًا أنه اختار النهج الآخر، وهو نهج الجذب والإقناع، نهج اللطف واللين، وذلك بتوجيه من الله تعالى، لكي يعطي الدرس لكل قائد وخاصة من يكون في موقع قيادة الأمة، وموقع الحكم والسلطة، عليه أن لا يعتمد على القدرة والقوة في ممارسة سلطته، بمقدار ما يعتمد على الجذب والترغيب: (فبما رحمة من الله لنت لهم) كان رسول الله ليّنًا في تعامله، فكانت له محبة عند الناس وهيمنة على نفوسهم، (ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك) حينما يكون القائد فظًا أي خشن الكلام، وقاس في عباراته وألفاظه، أو غليظ القلب يعني شديد القسوة في تعامله، فإن ذلك ينفّر الناس منه.
كان رسول الله يواجه أعداءً خارج دائرة الإسلام كاليهود والمشركين، وهناك أعداء داخل دائرة الإسلام، كانوا يسيئون التعامل مع النبي ويسعون للاضرار بمصالح الإسلام والأمة وهم المنافقون الذين تحدث عنهم القرآن الكريم في كثير من آياته، وفيه سورة كاملة باسمهم وهي سورة (المنافقون).
المنافقون أناس يعيشون مع المسلمين ظاهرهم الانتماء إلى الدين الإسلامي، والولاء لرسول الله ، ولكن باطنهم المعادة للإسلام وللنبي ، وما كانوا قلة، كان منهم من هو سطحي في نفاقه وهم من أهل البادية، ومنهم من تمرن وتمرس على النفاق وهم من سكان المدينة. يقول تعالى: ﴿وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق﴾ فكيف تعامل مع هؤلاء وهم على باطل؟
لقد أذِن الله تعالى لنبيه أن يتعامل مع المنافقين تعاملًا قاسيًا حتى يردعهم ﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير﴾ جاءت هذه الآية مرتين بنفس النص في سورتي التوبة والتحريم، ولكن الأمر في الآية لم يكن إلزاميًا، فالأمر بيد رسول الله ، فاختار أن يتعامل معهم باللين لا بالخشونة والقسوة بالرغم من كثير مما كان يعاني منهم، فلم يرو لنا التاريخ حادثة واحدة أن رسول الله قتل أحدهم، أو سجنه، أو عذبه، أو طرده، بل كان لهم مجال المشاركة في صلاة الجماعة مع المسلمين، وفي الحروب والغزوات، ويأخذون نصيبهم من غنائم الحرب، ولكن لماذا؟
لأن رسول الله كان يدرك أن منهج الجذب واللين والعطف هو المنهج الصحيح، وهو المنهج الرباني الرحيم.
أولًا من أجل الحفاظ على وحدة المجتمع وعلى وحدة الأمة، فحينما يستخدم القمع والقوة ضد أحد في المجتمع فان ذلك يوسع الشق بين الناس في المجتمع وهناك من سيتعاطف مع هذا المقموع سواء كان على حق أو على باطل. وقد أشار رسول الله إلى هذا الجانب حينما اقترح عليه عمر بن الخطاب قتل أحد المنافقين، وذلك عندما عاد المسلمون من غزوة بني المصطلق وبسبب خلاف بين مهاجري وأنصاري صار عبدالله بن أبي يؤلب على رسول الله وتحدى أن يخرجه من المدينة: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) ساد الغضب المسلمين وجاء عمر يقول لرسول الله : دعني اضرب عنق هذا المنافق. ولكن رسول الله رفض، فقال عمر: إن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر أنصاريًا أن يقتله. فقال رسول الله : «إذًا ترعد له أنوف كثيرة بيثرب». هذا الرجل وإن كان على باطل لكن هناك من سيتعاطف معه، وهناك من سيدافع عنه، وقد تحدث القرآن الكريم عن وجود بعض المسلمين ممن لم يفهموا حقيقة المنافقين (ما لكم في المنافقين فئتين) فلو استخدم العنف مع المعارضين لحصلت انشقاقات في المجتمع الإسلامي الوليد.
ثانياً: لحفظ سمعة الإسلام والدعوة وذلك يتبين من قول رسول الله لبعض الصحابة حينما اشاروا عليه بقتل أحد المنافقين قال : «دعه لا يتحدث الناس ان محمداً يقتل اصحابه».
لو استخدم رسول الله العنف لعمق الخلاف بين المسلمين، وأعطى فرصة للكفار، ومن ناحية أخرى يعطي صورة مشوهة عن الإسلام. ولذا اختار طريق الاستيعاب والسماحة استجابة لله تعالى: ﴿فاعفوا عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر﴾.
إنه درس عظيم ومنهج حكيم، يحتاج إليه الأب في عائلته، والزعيم في جماعته، والحاكم في شعبه. وما نسمعه الآن على المستوى العالمي من رفض لاستخدام العنف والقوة مع الناس إنما يؤكد سلامة وصحة هذا المنهج الذي سلكه رسول الله .
قد يستشكل إنسان، لماذا خاض أمير المؤمنين معارك ضد المخالفين، حيث حرب الجمل، وصفين، والنهروان. والجواب أنه دخلها مكرهًا مضطرًا، وكان يسعى أن لا تكون، ولو لم يبدأوا استخدام العنف لما خاض الحرب وقاتلهم، وقد خاطبهم بنفسه: (لكم علينا أن لا نمنعكم دخول المساجد، ولا نقطع عنكم الفيء ولا نقاتلكم ما لم تثيروا فتنة). وكان أيضًا يحاورهم حتى يتراجعوا عن التوجه للقتال كما في حرب الجمل، وكذلك في صفين حيث بذل كل جهده في المراسلات والوعظ والإرشاد والحوار والمناظرة، وقد أعطاهم حريتهم في التعبير عن الرأي، ولكن حينما رفعوا السيف، وبدءوا القتال حاربهم. هذا هو منهج الإسلام، وحري بالمسلمين في أوطانهم وحكوماتهم أن يتوخوا هذا المنهج حتى لا يعطوا عن المسلمين صورة مشوهة بأنهم يتهاونون بسفك الدماء ويقمعون من يخالفهم في الرأي، فهذه ليست الصورة التي ينبغي أن تكون عن الإسلام والمسلمين.
نسأل الله أن يوفق المسلمين أن يتمسكوا بسيرة رسول الله، وأن يسيروا على خطاه، وأن يصلح ما فسد من أمور المسلمين.
ورد عن جابر بن عبدالله الأنصاري (ر) قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة (أي صخرة) فجاءوا إلى النبي فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق، فجاء فأخذ المعول فقال: " باسم الله " ، فضرب ضربة فنثر ثلثها، وقال: " الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة! " ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: " الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، وإني والله لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن " ضرب الثالثة فقال: "باسم الله" ، فقطع بقية الحجر فقال: "الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة".
واجه رسول الله في مسيرته القيادية والدعوية محنًا شديدة، وظروفًا قاسية صعبة، ولم تكن الأمور في يسر وسهولة، فقد عانى في مكة من المشركين، وفي المدينة من مختلف الأطراف كاليهود والمنافقين، ومن تلك المواقف والمحن الصعبة التي مرّ بها، غزوة الخندق، والتي تعرف أيضًا بغزوة الأحزاب، حيث اجتمع الكفار والمشركون أحزابًا ضد رسول الله فتحالف اليهود مع أكثر القبائل العربية كقريش، وغطفان، وبني مرة، وبني المصطلق، وبني فزارة، وغيرهم، فكونوا جيشًا قوامه عشرة آلاف مقاتل، مقابل ثلاثة ألاف مجاهد مع رسول الله . وكان المسلمون في ذلك الحين يعيشون الفقر والعوز والحاجة الاقتصادية، كان يمرّ على المقاتلين اليوم واليومان وما عندهم طعام يأكلونه، حتى ربط رسول الله حجر المجاعة على بطنه. فكان يصعب على المسلمين مواجهة ذلك الجيش الجرار، فاقترح سلمان الفارسي حفر الخندق حتى لا يستطيع جيش المشركين أن يزحف على المسلمين، وكانت هي الوسيلة الوحيدة التي يملكونها ليأمنوا عدوهم، ومع هذه الظروف القاسية الخطيرة فان رسول الله كان يحدث اصحابه عن انتصارات قادمة وهي فتح الشام وفارس واليمن, حتى لا يفقد المسلمون ثقتهم بالله وبانفسهم في مواجهة اصعب الشدائد والازمات.
وقبل ذلك يوم كان رسول الله في مكة المكرمة يعاني اشد الاذى من المشركين لكن ثقته بالله كانت عظيمة, وكان يبث روح الامل والثقة في نفوس من حوله. ومن اقسى الشدائد ما عاناه من حصار المشركين له ولاسرته في شعب ابي طالب والذي استمر ثلاث سنوات.
روى البلاذري عن ابن عباس قال: حُصِرنا في الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنا المِيرة حتى إن الرجل ليخرج بالنفقة فما يبايع حتى يرجع، حتى هلك من هلك. وقال ابن إسحاق وغيره: فأقاموا على ذلك ثلاث سنين حتى جهدوا، ولا يصل إليهم شيء إلا سراً مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش. حتى أكلوا ورق الشجر اليابس ليدرأوا به غوائل الجوع، وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب يتضورون من الجوع.
وقد لاقى العنف والقسوة من أهل الطائف أثناء سفره إليهم، قال ابن عقبة: وقفوا له صفين على طريقه، فلما مر رسول الله بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه. وزاد سليمان التيمي: أنه كان إذا اذلقته الحجارة يقعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه ويقيمونه فإذا مشى رجموه بالحجارة وهم يضحكون.
كانت ظروفًا صعبة تلك التي عاشها رسول الله والمسلمون معه، وهنا يتجلى دور القائد الحكيم، الذي يستطيع بعث روح الأمل في أوقات الصعوبات والشدائد، فكل مجتمع يمر بالأزمات والشدائد، وقد يكون العدو أقدر وأكثر عدة، وقد يستطيع أن يوقع بهم مجزرة أو نكسة، ولكن على القائد، أن يشد من عزم أتباعه، ويبعث فيهم القوة، اولاً: لأن الإنسان المؤمن إنما يعمل من أجل الله والمسألة تتجاوز مقاييس الربح ولخسارة، فهو يقصد إحدى الحسنين، اما النصر أو الشهادة ويريد ثواب الله تعالى، فليس مهمًا لدى الإنسان المؤمن والفئة المؤمنة أن يتحقق المأمول فورًا، ولكن المهم هو أداء الواجب الذي يرتضي الله تعالى.
ثانيًا ما دام المؤمن يدافع عن الحق فإن الحق سينتصر أخيرًا لأن الحق يعلوا ولا يعلى عليه، وإذا كان للباطل دولة وصولة، فإن للحق عزة وغلبة ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾، ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. حركة التاريخ هي باتجاه القيم الصحيحة، قيم الحق والعدالة والحرية، لذلك يتجاوز المؤمن المحن مهما كانت مؤلمة، ونحن دائمًا نعيش في مدرسة أهل البيت الذين أرسوا مبدأ أن الدم ينتصر على السيف. قتل الإمام الحسين ، ولكنه انتصر، بالرغم من كل ما حصل في كربلاء، ورغم كل ما وقع على أهل البيت لكنهم كانوا ينظرون بعين الله تعالى، ولذلك خاطبت العقيلة زينب يزيد: (فكد كيدك وناصب جهدك، واسع سعيك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا). والإمام الحسين كان يعلم بمقتله، إلا أنه يكتب إلى بني هاشم حين خروجه: (من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح) يعتبر الشهادة فتحاً، لأنه باتجاه حركة التاريخ وفي اتجاه حركة القيم الإلهية.
فعلى المسلمين والمؤمنين في كل عصر أن يستلهموا هذه الروح من رسول الله وأهل بيته فلا تهزهم الشدائد، وأن يكونوا صامدين موقنين بدعم الله وعونه وكفى بالله حسيبًا.
نسال الله أن يكتب النصر للإسلام والمسلمين، وأن يخذل الكفار والمنافقين.
«نهج القيادة النبوية»