استدعاء الوصاية الدولية
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
ترتكز الحياة على منظومة من السنن والقوانين، وأي مخالفة من الإنسان لشيء من هذه السنن والقوانين فسوف يواجه ارتداد ذلك عليه. إن ما تحمله الشرائع السماوية من أحكام وضعت لتكون منسجمة مع سنن الحياة وقوانين الكون، ولكن الإنسان قد لا يعرف الكثير من مضامين هذه السنن والقوانين فيقوم باختراقها، ولربما علم ولكنه يتساهل في الالتزام، أو يغفل عن ذلك، فترتد عليه المضاعفات. لذلك فإن معظم ما يصيب البشر من مفاسد وأضرار هو بسبب مخالفتهم لسنن الحياة، ورد عن الإمام محمد الباقر : (ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب) وفي الآية الكريمة يقول تعالى: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر﴾ والفساد هو الخلل، وهو مقابل الصلاح، هذا الخلل الذي أصاب مختلف مجالات الحياة, وحسب تعبير الآية: ﴿في البر والبحر﴾. انما يحصل: (بما كسبت أيدي الناس) لأنهم خالفوا القوانين والسنن الحاكمة على الكون والحياة, جهلًا أو تساهلًا فارتدت عليهم المضاعفات. وورد عن الإمام علي الرضا : (كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون) أي كلما اخترق البشر قوانين وسننًا في هذه الحياة ظهرت لهم بلاءات لم يكونوا يعرفونها، كما نشهد في كل فترة انتشار مرض من الأمراض.
مرّ على العالم البشري ثلاثون عامًا لظهور مرض الإيدز، حيث تم اكتشافه عام 1981م في وسط مجموعة من الرجال المثليين في لوس أنجلوس بكالفورنيا من قبل الطبيب الأمريكي مايكل غوتليب. وبهذه المناسبة عقدت الأمم المتحدة في نيويورك بتاريخ 8 يونيو 2011م مؤتمرًا شارك فيه رؤساء ووزراء ومستشارون من ثلاثين دولة لتقويم ودراسة وضع هذا المرض في العالم. حيث إن انتشاره يهدد المجتمع البشري، فقد نشرت منظمة الأمم المتحدة إن 34 مليون شخص مصابون حالياً بمرض نقص المناعة المكتسب "إيدز" حتى نهاية العام الماضي، في وقت كشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" عن وجود أكثر من 16 مليون طفل يتيم بسبب المرض. وجاء في تقرير الأمم المتحدة أن ستين مليونًا أصيبوا بالمرض منذ بداية انتشاره في الثمانينيات وإن ثلاثين مليونًا منهم توفوا.
ويصاب سبعة آلاف شخص في العالم كل يوم بمرض الايدز منهم ألف طفل يومياً.
هذا المرض الخطير الذي أقلق العالم ما حقيقته؟ وما هي أسبابه؟
من حكمة الله سبحانه وتعالى أن خلق في جسم الإنسان جهاز مناعة، فقد يواجه جسم الإنسان ميكروبات ودخول أجسام غريبة كالجراثيم، وذلك يسبب له خللًا وأمراضًا، ودور هذا الجهاز الذي يتكون من كريات الدم البيضاء ضمن مجموعة خلايا يطلق عليها الخلايا اللينفاوية تتصدى لمكافحة ومقاومة هذه الميكروبات والأجسام الغريبة الوافدة إلى الجسم. وقد حيّر هذا الجهاز المكافح لحماية الإنسان من داخله الأطباء والعلماء، حيث أنهم يرون بأن الجنين حينما يتكون في رحم المرأة، يكون نصفه من الأب فهو جسم غريب، ولكن جهاز المناعة مسالم معه، ولا يقوم بمهاجمته! وحين يقوم الأطباء بزراعة عضو جديد كالكلية أو الكبد في جسم الإنسان فإنهم يواجهون مشاكل مع جهاز المناعة، فإذا أضعفوا هذا الجهاز تضرر جسم الإنسان، وإذا مكّنوه فإنه يرفض الجسم الجديد. وهذا كله يدل على قدرة الله وحكمته البالغة.
لكن هذا الجهاز المقاوم للميكروبات والجراثيم الغريبة قد تدخل عليه (فيروسات) تقوم بمهاجمة كريات الدم البيضاء التي يتشكل منها نظام المناعة، وعندها يبدأ جسم الإنسان بالتضعضع، وأي جرثومة تصيبه تفتك به، حتى ينتهي به الأمر غالبًا إلى الوفاة.
الإصابة بهذا الفيروس الذي يقضي على جهاز المناعة يسمى مرض الإيدز، ويعرف علميًا بأنه اعتلال خطير ينتج عن عجز مقدرة أجهزة المناعة في الجسم على محاربة الأمراض.
السبب الأول: عن طريق الاتصال الجنسي سيما الاتصالات الجنسية غير المشروعة كالعلاقات الشاذة (اللواط) أو ممارسة الجنس مع المومسات.
السبب الثاني: انتقال الدم الملوث إما بداعي العلاج، أو بسبب أمور عادية مثل موس الحلاقة، وكذلك الحقن التي يستخدمها مدمنو المخدرات، ولذلك يزداد انتشار مرض الإيدز في أوساط المدمنين.
السبب الثالث: نقل الأم المصابة المرض إلى جنينها.
هذا المرض سببه الرئيس الذنوب والمعاصي التي يرتكبها البشر حينما تكون العلاقات الجنسية خارج الإطار المشروع، وحينما لا يكون هناك مراعاة لسائر القوانين والأنظمة الصحية. كانت مجتمعاتنا الإسلامية بعيدة عن هذه المنزلقات، لكن بسبب الانفتاح على المجتمعات الأخرى, وحصول الانحرافات الجنسية، أصبحت مجتمعاتنا مهددة بانتشار هذه الأمراض. تقول إحدى المصابات لاحدى الصحف: "أنا ضحية زوجي لا سامحه الله فقد نقل لي المرض بعد سفره إلى تايلاند ويبدو أنه التقط المرض من إحدى المومسات ونقله لي.. وأنا الآن في انتظار الموت ولا يؤرقني إلا ترك بناتي دون أم بعد أن ضيعنا الأب".
وحسب إحصائيات رسمية فانه في المملكة العربية السعودية منذ عام 1989 وحتى 2009م رصدت 15.213 حالة إصابة بالايدز، وقد مثلت العلاقات الجنسية حوالي 95% من طرق العدوى، تليها العدوى من الأم إلى الجنين 3% ثم تعاطي المخدرات بالحقن 2%. هذا الرقم هو ما دعا إلى تكوين جمعية تعنى بالوقاية من هذا المرض، والعناية بالمصابين به فصدر قرار وزير الشؤون الاجتماعية بتاريخ 22/9/1429هـ بتسجيل "الجمعية السعودية الخيرية لمرضى الايدز" بمحافظة جدة، تكون مهمتها المساعدة في علاج المصابين، والعناية بأوضاعهم الاجتماعية حيث أن المصاب قد يعاني من تهميش وعزل اجتماعي، في حين أن اكتساب المرض ليس دائمًا بسبب الانحراف الجنسي أو الإدمان فقد يحصل بسبب العدوى، والناس لخوفهم من العدوى فإنهم حذرون جدًا في التعامل مع المصابين به. ويكلف علاج المريض الواحد في السنة 120 ألف ريال، وسعر أقل عبوة دواء تصل قيمتها 5000 ريال. ومنذ ثلاث سنوات اعتمد فحص الايدز ضمن الفحوصات التي تجرى قبل الزواج، وتكلفة فحص الايدز يكلف من 2000 إلى 3000 ريال.
نحن بحاجة إلى التوعية بهذا المرض، وأسباب حصوله، وكيف نتعامل مع المصاب؟ فالمصاب إنسان وقد تكون إصابته ناتجة عن عدوى وليست عن إجرام، وحتى لو كانت بسبب الانحراف فهي لا تعني أن نتجاوز حقوقه كإنسان، ونتخلى عن العناية به.
تسعى منظمة الأمم المتحدة إلى القضاء على الإيدز بحلول عام 2015 وتحقيق ما سمي بالأصفار الثلاثة وهي: صفر الإصابة بالمرض، وصفر في نسبة الوفيات الناجمة عن المرض، وصفر في ممارسة التمييز ضد مرضى الإيدز.
ويتوجب علينا كمسلين أن نكون أول من يحارب هذا المرض بعلاج أسبابه، وأهمها الالتزام بقوانين وسنن الحياة التي بينها القرآن الكريم، وأبرزها ديننا القويم. كما ان علينا التفاعل مع التوصيات والبرامج الدولية للتعامل مع هذا الداء على المستوى الرسمي والأهلي.
نسأل الله تعالى أن يحمينا جميعاً من كل شر، وان يجنبنا البلاء والأسقام.
﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾.
اراد الله سبحانه وتعالى أن تبقى الأمة الاسلامية متمسكة بعزتها وكرامتها، مستقلة في قراراتها، بعيدة عن أي هيمنة أجنبية من أي طرف كان. والسبيل إلى ذلك لا يتحقق إلا اذا سلكت الأمة طريق الوحدة والتآلف، والعمل والبناء, والتضحية والعطاء. غير أن واقع الأمة اليوم بات مؤلما إلى درجة أضحى معها المسلمون أنفسهم يستغيثون بالقوى الأجنبية للتدخل لانقاذهم من الويلات التي يتجرعونها من حكامهم المستبدين.
ان الآية الكريمة تحدد الوضع الأمثل الذي يجب أن تكون عليه الأمة، فالله سبحانه وتعالى لن يجعل للكافرين طريقا يمكنهم من السيطرة على المؤمنين، ولا يريد الله لهذه الأمة أن تكون خاضعة لأية هيمنة أجنبية، ولكن السؤال هل تحقق هذا الواقع للمؤمنين؟
لقد اختلف المفسرون في تفسيرهم للآية الكريمة ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ فمنهم من رأى أنها في معرض الحديث عن مراتب المؤمنين والكافرين في الآخرة، وأن المؤمنين لابد وأن يكونوا في مرتبة العلو والنصر على غيرهم هناك، فيما رأى فريق آخر من المفسرين أن الآية ذات مفهوم عام ينطبق على الحياة الدنيا كما الآخرة.
وقد استشهد الفريق الأول بمطلع الآية الكريمة ﴿والله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل لله للكافرين على المؤمنين سبيلا﴾ في الدلالة على أن معنى الآية مختص بيوم القيامة. وأورد السيوطي في الدر المنثور عن علي : ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ أي في الآخرة. وقد ذهب بعض المفسرين إلى القول بأنه لن يكون للكافرين حجة ومنطق أقوى من حجة ومنطق المؤمنين. فلا سبيل لهم على المؤمنين في مجال الحجة والدليل والبرهان.
فيما يرى الفريق الآخر من العلماء والمفسرين أن الآية لا تختص بالآخرة، ولا تختص باثبات قوة الحجة والمنطق لدى المؤمنين، وإنما تشير أيضًا إلى الواقع الحياتي للمؤمنين بأن يكون عصياً على إرادة الأعداء. وقد أصبحت الآية قاعدة فقهية: ففي عالم التشريع لم يجعل ولن يجعل الله حكمًا يكون موجبًا لسبيل وسلطان للكافرين على المؤمنين. ولذلك لم يجز الفقهاء بيع عبد مسلم على كافر، ولا يقر على ملكيته، ولا تبقى زوجة الكافر المسلمة على زوجيتها له, ولا يرث كافر مسلمًا. وتلك بعض المصاديق الجزئية لتطبيقات هذه القاعدة والمبدأ العام, وهو عدم الخضوع لهيمنة اجنبية. فلا يصح ان يتخذ في بلاد المسلمين قرار أو إجراء يتيح المجال لنفوذ الأعداء وهيمنتهم.
ولكننا هنا بإزاء اشكال قائم إذا نظرنا إلى الواقع التاريخي للمسلمين, فقد كانوا واقعين في عهود كثيرة تحت هيمنة الكافرين وسيطرتهم، وكأن الواقع يناقض الآية الكريمة!. وقد أجاب العلماء على هذا الاشكال بأن ذلك عائد إلى خلل في التزام الإيمان، فلو كان هؤلاء المسلمون يطبقون الإسلام بشكل صحيح لما أتاحوا فرصة للأعداء للسيطرة عليهم. لأن الأمة التي تلتزم بإيمانها التزامًا صحيحًا لن تترك للكافرين مجالًا للهيمنة عليها، وإذا ما اعتدي عليها فإنها ستقاوم وتمانع.
وقعت الشعوب العربية والإسلامية تحت وطأة الاستعمار فور سقوط دولة الخلافة الاسلامية، فتقاسم الغربيون بلاد المسلمين، وبسطوا نفوذهم فيها، الأمر الذي قابله المسلمون بمقاومة طويلة حاربت هؤلاء المستعمرين حتى أخرجتهم من أراضيها، غير أن المؤسف أن الوجود الاستعماري لم يبرح مكانه، فقد خرج - كما يقال - من الباب وعاد من النافذة!
وقد خرجت القوات العسكرية الاجنبية من البلاد الاسلامية ابان ما عرف بمرحلة التحرر من الاستعمار، غير أن المستعمرين أنفسهم بقوا يتحكمون بمقاليد الأمور من خلف الستار. فقد كان الحكام الذين حكموا معظم بلدان المسلمين أبعد ما يكونون عن مجتمعاتهم، ولم يكونوا يحملون أي قدر من روح العزة والكرامة. ولهذا أطبق المستعمرون سيطرتهم عبر هؤلاء الحكام الذين كانوا يستقوون بالدعم الأجنبي على شعوبهم.
لقد رفضت الشعوب الإسلامية سلوك هؤلاء الحاكمين, وينقل في هذا السياق أن الملك فيصل الأول الذي نصبه البريطانيون حاكما على العراق عند انسحابهم بعد ثورة العشرين, حضر حفلاً للاحتفاء بتنصيبه, فارتقى المنصة السيد صالح الحلي, وهو خطيب مرموق, وانشد قائلاً:
عش في رفاه ونعمى | من الحقيقة أسمى |
فصفق له الحاضرون بحرارة، لكنه فاجأهم بالبيت الثاني:
فأنت للمك اسم | والانجليز المسمى |
وقد عرف في تلك الآونة أن لكل وزير في العراق مستشاراً بريطانياً تكون له كلمة الفصل في كل أمر، حتى قال الشيخ محمد رضا الشبيبي:
قالوا استقلت في البلاد حكومة أحكومة والاستشارة ربها المستشار هو الذي شرب الطلا |
فعجبت أن قالوا ولم وحكومة فيها المشاور يعبد؟ فعلام يا هذا الوزير تعربد؟ | يتأكدوا
وما أن قال هذا البيت الأخير حتى ارتجت القاعة تصفيقًا وهتافًا، مطالبين إياه باعادة البيت، وكان من بين الحاضرين آنذاك رئيس الوزارء العراقي نوري السعيد، فعدل الشيخ الشبيبي عمامته وأعاد البيت بعد ان جعله أكثر صراحة قائلًا:
المستشار هو الذي شرب | الطلافعلاما يا «نوري السعيد» تعربد؟ |
وضمن ذات السياق الرافض للنفوذ الأجنبي المتستر انشد الشاعر العراقي معروف الرصافي أبيات شهيرة ابان زيارة تشارلز كراين مبعوث لجنة تقصي الحقائق المنبثقة عن مؤتمر باريس للسلام، والتي أرسلها الرئيس الأمريكي ويلسون إلى منطقة الشرق الأوسط للتأكد من رغبات شعوب المنطقة، فقال الرصافي ابياته الشهيرة:
جئت يا مستر كراين فانظر الشرق وعاين
فهو للغرب أسير أسرَ مديونٍ لدائن
قد ملكنا كل شيء نحن في الظاهر لكن
نحن في الباطن لا نملك تحريكًا لساكن
أفهذا جائز في الغرب يا مستر كراين؟
ذلك هو تعبير عن رفض الشعوب للنفوذ الأجنبي الذي كان يجري من خلف الستار. غير اننا اليوم بتنا نعيش مرحلة أخطر يجري فيها العمل على إعادة الوصاية الأجنبية الفعلية على بلاد المسلمين، عبر بسط النفوذ العسكري في المنطقة مجددًا. وقد رأينا في هذا السياق ما حصل في أفغانستان والعراق وما يجري في ليبيا الآن.
إلا ان الشيء الأكثر إيلاما من كل ذلك هو اتجاه شعوب المنطقة للاستغاثة بالقوى الأجنبية، وهي التي طالما حاربت هذه القوى المحتلة، كل ذلك نتيجة لتجرع هذه الشعوب الويلات من حكامها المستبدين. ولاشك أن القوى الأجنبية ستكون مستعدة تمامًا لفرض هيمنتها المباشرة مجددا باستغلال هذه الفرصة السانحة.
ان المدخل الرئيس لخطر تجدد النفوذ الأجنبي المباشر في بلاد المسلمين هو الخلل القائم بين الحكومات وشعوبها. لقد رأينا بعض الحكام الذين رفضتهم شعوبهم يتشبثون بالحكم بكل ما أمكنهم حتى لو اضطروا لأبادة شعوبهم!. ان على هؤلاء الحكام أن يرحلوا ليقف نزيف الدماء التي خضبت وجه الأرض، وأن عليهم أن يعوا نتيجة أفعالهم وأن يكتفوا بسنوات حكمهم الطويلة التي نهبوا فيها خيرات شعوبهم.
نسأل الله أن يمن على الأمة الإسلامية بالخلاص والأمن والاستقرار.