لا ترحل فالشعب يحبك
في الوقت الذي هتف الشعب المصري لدكتاتوره قائلاً ارحل، كانت صرخات التوانسة لاتزال قوية في آذان المصريين وقد رحّلوا جلادهم زين العابدين بن علي.
ارحل لاتزال تدوّي في ليبيا واليمن وغيرهما من بلدان العالم العربي، فهي كلمة لها وقع مقدس في نفوس الشعوب.
الأتراك فقط (في الأسبوع المنصرم) هم الذين كانوا يذرفون الدموع ويلقون التحية على جثمان رئيس وزرائهم الأسبق نجم الدين أربكان وكأنهم يقولون له كن معنا ولا ترحل، بل يودّون لو استطاعوا إعادة الروح إليه فقد أحبوه وقدروه لأنه أحبهم وخدمهم وقدم ما يستطيع إليهم.
أكثر من مليون تركي وقيل إن العدد وصل لمليون ونصف مليون كانوا بين مشيّع وزائر لجثمانه في مسجد محمد الفاتح وسط أسطنبول يلقي تحية الوداع عليه.
أعينهم كانت دامعة، وقلوبهم حزينة، وذكرياته في أذهانهم تؤجج الشوق في نفوسهم إليه، فقد تعجلت الترجل والمسير، ولكنه قضاء الله وقدره.
التف الشعب حوله وهو ميت لا حول له ولا قوة، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً، لأنه يوم كان رئيساً وحين كان قوياً وقادراً وممسكاً بالقرار لم يحاول الالتفاف عليهم ولا خداعهم ولا التضييق على أرزاقهم ومعاشهم.
كنت وأنا أقرأ بعض ما كتب عنه، أحمد ربي أن بعض من لا يستحقون المجد والبطولة والذكر الحسن بعد موتهم قد أخرجتهم شعوبهم من مواقعهم وهم في ذل وهوان، ولم تمهلهم حتى يشيّعوا تشييع الزعماء، فيكتبوا في عداد الأبطال القوميين.
لقد نزل أربكان من علياء المنصب والرئاسة ليقف دائماً إلى جانب شعبه، وقد كلفه ذلك الكثير، حيث كانت المؤسسة العسكرية (الحاكمة حينها) له بالمرصاد، فسببت له المزيد من المتاعب، وعملت على إسقاطه من موقعه الرئاسي، ومنعته من ممارسة حقوقه المدنية في بعض نواحيها ومناشطها، وهو مع كل ذلك كان محتسباً، يرى أن شعبه أولى به من المنصب، فمنصبه لن يحتفظ له بذكريات المحبة والمعزة والتقدير، بل الشعب وحده هو الذي يكسب من أحبه حضوراً في القلوب وحياة جديدة بعد الموت.
نجم الدين أربكان رأى أن المحبة والرضا هما العقدان اللذان بموجبهما تقوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهما اللذان يعطيان القوانين والدساتير قوتهما في الفعل ورفع البلاد ودفعها نحو التقدم، وبدونهما يصعب على كل القوانين أن توجد هدوءاً واستقراراً وتقدماً، ولذلك تمكنت تركيا بعد انكماشها طويلاً أن تمتد لتأخذ موقعها في جغرافيا العالم الإسلامي، وأن تتداخل مع مختلف ملفاته، وأن تلقى القبول والترحيب ليس في حدودها الجغرافية فحسب بل خارج أسوار تلك الحدود.
لقد ربّى نجم الدين ثلة تسير على نهجه، تتحرك في مصالح شعبها، وتقترب من همومه، فكل القادة اليوم في تركيا هم تلاميذ لتربية وأخلاق وفكر أربكان، وليته كان مدرسة يمكنها التعليم والتربية خارج حدود تركيا، ولمن يتقنون العربية.