الخطبة الأولى: قبس من توجيهات الإمام الباقر، الخطبة الثانية: رعاية السجناء
ورد عن الإمام محمد بن علي الباقر أنه قال: (إن استطعت أن لا تعامل أحدًا إلا ولك الفضل عليه فافعل).
يحتفي المسلمون الشيعة بذكرى ميلاد الإمام محمد بن علي الباقر الذي يصادف يوم الجمعة غرة شهر رجب الأصب، وبهذه المناسبة العظيمة نتناول أمرين:
لنأخذ شيئًا من أحاديث وكلمات هذا الإمام العظيم كهدية قيمة في ذكرى مولده المبارك، فإن أفضل ما يُحتفى به في ذكرى مناسبات الأئمة الأطهار هو تذكر سيرتهم والأخذ بتعاليمهم. ونتأمل ما روي عنه : (ان استطعت أن لا تعامل أحداً إلا ولك الفضل عليه فافعل).
يسعد البعض من الناس إذا نال من الآخرين شيئاً، لكن أهل الفضل يشعرون بالسعادة أكثر حينما يعطون الآخرين. ولذلك ورد في الحديث (الخلق عيال الله وأحب الخلق إليه أنفعهم لعياله) وجاء أيضًا: (خير الناس أنفعهم للناس) إذا قابلت أحدًا من الناس ففكر كيف تنفعه، فكر أن تعطيه ولو فكرة يستفيد منها، فكر أن تستقبله بكلمة تسر قلبه ( الكلمة الطيبة صدقة). وليكن تعاملك هذا مع القريب والبعيد، مع الزوجة والوالدين والأولاد والأقربين وكل من حولك، حتى من يصلي عن يمينك أو عن شمالك.
إن هذا الشعور الجميل، وهذا التعامل الحسن إذا انتشر في أوساط الناس يخلق مجتمعًا متكاملًا راقيًا، ولذلك أكدت عليه النصوص الشرعية، ومنها ما نجده في مسائل البيع ضمن المسائل الفقهية أنه يستحب للإنسان أن يأخذ ناقصًا عند الشراء وأن يعطي زائدًا عند البيع. تربية للإنسان المسلم حتى يكون في موقع العطاء والبذل للآخرين.
هكذا يربينا الإمام الباقر ويدعونا إلى أن نكون في موقع التفضل والمبادرة.
شهر رجب شهر مبارك كما دلت عليه النصوص والأحاديث، فعلينا ونحن نعيش بركات هذا الشهر الكريم أن نشعر بأننا نعيش في زمن متميز له من الفضل عند الله تعالى الكثير، فلا ينبغي أن يمر دون أن نستفيد من بركاته. يروي الإمام جعفر الصادق عن جده رسول الله أنه قال: (رجب شهر الاستغفار لأمتي فأكثروا فيه الاستغفار فإنه غفور رحيم، ويسمى الرجب الأصب لأن الله صب الرحمة على أمتي فاستكثروا فيه من قول استغفر الله واسأله التوبة).
كما أن جسم الإنسان يحتاج إلى كشف دوري للتأكد من سلامته، فإن روح الإنسان أيضًا تحتاج إلى كشف دوري للتزود بطاقة الإيمان والاتصال بالله تعالى، ولصيانة النفس. وهنا يتجلى معنى الاستغفار، فهو ليس مجرد قول، وإنما هو إقرار بمكامن الضعف وعقد العزم على مجانبة الأخطاء، والعودة إلى الطريق الصحيح وذلك في مختلف المجالات. وقد ورد عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم : (رجب شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات ويمحو فيه السيئات).
في هذا الشهر الكريم مستحبات كثيرة على الإنسان أن يأخذ ما يمكنه منها. ومنها صيام الشهر كله، أو نصفه، أو ثلثه, أو عشره، أو ثلاثة أيام منه، أو على الأقل يوم منه حتى يكتب في الرجبيين. عن علي بن سالم عن أبيه قال: دخلت على الإمام جعفر بن محمد الصادق في رجب وقد بقيت منه أيام فلما نظر إليّ قال لي يا سالم: (هل صمت في هذا الشهر شيئًا؟) قلت: لا والله يا ابن رسول الله. فقال لي: (لقد فاتك من الثواب ما يعلم مبلغه إلا الله عز وجل، إن هذا شهر قد فضله الله وعظم حرمته وأوجب للصائم فيه كرامته). ومن مستحبات هذا الشهر العمرة، وقد سئل الإمام الصادق : (أي العمرة أفضل: عمرة في رجب أو عمرة في شهر رمضان؟ فقال: لا بل عمرة في رجب أفضل). وعنه : (المعتمر يعتمر في أي شهر من شهور السنة، ولكن أفضل العمرة عمرة في رجب). ومن المستحبات الأكيدة الصدقة على الفقراء والمحتاجين.
نسأل الله أن يوفقنا للإقبال على طاعته والانتفاع بخيرات وبركات هذا الشهر الكريم.
ورد عن الإمام محمد الباقر أنه قال: (إن عليًا أمير المؤمنين قال للحسن والحسين بعد إصابته: احبسوا هذا الأسير – عبدالرحمن بن ملجم - وأطعموه واسقوه وأحسنوا إساره). وفي رواية أخرى قال لما أوتي بابن ملجم أسيرًا عنده: (إنه أسير فأكرموا منزله وأحسنوا مثواه).
السجن عقوبة قديمة في تاريخ المجتمعات البشرية, تختلف أسبابها ومواردها باختلاف المجتمعات والقوانين السائدة فيها.
وقد أقرت الشريعة الإسلامية هذه العقوبة لبعض الجرائم والانحرافات, وليس من موارد السجن في الإسلام السجن من اجل تبني رأي فكري أو سياسي, إلا إذا كان دافعاً بالفعل لعدوان أو مخالفة للنظام العام.
فبعد واقعة النهروان سمع بعض أصحاب الإمام علي شخصاً يقال له: أبا العيزار الطائي, وهو يجهر برأي الخوارج, ونقلوا حديثه. فقال الإمام علي : ما اصنع به؟
قالوا: تقتله.
قال الإمام: اقتل من لا يخرج علي؟
قالوا: تحبسه.
قال: وليست له جناية احبسه عليها. خلوا سبيل الرجل.
وإذا كان السجين قد سجن بسبب جناية قام بها، أو خطأ ارتكبه، فان سجنه لا يجرده من حقوقه. ما دام قد أصبح أسيرًا فأمره بيد الجهة التي سجنته، فتكون مسؤولة عن الاهتمام بشؤونه ومراعاة حقوقه. وقد اهتم الإسلام كثيرًا بأمر السجناء، ويتفق الفقهاء المسلمون سنة وشيعة على أن أول شيء ينبغي على القاضي فعله عندما يتبوأ منصبه في مجلس القضاء أن ينظر في حال السجناء لأن الحبس عذاب فيخلصهم منه، ولأنه قد يكون منهم من تم عليه الحبس بغير الحق.
إن من حق كل سجين أن تدرس حالته، ويحال للقضاء للبت في حكمه، فكم من سجين يبقى في السجن مدة طويلة لا يدري ما مصيره، وما هو جرمه و عقابه، وهذا بحد ذاته عذاب، فالانتظار أشد من القتل.
ومن حق السجين أيضًا أن يسجن في مكان يناسب كرامته الإنسانية، كان أمير المؤمنين يوصي خيرًا بسجينه وهو قاتله، والذي قام بأبشع جريمة وهي قتل رأس السلطة الشرعية فإن أمير المؤمنين قال: (ألينوا فراشه وأحسنوا مطعمه ومشربه). بل كان يرفع من طعامه وشرابه ويقول: (احملوه إلى أسيركم).
هذه ليست مجرد منقبة لعلي ، بل إن في ذلك توجيهاً للأمة، وكان أمير المؤمنين كما يروي الإمام الباقر يخرج من كان في الحبس في دين أو تهمة إلى الجمعة فيشهدونها ويضمنهم الأولياء حتى يردونهم. هناك ثلاثة أبعاد ينبغي مراعاتها مع السجين:
الأول وضعه في السجن. بأن يعامل معاملة كريمة تليق به كإنسان، وأن يراعى وضعه الصحي والنفسي، وأن يتمتع بكامل حقوقه حتى بالنسبة للأمور الترفيهية.
الثاني وضعه العائلي. فإذا كان هو قد أجرم فما ذنب عائلته؟ ينبغي أن تكون هناك مراعاة وتفقد لأحوال عائلة السجين، سيما إذا كان السجين هو رب الأسرة أو المعيل لها، فإن حالها يسوء بدونه. فلا ينبغي أن نصيّره وبالًا على أسرة كاملة ليس لها ذنب، ونتركها في مهب الأخطار والجرائم.
الثالث تأهيل السجين لما بعد السجن. في كثير من الأحيان عندما يطلق سراح السجين ويخرج لمجتمعه فإن نظرات شزراء تلاحقه، وتشعره بأنه عار على المجتمع، ولا محل له فيه. وهذه نظرة غير صحيحة، كل إنسان معرض للخطأ، ولكن معاملته بهذه القسوة والجفاء يزيد من شقائه، بل يرجعه إلى طريق الفساد إذا ما كان قد فكر في التوبة. ينبغي علينا أن نفكر كيف نعيد تأهيل السجين للاندماج مجددًا في المجتمع وأن نساعده على إصلاح نفسه وسلوكه، ففي ذلك مصلحة له وللمجتمع.
في عام 1422هـ تأسست في المملكة العربية السعودية (الجمعية الوطنية لرعاية السجناء) وأطلق عليها اسم (تراحم)، ولها 15 فرعًا في مختلف مناطق المملكة، وهي لجنة خيرية ذات شخصية اعتبارية مستقلة مقرها الرياض، ومصرحة رسميًا يرأس مجلسها وزير الشؤون الاجتماعية، وتمول من الدولة ورجال الأعمال ومن الصدقات والزكوات. مهمتها الاهتمام بشؤون السجناء وتفقد أوضاعهم داخل السجن، والنظر في قضاياهم، فكمٍ من قضية سهلة يسجن صاحبها لمدة طويلة وهي لا تحتاج أكثر من التفاتة من أهل الخير. وكذلك من مهامها الاهتمام بأوضاع عوائل السجناء، والتفكير في تأهيل السجين وإصلاح سلوكه وإعادته للمجتمع عنصرًا صالحًا.
ونحن بحاجة ماسة إلى فرع لهذه الجمعية في منطقتنا، وإلى أن يكون عندنا اهتمام أهلي بموضوع السجناء. فالسجناء جزء من المجتمع ولا ينبغي أن نتخلى عنهم، علينا أن نهتم بأمورهم، وأن نتواصل معهم سيما في المناسبات العامة كالأعياد. وفي ذلك يتحقق أمن المجتمع وسلامة أفراده.
يصادف هذا الأسبوع ذكرى مرور خمسين عامًا على تأسيس منظمة العفو الدولية، وإننا إذ نتحدث عنها لا لنمجد كل أدوراها، ولكن لنقول نحن كمسلمين أولى بمثل هذه المبادرات. فهذه المنظمة بحكم انطلاقها من بيئة غربية فهي تنتمي إلى قيم وثقافة تلك البيئة, وتتأثر بالمصالح السياسية، ولكن هذا لا يعني أن نتجاهل جوهر الفكرة في حركة هذه المنظمة.
هذه المنظمة تأسست على يد محام بريطاني اسمه (بيتر بيننسون) عام 1961م، حيث سمع عن سجن طالبين شابين من البرتغال حكم عليهما بالسجن سبع سنين لمجرد تبنيهما رأيًا سياسيًا. تألم لوضعهما وفكر أن يضغط على السلطة البرتغالية لإطلاق سراحهما، فأخذ يمطرها بوابل من الرسائل المطالبة بالإفراج عنهما، وأقنع آخرين بفكرته، وكوّن لجنة من أجل الاهتمام بالسجناء والإفراج عنهم، ثم تحولت الفكرة إلى مؤسسة دولية عالمية. وهي تضم الآن أكثر من ثلاثة ملايين نصيراً وعضوًا وناشطًا في أكثر من 150 بلد من أنحاء العالم. مهمتها الدفاع عن سجناء الرأي بغض النظر عن انتماءاتهم ومناطقهم، وأديانهم، وما أحوجنا كمسلمين إلى هذا التفكير الإنساني، ومع الأسف حتى الأمور الإنسانية أصبحت مؤطرة لدينا بأطر ضيقة دينية ومذهبية وعرقية وقبلية. الشيعي قد يهتم بسجناء الشيعة ولا يهتم بسجناء أهل السنة، والسني قد يهتم بالسجناء السنة ولا يعير اهتمامًا للسجناء الشيعة! بلغني انه قام بعض المتبرعين في شهر رمضان بتقديم وجبات إفطار صائم للسجناء في أحد سجون المنطقة, لكنهم اشترطوا على إدارة السجن أن تخصص الوجبات للصائمين من أهل مذهبهم فقط.
هذا تفكير ضيق وعلينا أن نحارب هذه الأفكار، وأن نستفيد من الجمعيات الموجودة للاهتمام بالسجناء. وأرجوا أن يوفق الله الطيبين ويسعوا لتأسيس هذه اللجنة لرعاية السجناء والاهتمام بهم.
هذه ثغرة في العمل التطوعي الخيري في المجتمع لا تزال شاغرة ونأمل أن يسدها المبادرون من أهل الخير.