الخطبة الأولى: كيف ننزع الغل من الصدور
بهجة قلب المصطفى
في الخطبة الأولى: كيف ننزع الغل من الصدور
ـ في العلاقات البينية على الإنسان أن يتحكم في ردة فعله، والمدى الزمني لتفاعل مشاعره.
ـ بقاء المشكلة مع الآخرين يضاعفها، والسعي لحلها يخفف عبء النفس ويصفي الذهن.
ـ من صفات المؤمن أن يتجاوز الأحقاد والاضغان.
وفي الثانية: بهجة قلب المصطفى
ـ أحاديث رسول الله عن فاطمة إظهار لمقامها وتزكية لمواقفها.
ـ لا تزال مشاركة المرأة في الشأن العام ومكانتها في المجتمع تواجه التهميش والإجحاف.
ـ حالات الابتزاز وهروب الفتيات من منازل آبائهن، وإقدامهن على الانتحار يكشف عن إهمال وسوء تعامل.
﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة الحشر, 10] كل إنسان في علاقاته البينية مع الآخرين قد يحصل له ما يثير انزعاجه ويصيبه بالاستياء وذلك بسبب اختلاف الرأي، أو تضارب المصالح، أو تفاوت الأمزجة، وهذا أمر طبيعي. فالإنسان كتلة من العواطف والمشاعر، ومن طبيعته التأثر بما يمر عليه من مشاهد ومواقف، فليس المطلوب من الإنسان أن يكبت مشاعره وأحاسيسه، ولكن المطلوب هو السيطرة على هذه المشاعر، والتحكم في ردة الفعل، والمدى الزمني لتفاعله مع أمر ما. كما أن عليه السعي لحل أي مشكلة تنشب بينه وبين الآخر قريبًا كان أو بعيدًا.
أولًا: على الإنسان أن لا يغفل عن مشكلة تكون بينه وبين الآخرين فقد تؤدي إلى مضاعفات سيئة، من صالحه أن يسعى لحلها، وليس من الصحيح أن يكون راغبًا في استمرارها. في الحكم الجديد لتركيا (حكومة حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب أردوغان)، وضعوا نصب أعينهم إستراتيجية (تصفير المشاكل) في علاقتهم مع الدول المجاورة، بحيث يصل مستوى هذه المشاكل إلى الصفر ضمانًا لاستقرار الدولة ونموها، وهذا ما حصل بالفعل حيث تحسنت علاقاتهم مع كل الدول المجاورة وأصبحوا يتمتعون باحترام إقليمي كبير.
العقل والشرع يدفعان الإنسان لمعالجة مشاكله مع الآخرين، وان يبادر لحلها (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام). رواية جميلة عن الإمام الهادي : (العتاب خير من الحقد) بدل أن تأخذ الظنون مأخذها من الإنسان تجاه الآخر، ويتحول الأمر العادي إلى تشاحن وبغضاء، على الإنسان أن يتكاشف وينفتح على من وقعت المشكلة معه، بالعتاب والسؤال، فلعلّ أمرًا خفيًا عليه لا يعلمه، وبوضوحه تنجلي المشكلة. يقول الله عز وجل: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ما دام الطرف الآخر قد بادر بفتح صفحة جديدة ونسيان الماضي فلا تتردد في قبول ذلك، ولا تضع شروطًا تعجيزية، اجنح للسلم كما جنح له، فالسلم خير من العداوة والبغضاء. ورد عن علي : (ولا تدفعن صلحًا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى).
ثانيًا: مطلوب من الإنسان أن لا يثقل قلبه ونفسه بمشاعر العداء طويلًا. انزعاج الإنسان من شخص ما أو جهة ما يسبب له عبئًا ثقيلًا على نفسه. نسيان موضوع المشكلة خير للإنسان نفسه سيّما إذا مرّ عليه زمن، ومن نعم الله تعالى على الانسان نعمة النسيان، يتفاعل مع أي مشكلة تمر عليه ولكن بمرور الزمن ينساها. هناك البعض من الناس يحب أن يتذكر هذه المشاكل ويشنج نفسه، ويرهقها بها، وهذا ليس في صالحه، أمير المؤمنين يقول: (من اطرح الحقد استراح قلبه ولبه)، لأن القلب يضطرب بالمشاكل، والفكر ينشغل بها. هناك من الناس من يسعى لنسيان المشاكل بمجرد أن يغادر المكان أو يأتي عليه يوم آخر، وهناك من تمر عليه السنون وهو يتذكر المشكلة وكأنها حصلت للتو، يقول علي : (الحقود معذب النفس، متضاعف الهم) وورد عن الإمام الصادق : (حقد المؤمن مقامه ثم يفارق أخاه فلا يجد عليه شيئًا) وكأن قلب المؤمن كقلب الطفل، فالأطفال يتشاجرون ويتعاركون ولكنهم يلتقون بعد لحظات ويلعبون مجددًا وكأن شيئًا لم يكن! وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق : (المؤمن يحقد ما دام في مجلسه، فإذا قام ذهب عنه الحقد).
بقاء الأحقاد في نفس الإنسان يحولها حسب تعبير القرآن الكريم إلى (غِل) والغل بالكسر كما يقول اللغويون مصدر غل يغل وهو مأخوذ من مادة غلل والذي تعني تخلل شيء وثبات شيء أي تسرب شيء ما إلى مكان ماء ومن ثم تثبت فيه. وحينما يتسرب الحقد إلى نفس الإنسان ويستقر فيها ويتعزز يسمى (غل)، وهو الضغن يبقى في نفس الإنسان، أو الحقد الكامن في الصدر. الله تعالى يقول عن المؤمنين أنهم يطلبون منه عز وجل أن يزيح عن قلوبهم الأحقاد والأضغان، ربنا ﴿لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا﴾ لا تترك الحقد يبقى في قلوبنا فيتحول إلى غل على أي فرد ينتمي إلى نفس الدائرة التي ننتمي إليها وهي الإيمان. والمؤمنون هم من ينتمون إلى دائرة الإسلام وآيات القرآن الكريم تتحدث أن أهل الجنة لا يدخلون الا بعد أن ينزع الغل من صدورهم ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ ما ذا يعني نزع الغل من المؤمنين في الجنة أو قبل دخول الجنة؟ هناك معنيان:
المعنى الأول: أن الأحقاد والمظالم التي بينهم في الدنيا تُصفى قبل دخولهم الجنة. كما في حديث جميل يرويه أبو سعيد الخدري عن رسول الله في تفسير قوله تعالى ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ قال: قال رسول الله : (يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كان بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة). يمر الناس على الصراط فوق جهنم وهذا معنى قوله تعالى ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ من هوى فإنه يقع في النار مباشرة، ومن ينجو يسير حتى يصل إلى موقع بين الجنة والنار لتصفية المشاكل وتسويتها مع الآخرين ثم يدخل الجنة. لذلك على الإنسان أن ينزع هذه الأغلال في الدنيا حتى لا تعرقل وتؤخر سيره إلى الجنة، وهناك الأمر رهيب، فالخلاص منها في الدنيا أخف وأسهل.
المعنى الثاني: أن حياة المؤمنين في الجنة ليس فيه مجال للحقد أو الحسد، مع أن في الجنة مراتب وأن الشخص يرى من هو أرقى أو أقل منه درجة، ولكن أسباب التحاسد والتباغض التي في الدنيا غير موجودة، والنفوس هناك غير مهيأة لتقبل هذه المشاكل، الكل يعيش الألفة والمحبة ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ﴾.
وهنا سؤال مهم وهو لماذا يتحدث القرآن عن هذا الجو السلمي الجميل في الجنة؟
أولًا لتشويق المؤمنين للجنة، وثانيًا حتى يقتدوا بهذه الحالة المتميزة ويحاولوا أن يقتربوا من أجواء الجنة، بأن ينشروا نفحات الجنان بينهم في الدنيا.
نسأل الله أن يطهر قلوبنا من الأحقاد والأضغان وأن يجعلنا من أهل التسامح والعفو ومن أهل المبادرة للصلح مع الآخرين.
ورد عن أم المؤمنين عائشة قالت: ما رأيت أحدًا أشبه كلامًا وحديثًا من فاطمة برسول الله وكانت إذا دخلت عليه رحب بها، وقام فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه. وزاد الحاكم في رواية آخرى، وكانت إذا دخل عليها رسول الله قامت إليه مستقبلة وقبلت يده.
ونحن على أعتاب ذكرى وفاة سيدة نساء العالمين الصديقة فاطمة الزهراء لا بد أن نتشرف بذكر شيء من سيرتها وفضائلها العطرة. الأحاديث التي ترويها مصادر الحديث من مختلف المذاهب عن رسول الله في حق ابنته فاطمة الزهراء أحاديث كثيرة وحينما يقف الإنسان أمامها متأملًا فإنه يستطيع أن يستنتج منها الكثير. ومن هذه الأحاديث نذكر ما يلي:
ورد عن رسول الله : (إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها). وعنه : (أحب أهلي إلي فاطمة) وعن علي أن رسول الله قال: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجب يا أهل الجمع غضوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمد حتى تمر). وفي حديث نقله البخاري: (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني) وفي حديث آخر قال لفاطمة : (أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة) وفي حديث عنه : (نزل ملك من السماء فاستأذن الله أن يسلم علي فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة) وعنه : (يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك) وفي حديث عن عمر بن الخطاب أن رسول الله قال لفاطمة: (فداك أبي وأمي) وفي حديث آخر قال: (فداها أبوها) هذه الأحاديث الكثيرة يمكننا أن نستنتج منها أموراً:
الأول: اظهار مكانة فاطمة وعظمتها لأن الرسول لا ينطق عن الهوى، كلامه ليس من باب العاطفة، لو لم تكن فاطمة مستحقة لهذا القول منه لما قاله ، إذًا نحن نستطيع أن نفهم من هذه الاحاديث شيئًا من مقام فاطمة الزهراء بمقدار استيعابنا لا كل قدرها ومقامها, ويكفي أنها في المباهلة كانت ممثلة لجميع نساء الأمة (ونساءنا ونساءكم) الرسول كانت له تسع زوجات ولديه عمات وصحابيات جليلات، لكنه خرج بابنته فاطمة لتمثل كل نساء الأمة.
الثاني: تزكية سيرة ومواقف الزهراء هذه الأحاديث تدل على أن مواقف الزهراء وكلامها صحيح وحق، فهي تزكية لكل مواقفها وسيرتها، وهذا يعني أننا حينما نقرأ في التاريخ أن أي خلاف بين فاطمة وبين أي أحد آخر لابد أن يكون الحق معها، لأن الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها، وأحب الناس لرسول الله فهل يمكن أن يقع الخطأ في مواقفها؟ حينما نقرأ ما حصل بعد وفاة رسول الله من مطالبة الزهراء بفدك علينا أن نعلم أن هذه الاحاديث تستدعي تزكية مواقف السيدة الزهراء وأن قولها يمثل الحق.
الثالث: هذه الأحاديث تشير إلى منهج التربية السليم للبنات، الإسلام جاء في بيئة كان الناس ينظرون فيها للبنت نظرة دونية، فالولد هو المفضل، بينما المرأة ينظر لها نظرة دونية ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾. وجاء رسول الله ليقود البشرية إلى المنهج الصحيح ويدشن عهدًا جديدًا للتعامل مع المرأة، كانوا يعيشون حياة المعارك والحروب فيعطون الأولوية لكل ما يمثل قوة لهم وهذا مصدر اهتمامهم بالولد، اضافة إلى المفاهيم والأراء السلبية التي كانت عندهم عن المرأة حتى جاء الإسلام برسالة جديدة نسف بها النظرة الدونية للبنت، بل نرى روايات تميّز موقع المرأة حيث كان رسول الله يبارك لمن تكون بكرها بنتًا، وهذا ما نستفيده من رواية الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عن رسول الله : (من يمن المرأة أن يكون بكرها جارية).
ولأن البنت لديها مخزون كبير من العاطفة تهيئة للدور الذي تقوم به باعتبارها الأم التي تنتج وتربي الأجيال لذلك فإنها في مرحلة التربية والتنشئة بحاجة إلى الكثير من الرعاية، ولنا في رسول الله في تعامله مع بضعته الزهراء أسوة حسنة، فأحاديثه التي تبين جانبًا من عظمة ومكانة الزهراء فإنها أيضًا تمثل أنموذجًا لتربية الفتيات ومراعاة مشاعرهن. يقول ابن عباس عن رسول الله : (من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج وليبدأ بالإناث قبل الذكور)، لأن البنات يحتجن إلى رعاية عاطفية في تنشئتهن أكثر من الصبيان.
ونحن وإن كنا في هذا العصر المتقدم إلا أن دول العالم الإسلامي كان يجب أن تكون سباقة في حسن التعامل مع المرأة وفي إجلالها وتكريمها، ولكن يبدو أن رواسب الجاهلية وتسربات تلك المفاهيم لا تزال تتوارث في مجتمعاتنا ولذلك تعاني المرأة في مجتمعاتنا للآن من النظرة الدونية، فلا يزال موضوع مشاركة المرأة في الشأن العام ومكانتها في المجتمع فيه الكثير من التهميش والاجحاف وهذا مخالف لتعاليم الدين. البعض من الناس يرون أن الدين يأمر بذلك وأن الدين يريد للمرأة أن تكون في موقعية أقل من موقعية الرجل، ولكن عند البحث السليم والخروج من التقاليد والأعراف لا نرى صحة لهذا الرأي والتوجه، ومن المؤسف جدًا أن شعوب العالم غادرت تلك الحالة ولكننا لانزال نناقش هل يصح للمرأة أن تقود السيارة أم لا؟ هل يجوز لها أن تشارك في الانتخابات البلدية أو المجالس البرلمانية أم لا؟
علينا أن نتساءل لماذا لا تشارك؟ وما المانع في ذلك؟ أليس ما يتخذ من قرارات تنعكس على حياتها ومصيرها؟ لماذا للرجل حق المشاركة ولا يكون ذلك للمرأة؟ هذا كله بسبب ترسبات الجاهلية وبسبب الأعراف والتقاليد المتخلفة.
حتى في الجانب الاجتماعي فإن البنت تعيش حالة من الكبت خلافًا للولد الذي ينعم بمجالات كثيرة للترفيه عن نفسه كالنوادي الرياضية، وأماكن التنزه، وقيادة السيارة، وما شابه، وكذلك الحال في المجال الوظيفي فإن فرص الولد أكثر بكثير من البنت. أفلا يكون هذا الكبت مدعاة لكثير من المشاكل التي تقع فيها الفتيات؟
ماذا تعمل البنت في هذا العصر مع انفتاحها على العالم وهي تشعر بالدونية؟ كتب عليها أن تكون مكبوتة مزوية في البيت، وهذا له أثر سلبي، إضافة إلى تعرضها في كثير من الأحيان إلى حياة القسوة والجفاء العاطفي حيث وجود فجوة كبيرة بينها وبين والديها لضعف الرعاية والاهتمام، وهذا ما يلجئ كثيرا من الفتيات إلى اتخاذ طرق خاطئة، والتعرض للابتزاز من قبل ذوي النفوس الضعيفة، مع وجود الوسائل المتقدمة كالإنترنت والجوال.
وتتحدث الصحف المحلية عن تكرر حالات هروب فتيات من منازلهن، فما الذي يدفع فتاة أن تهرب من بيت أسرتها؟ لولا وجود دافع لذلك ولو لا أنها تفقد الدفء والحنان والأمن في البيت. ونسمع عن ظاهرة أخرى وهي أقدام فتيات على الانتحار!، كما تكشف عن ذلك كثير من الاحصائيات من قبل المستشفيات المحلية من إقدام فتيات بين الرابعة عشر والعشرينات من العمر حيث تصلهم في كل أسبوع من حالة إلى حالتين!
أفلا يكشف هذا عن نوع من الإهمال للبنات؟
حينما نقرأ روايات تعامل النبي مع ابنته الزهراء فعلينا أن نهتم ببناتنا وحسن التعامل معهن، وعلى المجتمع أن يوفر أماكن يستطيع من خلالها الاستفادة من طاقات الفتيات وإبراز قدراتهن حتى يشاركن في بناء المجتمع.
نسأل الله أن يثبتنا على محبة الزهراء وأن يكتب لنا شفاعة الزهراء .