العدل غرض الرسالات ووظيفة الدولة
نقرأ في الخطبة الأولى:
ـ العجب بالنفس مرض يترصد المتفوقين والناجحين، وعليهم أن يتقوه.
ـ العجب يمنع التقدم، ويكرس الثغرات, ويخلق البغضاء.
ـ التعصب الديني سببه تضخم الذات وازدراء الآخر.
وفي الثانية:
ـ الوظيفة الأساس للدولة إقامة العدل.
ـ الثروات الوطنية لكل المواطنين فلا يصح أن تستأثر بها فئة، ولابد من التوزيع العادل.
ـ المجتمعات المتقدمة أقرب للنظام العادل بتكافؤ الفرص، والمشاركة السياسية.
الخطبة الأولى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾
حين يمتلك الإنسان بعض نقاط القوة ويحقق شيئا من النجاح والتقدم فإن عليه أن يراقب نفسه حتى لا يصيبه مرض عادة ما يترصد بالمتفوقين الناجحين، وهو مرض العُجب. حيث يعجب الإنسان بنفسه، ويرى أنه الأفضل، ويحصل لديه تضخم ذاتي فيرى نفسه عظيمًا لا يمكن تخطيه، ومتفوقًا لا يمكن هزيمته. هذه الحالة تشكل مصدر خطر للإنسان إذا استفحلت لديه، حيث تفقده مكاسب تفوقه وتقدمه، وهذا يحصل للإنسان كفرد، ويحصل للجماعة أو الأمة، ولهذا فان الله تعالى يحذر المؤمنين من هذا الخطر يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي: انظر بتأمل، وراقب بحذر تصرفات وممارسات الآخرين، فإذا رأيتهم قد أصيبوا بهذا الداء فعليك أن تخشى على نفسك حتى لا تصاب مثلهم ﴿الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ﴾ وليس المقصود الذين يطهرون أنفسهم، بل الذين يدعون لأنفسهم الطهارة والعلو، هؤلاء الذين يرون أنفسهم منزهين عن كل خطأ، وسيرتهم لا مجال للنقد فيها.
الانعكاسات السيئة لمرض العجب
أولًا: التوقف والتراجع:
يجب أن يعرف الإنسان أن مشواره في طريق الرقي والكمال مشوار طويل، والأفق أمامه مفتوح، فإذا وصل إلى درجة من التقدم والتميز فعليه أن لا يغتر بنفسه ويظن أنه وصل إلى الغاية وتربع على القمة، لأنه حينئذ سوف يتوقف. حين يصعد الإنسان جبلًا وهدفه القمة، ثم يصل إلى نقطة ويظنها القمة فسوف يتوقف، أما إذا كان يعلم أنها ليست هي القمة، ولا تزال عنده الهمة، فسوف يواصل طريقه. الإنسان الذي يتفوق ويتميز عليه أن يعلم أنه في بداية الطريق، وأن يجتهد حتى يبدع في ذات المجال، ويفكر في التفوق في مجالات أخرى، والوصول إلى درجات أرقى، ليس هناك مجال له حد ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾ سيما المجال العلمي ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ وعلى الإنسان أن يطلب من ربه الاستزادة: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾.
وهذا لا ينحصر في الجانب الفردي فقط، بل حتى على مستوى الأمة والمجتمع، فأي مجتمع إذا أصيب بداء العجب، وظن أنه أفضل المجتمعات، وأنه حقق أفضل الانجازات، وما عاد ينقصهم شيء، حينئذ لن يكون هناك تفكير في مواصلة مشوار التقدم، بل ربما حدا بهم الأمر إلى التراجع، وهذا ما يحذر منه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : (الإعجاب يمنع من الازدياد) وعنه : (ما أضر المحاسن كالعجب) تكون عند الإنسان محاسن، ولكن العجب يحولها شيئًا فشيئًا إلى نقاط ضعف. ويقول أيضًا : (شر الأمور الرضا عن النفس) ويقول: (من كان عند نفسه عظيمًا كان عند الله حقيرًا). وفي حديث يروى عن رسول الله يقول: (من قال أنا عالم فهو جاهل) من ادّعى أنه أحاط بالعلم فهو جاهل لأن العلم لا يحاط به. وعن علي : (من ادعى العلم غايته، فقد أظهر من الجهل نهايته) لذلك على الإنسان الحذر ومراقبة النفس، حتى لا ينقطع عن مواصلة مشواره و السير باتجاه التقدم.
ثاينًا: عدم الالتفات إلى النواقص:
أي إنسان مهما كانت درجة كماله فانه معرض للخطأ والنواقص. وحالة العجب تمنع من الالتفات إلى النواقص ونقاط الضعف على الصعيد الفردي والاجتماعي، وبالتالي تتعمق الفجوات والثغرات. ورد عن الإمام علي : (العجب يوجب العثار).
ثالثًا: تجاهل قوة الآخرين:
على الإنسان أن يعرف أنه ليس وحده يمتلك نقاط قوة، فالآخرون حوله لهم نقاط قوة يتميزون بها. لكن الإعجاب بالنفس يمنع الإنسان من ملاحظة ما يتمتع به الآخرون من تميّز، جاء عن الإمام الصادق : (من لا يعرف الفضل لأحد فهو المعجب برأيه) يظن نفسه الوحيد الذي يعرف ويفهم ويحوز الفضائل والمكارم, فيتعالى على الآخرين, ولا يحترم كفاءاتهم, فيعيش معهم حال العداء, بدل الاحترام المتبادل, والتكامل. لذلك ورد عن علي بن أبي طالب : ( ثمرة العجب البغضاء) فالناس لا يتحمّلون المتغطرس الذي لا يرى لغيره فضلا.
من هنا على الإنسان أن يراقب نفسه كفرد وكذلك على المجتمع الحذر واليقظة حتى لا تسوده أجواء النرجسية والتعالي, ورد عن الإمام الباقر أن هذه الآية الكريمة (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) نزلت في اليهود والنصارى الذين قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾، ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾.
ومن هنا تنشأ حالة التعصب العرقي والديني بسبب تضخم الذات. لذلك وردت نصوص كثيرة تحذر من هذا المرض، ورد عن الإمام الصادق : (من أعجب بنفسه هلك ومن أعجب برأيه هلك)
وورد أن المسيح عيسى بن مريم قال: (داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن الله، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه. فقيل يا روح الله وما الأحمق؟ قال: المعجب بنفسه ورأيه، يرى الفضل كله له لا عليه، ويوجب الحق كله لنفسه، ولا يوجب عليها حقًا، فذلك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته). بينما يصف أمير المؤمنين المتقين أنهم يعيشون حالة أخرى: (لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ. فَهُمْ لأنفسهم مُتَّهِمُونَ، ومن أعمالهم مشفقون، إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهْمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِن غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسي! اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ.).
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والالتزام بمكارم الأخلاق.
الخطبة الثانية:العدل غرض الرسالات ووظيفة الدولة
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾
يندفع كل إنسان في هذه الحياة من أجل تحقيق رغباته وخدمة مصالحه، ولأن المصالح في الحياة مشتركة بين الناس يحصل تضارب وتصادم فيعتدي هذا على حق هذا ، ويتجاوز هذا على حدود ذاك, كأفراد أو كجماعات. من هنا شعر الإنسان منذ الأيام الأولى لوجوده الاجتماعي بالحاجة إلى قيادة وإدارة ومع مرور الزمن تبلورت فكرة الدولة في المجتمع البشري, هذه الدولة مهمتها أن تنظم حياة الناس، بوضع القوانين والأنظمة، والعمل على تطبيقها. لتضمن الدولة لكل فرد فيها حياة كريمة، وأمنًا بحيث لا يعتدي أحد على حقه، وأهم مهمة تناط بالدولة هي إقامة العدل بين الناس كما يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي: بالأدلة والبراهين الواضحة، ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ وهو الشريعة والدين، ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ أي المعايير والمقاييس في حياة البشر نابعة من فطرتهم وعقولهم، هذه المعايير هي التي تجعل الناس يبحثون عن العدل والحق، وتجعلهم ينفرون من الظلم والباطل. ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ والقسط هو العدل.
لم تكن مهمة الأنبياء نشر حالة عبادية روحية بين البشر فحسب، بل إن المنهج العبادي والتربية الروحية تشكل أرضية لتحقيق وإقامة العدل.
الثروات الكونية متاحة لكل بني البشر ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ ﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فلا يصح أن تستأثر بها فئة دون الأخرى، وأن يتنعم بها أحد ويحرم منها آخر. لابد من وجود إدارة عادلة في المجتمع البشري تحفظ النظام العام وتنفذ القوانين والأنظمة التي تحمي حقوق الناس فيما بينهم. ولتقريب الصورة نأخذ مثلًا نظام المرور، كل إنسان يقود سيارته ليصل إلى وجهته، ولكن لابد من نظام مرور حتى تسير الحركة بيسر، وإذا ما انعدم هذا النظام يكون هناك تعارض وتصادم، كما نلحظ عند انطفاء إشارة المرور حيث قد تشل الحركة وتقع الحوادث.
لابد من وجود النظام في كل مجال، ومهمة الدولة في المجتمع البشري هي تحقيق العدل، ولكننا نجد في ماضي التاريخ وحاضره ان الدولة قد تتنكر لوظيفتها وتصبح أداة للظلم، وتستأثر بالثروات والخيرات على الناس. الدولة لا تملك الثروات بل هي من ينظم استفادة الناس من هذه الثروات وتحمي تكافأ الفرص بين الناس، وإذا انحرفت أي دولة عن هذا المنهج فذلك يعني أنها خالفت الهدف الأساس من قيامها ووجودها، وحينئذ قد تكون سببًا لفقدان الاستقرار، ولذلك ينبه أمير المؤمنين أحد ولاته: (استعمل العدل، واحذر العسف (أي الاعتداء) والحيف (أي الظلم) فإن العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى السيف).
في الماضي كان الفلاسفة والعلماء يتحدثون عن شخص الحاكم العادل، كما كان أفلاطون يركز على هذا الجانب، حيث يرى أن الحاكم ينبغي أن يكون فيلسوفًا عالمًا حتى يستطيع تحقيق العدل بين الناس، وبعض علماء المسلمين أيضا ركزوا على عدالة شخص الحاكم. لكن المجتمعات المتقدمة تجاوزت هذه المرحلة، فالمسألة لا ترتبط بشخص الحاكم فقط وإنما بسياسات ومؤسسات النظام، فكل النظام ينبغي أن يكون عادلًا، وليس شخص الحاكم فقط. فقد يكون شخص الحاكم عادلًا، ولكن ذلك لا يفيد إذا كانت الأنظمة غير عادلة. إذا كانت الأنظمة لا تتيح للناس تكافؤ الفرص، فإن العدل بين أبناء المجتمع لا يتحقق.
في المجتمعات الغربية أصبحت الأنظمة أقرب إلى العدالة، لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب، وفق القيم الإسلامية، ولكنها نسبة إلى واقع الدول الأخرى في مستوى متقدم. الشعوب في الدول المتقدمة يشعرون برضًا عن تكافئ الفرص عندهم، وبإمكانهم المشاركة في اتخاذ القرار فالدولة لا تستأثر بذلك، بل بإمكان أي فرد أن يطمح للحصول على مقعد متقدم في الدولة وصولًا إلى رئاستها. لو سألت شابًا أمريكيًا مثلًا هل يمكن أن تصبح يومًا من الأيام رئيسًا لأمريكا؟ فلن يكون السؤال غريبًا بالنسبة له، وقد يجبيك بنعم. ولكنك لو سألت شابًا عربيًا نفس السؤال فسيظن أنك تهزأ به!
المجتمعات المتقدمة استطاعت أن تصل إلى نظام أقرب للعدالة مع وجود تكافئ للفرص، والمشاركة في اتخاذ القرار، والتوزيع العادل للثروة. هناك أنظمة ارتضتها تلك المجتمعات أنها تناسب وضعها، والمجال مفتوح أمامهم للتغيير والتطوير ولذلك حياتهم أقرب إلى الاستقرار وأقرب إلى التقدم، بينما مجتمعات العالم الثالث لا تزال تتخبط في الصراعات والقلاقل، ونحن نرى الآن ما يجري في الشرق الأوسط حيث لا تكاد تجد بلدًا إلا وفيه ثورة أو تمرد وانتفاضه، أو تململ واحتقان، لأن كثيرًا من هذه الدول لم تصل إلى النظام العادل الذي يحقق تكافؤ الفرص بين أبناء المجتمع.
الدين الإسلامي يؤكد على هذا الجانب: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط) أي العدل. والإمام علي بن أبي طالب يقول: (العدل جُنة الدول) أي الدول التي تريد الاستقرار فلابد أن ترسخ وتنشر العدل بين الناس. ويقول أيضًا: (العدل يصلح الرعية) و: (بالعدل تتضاعف البركات) حيث تكون فرص التنمية متاحة للناس. ويقول أيضًا: (ما عمرت البلاد بمثل العدل) هكذا يؤكد الإسلام على أهمية العدل. وورد في كتب المسلمين: (أن الملك يدوم بالعدل مع الكفر، ولا يدوم بالظلم مع الإسلام) لأن الظلم دمار ويخلق أرضية للاضطرابات.