يعبدون الله على حرف
تقرأ في الخطبة الأولى:
ـ الاصل في العلاقة بين بني البشر هي المحبة والالفة, والعداوة خلل طارئ.
ـ التوازن في كل شيء مطلوب، حتى في الحب والبغض.
ـ العاقل لا يقطع سبل الرجعة لمن يعاديه، وكسب العدو مغنم.
وفي الثانية:
ـ هناك من يرفع شعار الوحدة لإيمانه بأنه مبدأ إسلامي، وهناك من يرفعه لمصلحة وقتية تكتيكية.
ـ منطقتنا الخليجية تعاني من تيارات التشدد والشحن الطائفي.
ـ البعض يتحركون بالريموت كنترول ويصبغون الأحداث السياسية بصبغة دينية!
﴿عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم. لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين﴾.
الأصل في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان هي المحبة والتعاون على تسيير أمور الحياة المشتركة، علاقة قائمة على أساس الأنس والألفة، فاللغويون يقولون أن مفردة (الإنسان) مشتقة من الأنس سمي بذلك لأنه خلق خلقة لا قوام له إلا بأنس بعضه ببعض. ونحن نرى مظاهر ذلك مثلًا عند الأطفال، حيث تراهم ينجذبون لبعضهم بعضًا بغض النظر عن مختلف الفوارق التي يراها أهاليهم، ونرى تجليات الإنسانية الأصيلة في حالة الكوارث الطبيعية حينما يكون هناك تعاطف وتناسٍ لجميع الفوارق، ونرى كذلك استيحاش الإنسان إذا عاش بمفرده مبتعدًا عن بني جنسه، فلو عاش في جزيرة مترامية الأطراف وحده، ورأى ذات يوم إنسانًا مثله فإنه سيأنس بوجوده مهما كان يختلف عنه لغة أو لونًا أو عرقًا أو انتماء. ولذلك كان من أشد وسائل التعذيب التي تستخدم في السجون هو السجن الانفرادي.
هذا كله يدل على انشداد الإنسان لأخيه الإنسان، ولكن قد تطرأ حالات تسبب سوء تفاهم وعداوة بين الافراد أو الجماعات. العداوة حالة طارئة خلاف الأصل، ولكن هذا الأمر يغيب عن بال الكثير من الناس. فيعتقد أن التاريخ سيقف عند موقف معين، وأن هذه العداوة ستستمر إلى يوم القيامة، وهذا نابع من الغفلة والجهل. الإنسان الواعي فردًا أو مجتمعًا إذا حصلت بينه وبين آخر عداوة ينظر إلى هذه العداوة على أنها حالة طارئة، ويتصرف على هذا الأساس عبر المنهجية التالية:
وردت نصوص كثيرة تحث الإنسان أن لا يستمتع بوجود حالة العداوة مع أي كان، وأن يسعى لتجاوزها, جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : (الاستصلاح للأعداء بحسن المقال وجميل الفعال أهون من ملاقاتهم ومغالبتهم بمضيض القتال) هذا كلام أشجع الناس الذي لا يخاف المعارك، لكن هذا الشجاع لا يرى الحرب مع الآخرين بطولة إذا كان هناك مجال للهروب منها وتجاوزها، ويقول : (من استصلح عدوه زاد في عدده) ويقول : (من استصلح الأضداد بلغ المراد) لذا على الإنسان أن يتعامل مع أي عداوة على أنها طارئة ويعمل من أجل إزالتها، والآية الكريمة جاءت في سياق الحديث حول علاقة المسلمين مع الأعداء الكفار، (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) هؤلاء الكفار الذين تعادونهم والله يطلب منكم البراءة منهم باعتبارهم أعداءً، عليكم أن تعرفوا أن العداوة التي بينكم وبينهم ليست حتمية ولا أبدية (والله قدير والله غفور رحيم) ثم يشير إلى أن عليكم أيها المؤمنون خلق الأجواء المناسبة لتقصير أمد هذه العداوة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين) تعاملك الجيد مع المخالف هو الذي يصنع الأجواء لتبديل موقفه، (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
لكن هذا الأمر لا يتفهمه ولا يستطيع تحمله أي إنسان، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ الذين عندهم إيمان وسعة أفق، هم الذين يستطيعون ذلك، وإلا غالبًا ما يعيش الناس على أوتار انفعالاتهم وتوتراتهم.
الإنسان العاقل يتخذ سبيل التوازن في محبته وعداوته، كما في الحديث المروي عن رسول الله : (أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما). التوازن في كل شيء مطلوب، حتى في الحب والبغض، فهذا الشخص الذي تحبه وتعطيه كل أسرارك قد يبغضك يومًا فعليك أن تحاذر، وذاك الشخص الذي تبغضه وتعاديه قد يقترب إليك يومًا ما، فلا تقطع سبل العودة إليه فإن ذلك من الجهل. الإمام علي يقول: (لا يكن حبك كلفًا، ولا بغضك تلفًا، أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما)، البعض من الناس يبالغ في أقل مشكلة خلاف ويصنع منها قضية كبرى، حتى مع زوجته التي عاش معها حياته الخاصة, كما يعبر القرآن الكريم ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾, يتناسى ذلك ولا يترك مجالًا للرجعة، وهكذا مع الجار أو الصديق أو أي أحد.
الأمر الأخر الذي يطلب من الإنسان في حالة وجود مشكلة أو عداوة بينه وبين الآخر، سواء كان ذلك على الصعيد الفردي أو الاجتماعي، أن يسعى ويبادر للصلح وحل المشكلة، كما ورد عن رسول الله حول علاقة المسلم بأخيه المسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام). هذا ما يوجه له الدين الكريم، ولكن الشيطان الرجيم يصرف الإنسان عن هذا الموقف السليم، ويحرضه بأن ذلك ضعف ومذلة. وهذا ما يجعل كثيراً من الناس يعرضون عن المبادرة للصلح، بل الأدهى من يرفض الصلح إذا عرض عليه!
ينبغي أن نستفيد من توجيهات رسول الله وأهل البيت ، وأن نعتبر من مواقفهم ونحذو حذوها، وجميل أن نتذكر وصية أمير المؤمنين لأصحابه حينما سمع بعضهم يسبون أهل الشام، لم يرض بذلك ونصحهم قائلاً: (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان سبكم إياهم: أللهم أحقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به) هذا توجيه نابع من العقل والفطرة ومؤيد من الوحي أن الإنسان في علاقته مع أخيه الإنسان عند الاختلاف سواء كان خلافًا دينيًا أو مصلحيًا أو عائليًا أو أي نوع كان, عليه أن يعلم بأن حالة العداء طارئة وأن يتعامل معها على هذا الأساس ويسعى لتقصير أمدها، ويبادر للصلح.
﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين﴾.
الناس في تعاملهم مع المبادئ والقيم ينقسمون إلى قسمين:
قسم يقتنعون بهذه القيم ويؤمنون بها حق الإيمان، ويتمسكون بها في كل الأحوال والأوضاع حتى لو أصابهم الضرر والأذى بسبب ذلك. والقسم الآخر من الناس قد يرفعون هذه القيم كشعارات ويدّعون الإيمان بها في الظروف الملائمة، وإذا ما اختلت واضطربت الأوضاع اهتزت قناعاتهم وتراجعوا عنها.
في الآية الكريمة يتحدث الله سبحانه وتعالى عن هذا الصنف من الناس: ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف﴾ أي على طرف، وعلى حافة الشيء، فاقل هزة يمكن أن تطيح به. يعبد الله، ولكن ليس في قلبه إيمان راسخ بذلك، ﴿فإن أصابه خير اطمأن به﴾ إن كانت أوضاعه مرتبة أعجبه هذا الدين ورفع شعاراته، ﴿وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه﴾ أما إذا اضطربت الأوضاع وما عادت في صالحه، فوقوفه على الحافة يؤهله للسقوط الفوري.
ومن الطريف ما ينقله المفسرون حول أسباب نزول هذه الآية الكريمة، ننقل بعضًا منها:
ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلامًا ونتجت خيله قال هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.
وفي حديث الموطأ للإمام مالك أن إعرابيًا أسلم وبايع النبي فأصابه وعك بالمدينة، فجاء إلى النبي يستقيله بيعته.
وعن الضحاك أن الآية نزلت في المؤلفة قلوبهم من عيينة بن الاحوص، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس، قالوا: ندخل في دين محمد فإن أصبنا خيرًا عرفنا أنه حق، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل.
نحن نضحك على مثل هذه العينات، ولكننا نجد كثيرًا من مصاديقها في التعامل مع القيم والمبادئ كالحرية والعدالة والوحدة الوطنية والتقارب بين أبناء الأمة، فترى البعض يؤمنون بها إيمانًا راسخًا مهما اختلفت الظروف، ومنهم من يرفعها شعارات براقة متى انتفع منها.
ونريد في هذا الحديث التركيز على مسألة الوحدة الوطنية، والتقارب بين أبناء الأمة. حيث نجد أن هناك من يؤمن بهذه القيمة كمبدأ إسلامي قرآني أمر الله به في قوله تعالى ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة﴾ وقوله سبحانه: ﴿واعتصموا بحل الله جميعًا ولا تفرقوا﴾ المؤمن الحقيقي بهذه المبادئ يلتزم بها مهما اختلفت الظروف والأوضاع، ولكننا مع الأسف الشديد نجد من يتعاملون مع هذه القيمة حسب الظرف والمصلحة كما يعبر عنهم تعالى: ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف﴾.
الشرق الأوسط الآن يمر بمرحلة تغيّر وتحوّل، لأن الأوضاع السائدة فيه غير مؤهلة للاستمرار لأنها ضد حركة التاريخ وضد المبادئ والقيم الإنسانية الصحيحة. وفي هذه المرحلة لابد من وقوع مشاكل وخلافات، فكيف ينبغي على علماء الأمة ومثقفيها أن يتعاملوا مع هذه المرحلة؟
اننا نلحظ ان هناك منهجين في التعاطي مع احداث النزاعات ذات الطابع الطائفي:
المنهج الأول: هو الاصطفاف الطائفي, بأن يحتشد السنة في خندق, ويحتشد الشيعة في خندق مضاد, على اساس الفهم الجاهلي لمقولة (انصر اخاك ظالماً أو مظلوماً) حيث تساند كل طائفة اتباعها بغض النظر عن كونهم على حق أو باطل.
وحينها لا يكون الخلاف على المواقف من زاوية المبدأ, وانما هو اشبه بالخلاف القبلي بين قبيلة وأخرى.
وهذا ما رأينا بعض صوره في لبنان والعراق, حيث حصل تخندق طائفي سياسي.
المنهج الثاني وهو الاسوأ: يعتمد اثارة الخلاف المذهبي والشحن الطائفي, وكأنه حرب بين عقيدة وأخرى, ومذهب وآخر, وهذا ما نعاني منه في منطقتنا الخليجية غالباً, بسبب وجود تيار متشدد يحترف الصراع المذهبي, وينتعش بالاحتراب العقدي, هذا التيار ينتظر أي اشارة سياسية لخلاف له ارتباط بسنة وشيعة في أي بقعة في العالم, ليبادر لاستخدام كل اسلحة التعبئة المذهبية الطائفية القذرة.
لقد حصل ذلك سنوات الحرب العراقية الإيرانية, حيث صدرت الفتاوى وطبعت ملايين الكتب والقيت خطب التحريض الطائفي, حتى وقعت كارثة احتلال صدام للكويت, واستجدت ظروف سياسية, أخذ فيها هذا التيار المتشدد استراحة المحارب, واودع اسلحته مخازنها مؤقتاً لاشهارها حينما تدعوا الحاجة وتحين الفرصة.
وحين تفجرت الفتنة الطائفية في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي, استعاد هذا التيار شيئاً من فاعليته ونشاطه التعبوي التحريضي في بلادنا.
ونرى الآن على ضوء ما حصل في البحرين كيف تلبدت سماؤنا بغيوم الشحن الطائفي المذهبي مرة أخرى, وعاد الهجوم على معتقدات الشيعة, والتشكيك في تاريخهم وولائهم وانتماءاتهم, عبر الفتاوى والخطب والكتب والفضائيات.
هذه أوضاع سياسية تعالج بشكل أو بآخر، فلماذا نصبغها صبغة دينية مذهبية؟ يمكن للإنسان أن يقف في صف الجهة التي يشاء، في الإطار السياسي، ما شأن المعتقدات والمذاهب في الأمر؟ هذا انعدام في الوعي وتأثر بالتحريك السياسي. ومع الأسف الشديد صرنا نجد علماء ومثقفين يتحركون بالريموت كنترول حسب الطلب! أهذا هو الدور المأمول منهم؟ إن هذا دور شيطاني إجرامي.
الوحدة الوطنية والتقارب بين المسلمين قيمة إسلامية عليا، ومبدأ ثابت لا يصح أ ن تتغير بتغير الظروف والأوضاع، وهنا نقدر عاليًا مواقف المرجعية الدينية في العراق، فمع كل ما حصل من تفجيرات استهدفت الشيعة في كل مكان، وما حصل من اعتداءات على المراقد المقدسة، ولكنها لم تنطق ببنت شفة تكون سبيلًا لتعميق الهوة بين الطرفين وتأجيج الفتنة الطائفية، ولم تمارس تعبئة عقدية مذهبية, بل على العكس من ذلك, كل بياناتها وهي منشورة ومطبوعة تؤكد على الوحدة والتعايش وحفظ الحقوق لجميع الاطراف في العراق. وهذا هو الموقف الواعي المبدئي.
إننا نؤكد أن هذه أوطاننا نعيش فيها على اختلاف مذاهبنا، فعلينا أن نرفض هذا الشحن الطائفي البغيض الذي جربناه وذقنا مرارته، وأن نتمسك بالحوار الوطني والوحدة الوطنية والتقارب بين المسلمين مهما كانت الظروف والأوضاع، فهي ليست شعارات مصلحية تكتيكية ترفع لوقت دون آخر, وإنما هي مبادئ دينية ثابتة وقيم إنسانية حضارية.