في ذكرى النكبة:

ما ضاع حق خلفه مطالب

تقرأ في الخطبة الأولى:

ـ من لا يراعي نظرة الناس إليه، ولا يهمه إن مدحوه أو ذموه فإنه لا يبالي أن يقوم بأي عمل.
ـ الحياء من النفس أرقى مراتب الحياء.
ـ الإنسان الذي يستحي من نفسه أقدر على مراعاة حقوق الآخرين.

وفي الثانية:

ـ الحق يحفظ بالمطالبة مهما تقادم الزمن، فالظالم لم يأخذه قرضًا أو استعارة يعيده فيما بعد.
ـ الفلسطينيون وبفعل التحالف ضدهم، وعدم استعدادهم، وقعوا ضحايا النكبة.
ـ الفلسطينيون اليوم أقرب لاستعادة حقهم من أي وقت مضى.

ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: (أحسن الحياء استحياؤك من نفسك) وقال أيضًا: (حياء الرجل من نفسه ثمرة الإيمان).

الإنسان بدافع التكيف مع بيئته، والحفاظ على سمعته فإنه غالبًا ما يتجنب الأمور المستقبحة حتى لا يعيبه الناس، كما أنه قد يتجنب المعايب خجلًا من ربه وخالقه، وهناك من يتركها حياء وخجلًا من نفسه وهي الدرجة العليا. من هنا يمكننا أن نقسم الحياء إلى ثلاثة أقسام:

قد يتحمل الإنسان بعض ضغوط الحياة من أجل أن يبدو منسجمًا مع عادات مجتمعه وتقاليده. فعلى سبيل المثال قد يضطر للاقتراض ويجهد نفسه من أجل أن يقوم باللازم لعمل وليمة الزواج، تماشيًا مع عادات مجتمعه، حتى لا يكون عرضة لذمهم وانتقاصهم له. وقد تجد إنسانًا فقيرًا لا يملك قوت يومه، لكنه يظهر في أفضل هيئة ممكنة حتى لا يبدي للناس ضعفه وفقره، ويعبر القرآن الكريم عن مثل هذا النوع من الناس بقوله: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف).

هذا النوع من الحياء هو الأبرز والأكثر وضوحًا، وهو مطلوب في حدوده، فقد ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال: (من لم يستح من الناس لم يستح من الله) والذي لا يراعي نظرة الناس إليه، ولا يهمه إن مدحوه أو ذموه فإنه لا يبالي أن يقوم بأي عمل يريده كما ورد عن رسول الله : (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).

حينما يختلي الإنسان بنفسه، وحيث لا يراه أحد يخشى ان يؤنبه أو يوبخه، لكنه يترك القبيح لأنه يخجل من خالقه الذي يطلع عليه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد. وفي بعض الأحيان يتركه أيضًا أمام الناس ولكن ليس خوفًا من نقدهم وإنما طاعة لخالقه. هذا النوع هو درجة من الحياء أرقى من سابقه، فإذا كان من الجميل أن يستحي الإنسان من الناس، فمن باب أولى وأجمل أن يستحي الإنسان من خالقه عز وجل.

ماذا يعني أن يستحي الإنسان من نفسه؟ هل هناك ثنائية أي أنه شيء ونفسه شيء آخر فيستحي منها؟ نعم، حيث إن للإنسان في شخصيته بعدين، بعد العقل والضمير، وبعد الشهوات والأهواء، ومن هذا البعد الأخير تأتي مشكلة الإنسان فيتوجب عليه أن يجاهدها ببعده الأول بعقله وضميره. في نفس السياق يأتي معنى الحياء من النفس، فشهواته وأهواؤه تدفعه للقيام بعمل ما أو التلفظ بكلمة ما, ولكن حين يستخدم عقله، ويحّكم ضميره، هل يقبل العقل هذا الأمر؟ إذا كان الجواب لا، فكيف يمارس ما لا يرتضيه عقله؟ من هنا يتضح معنى الحياء من النفس، وهو أن لا يقوم الإنسان بعمل يستقبحه العقل، ولا يرتضيه الضمير، وأن يلتزم بالقيم حتى لو لم يكن هناك داع اجتماعي للإلتزام بها، فهو لا يتركها لأن الناس ينتقدونه أو يمدحونه، بل إنها قد تتجاوز مسألة الرضا والسخط الإلهي، فلا تبقى في حدود الحلال والحرام، بل لأن بعده الإنساني لا يرتضي ذلك ويتسامى عليه.

هذه درجة من أرقى مراتب الحياء، وهي تتجلى كثيرًا في حالة الخلوات حيث لا رقيب من الناس هناك. قيل لأحد الواعين ممن هم في هذه الرتبة، هل تتلفظ بكلمة بذيئة مستقبحة؟ قال: إني لأستحي من نفسي، ليس لأن هناك من يستقبحها أمامي، بل لأن نفسي أسمى من ان اتفوه بهذه الألفاظ.

وهكذا في اداء الأعمال الحسنة، فالإنسان يعمل الخير لأن ضميره وحسه الإنساني يدعوه لذلك، وليس من أجل مدح الناس وكسب رضاهم، ولا من أجل أن هذا أمر مندوب إليه، ولهذا ورد: (اصنع الخير لأهله ولغير أهله، فإن لم يكن من أهله فأنت من أهله) أنت تفعل الخير لأن ذلك ما يقتضيه ضميرك وفطرتك، بغض النظر عن الطرف الآخر.

ومن أبرز ثمرات هذا القسم الأخير أن الإنسان يكون أقدر على مراعاة حق الآخرين البعيد منهم والقريب، من يستحق ومن لا يستحق. كما يكون ملتزماً بالقيم والمبادئ في مختلف الظروف والاوضاع.

نقرأ أن أمير المؤمنين في أحد أيام معركة صفين بارزه عمرو بن العاص وطعنه الإمام فصرعه ارضاً, ولما أراد أن يجهز عليه، رأى عمرو بن العاص نفسه أمام الموت ففكر في النجاة، فكشف عورته، عندها أنصرف أمير المؤمنين بوجهه عنه حياءً وتركه. وحين سئل لماذا تركته؟ قال: كشف عن سوءته.

كان بإمكان أمير المؤمنين وهو في حالة حرب أن يقتله وليس عليه ملامة، لكن نفسه تسمو عن أن ينظر إلى سوءة غيره. أحد المؤرخين ينقل هذه الحادثة ويقول: فانصرف علي عنه وولى بوجهه دونه، وكان علي لم ينظر قط إلى عورة أحد حياء وتكرمًا وتنزهًا عما لا يحل. ولما رجع عمرو إلى معاوية قال له: يا عمرو احمد الله واحمد عورتك التي نجتك!

ويذكر التاريخ أن الإمام الحسن بن علي اجتاز على غلام أسود بين يديه رغيف يأكل منه، وكان إلى جانبه كلب، فكان يأكل لقمة ويدفع للكلب لقمة أخرى. فسأله الإمام : لماذا تشرك الكلب معك؟ فقال: إني لاستحي أن آكل ولا أطعم هذا الحيوان الجائع.

ونقرأ في ديوان الشريف الرضي قصيدته التي يمدح فيها عمر بن عبدالعزيز، الخليفة الأموي الذي رفع سب أمير المؤمنين ، يقول الشريف الرضي:

يا ابنَ عبدَ العزيزِ لو بكت العينُ فتىً من أميةٍ لبكيتُكْ
أنت نزهتنا عن السَّبِ والقذفِ فلو أمكن الجزاءُ جزيتُك
ولو اني رأيتُ قبرَك لاستحييتُ من أن أرى وما حييتك

ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: (ما ضاع حق خلفه مطالب).

حينما يعتدي ظالم على حقوق الآخرين، فإن على هؤلاء الناس التمسك بحقوقهم، وأن لا يستسلموا لقوة الظالم وبطشه، وأن يستمروا في المطالبة بحقوقهم، ذلك لأن صاحب الحق إذا ترك المطالبة بحقه ضيعه، فالظالم لم يأخذ حق الغير قرضًا أو استعارة لكي يعيده فيما بعد، بل أخذه عدوانًا وغصبًا، والحق إنما يحفظ بالمطالبة، مهما تقادم الزمن، فقد يكون الظالم قويًا في وقت من الأوقات ولكن هل تدوم القوة لأحد في هذه الحياة؟ علي يقول: (لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك) هذه طبيعة الحياة (وتلك الأيام نداولها بين الناس).

على الإنسان أن يستمر في المطالبة بحقه، ويكافح لاسترداده وإذا كان ضعيفًا فان تمسكه بحقه يدفعه ليجتهد في تحصيل وسائل القوة والمنعة حتى يصل إلى مستوى انتزاع حقه.

نقول هذا ونحن نُحيّي انتفاضة إخواننا الفلسطينيين الذين انتفضوا في الذكرى الثالثة والستين لذكرى النكبة التي اصابتهم عام 1948م. في تلك الحادثة جاءت عصابات الصهاينة وبدعم من الأجانب البريطانيين والغربيين وأغاروا على مناطق الفلسطينيين وعاثوا في مدنهم، فدمروا أكثر من 531 قرية، وأخرجوا الناس من بيوتهم ومزارعهم وانتزعوا ممتلكاتهم، وهجّروهم من أراضيهم وأراضي آبائهم وأجدادهم، حيث هجّر أكثر من 750 ألف فلسطيني لكي يعيشوا لاجئين في الدول المجاورة، وجاء المحتلون الغاصبون بمستوطنين يهود اجانب من مختلف مناطق العالم وأحلوهم محل ذلك الشعب! طردوا معظم القبائل البدوية التي كانت تعيش في صحراء النقب، ولإخفاء الهوية الفلسطينية بدلوا أسماء المناطق والقرى والأراضي. وقد ارتكبوا في حق الفلسطينيين العزل المجازر، وعدد المجازر الموثقة أكثر من 30 مجزرة رهيبة، وهناك أكثر من 15 ألف فلسطيني ذبحوا من الرجال والنساء والأطفال.

هكذا جاء اليهود ودعمهم البريطانيون والغرب وأمريكا، وبنوا لهم أقوى ترسانة عسكرية في المنطقة, وبدءوا يمارسون أسوأ أنواع القتل والبطش والتنكيل لكي يحتلوا هذه المنطقة بالقوة، والفلسطينيون بفعل هذا التحالف ضدهم، وبفعل عدم استعدادهم والتخلف الذي كانت تعيشه الأمة العربية والإسلامية كانوا ضحايا لهذه النكبة وهذا العدوان الغاشم، ولكن ما يحمد لهم أنهم تمسكوا بحقهم، فلم يتنازلوا عن حق العودة، لم يتنازلوا عن استرداد وطنهم المحتل، وقدموا الضحايا على مدى 63 عامًا، لم تمر سنة لم يقدموا فيها المئات أو الآلاف من الضحايا داخل الأراضي المحتلة وخارجها.

كانت اسرائيل تراهن على أن ينسى الفلسطينيون قضيتهم, وشجعوا على قبولهم في مختلف البلدان وتقديم الإغراءات بترتيب أوضاعهم في الدول المتقدمة كأمريكا وأوروبا وغيرها، لكنهم رفضوا كل ذلك, ولم ينس الفلسطينيون وطنهم يوماً بل أورثوا أولادهم حب وطنهم، وربوهم على النضال من اجله. وهكذا نجد أجيالًا من المقاومة جيلًا بعد جيل، وهذا ما نراه في غزة الصمود وفي الضفة الغربية, ومختلف أرجاء الشتات الفلسطيني في العالم, من نضال ومقاومة وإصرار على حق العودة، وفي هذا تجسيد لما قاله أمير المؤمنين : (ما ضاع حق خلفه مُطالب).

وعلينا أن نتذكر بأن الحق الجمعي لا يصح أن يرمى على عاتق جهة معينة والباقون متقاعسون. نحن نرى بأن الفلسطينيين لم تكن مقاومتهم ومطالبتهم بحقوقهم ضمن رقعة مخصوصة، وفئة محدودة، بل أنهم بمختلف شرائحهم وتوجهاتهم يناضلون وبأشكال مختلفة. فإلى جانب المجاهدين المقاتلين والفدائيين الابطال, هناك من يناضل بالفكر والقلم، وكان لهم دور في تأسيس مراكز للدراسات والأبحاث، ومراكز للإعلام والعمل السياسي. المطالبة بالحقوق لا تنحصر في شكل من الإشكال وإنما ينبغي أن تتكامل الأبعاد حتى تشكل بمجملها قوة قادرة على انتزاع الحق وإعادته إلى أصحابه.

في هذه السنة كانت ذكرى النكبة مميزة فلأول مرة يحصل هناك زحف جماهيري من قبل مئات وألوف من الفلسطينيين باتجاه حدود فلسطين، في لبنان والاردن، وفي هضبة الجولان بسورية، وقد تحدوا العدو الذي أطلق عليهم النار لإرهابهم وقدموا عددًا من الشهداء, أكثر من 16 شهيداً و170 جريحاً، ولكنهم أصروا أن يعبروا عن حقهم في العودة. إن الفلسطينيين اليوم أقرب لاستعادة حقهم من أي وقت مضى، فالأوضاع الدولية والعربية مؤهلة لذلك. في الماضي كان الفلسطينيون يواجهون حكومات عربية مجاورة تعرقل جهودهم ومسيرتهم، وقد رأينا كيف كان بعضهم يستخدم وسائل التضييق والحصار ضدهم كما كان هذا بارزًا في دور الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، عمل حواجز من الحديد والفولاذ على الحدود حتى لا يتمكن الفلسطينيون من حفر الأنفاق وتجاوز الحصار.

هذا الوضع تغير الآن أو هو في طريقه للتغيير, وستكون الشعوب أفضل عون للفلسطينيين على استعادة حقوقهم.

وقد بدأ أثر ذلك في التوجه للمصالحة الفلسطينية الذي سيشكل أهم قوة لدعم المقاومة والنضال الفلسطيني، ولهذا فإن إسرائيل وأمريكا منزعجون من هذه المصالحة.

إننا نأمل أن نرى فلسطين والقدس الشريف وقد تحرر من قبضة الصهاينة. وما ذلك على الله بعزيز.

نسأل الله النصر للفلسطينيين ولجميع الشعوب المستضعفة.