التجربة التركية وأولوية التنمية
روى إبراهيم بن محمّد الثقفي في كتاب الغارات بإسناده إلى مختار التمّار قال "أتى أمير المؤمنين سوق الكرابيس، فاشترى ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم، والآخر بدرهمين. فقال: يا قنبر، خذ الذي بثلاثة، قال: أنت أولى به يا أمير المؤمنين، تصعد المنبر وتخطب الناس. فقال: يا قنبر، أنت شابّ ولك شره الشباب، وأنا أستحيي من ربّي أن أتفضّل عليك، لأنّي سمعت رسول الله يقول: ألبسوهم ممّا تلبسون، وأطعموهم ممّأ تأكلون"[1] .
تورد الراوية ألآنفة جانبا مهما من هدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إزاء التعامل مع الخدم، ما أحرانا ونحن نعيش ذكرى ولادته أن نتتلمذ على سيرته المباركة، فإن أفضل إحياء لذكريات هؤلاء العظماء الطاهرين هو الاقتباس من هديهم والاستضاءة بسيرتهم. فلنا أن نتساءل هنا؛ كيف كان يتعامل الإمام علي مع خدمه؟
وقبل الإجابة على التساؤل آنف الذكر، نشير هنا إلى التطور الأبرز على صعيد العمالة المنزلية في العالم والذي حدث بالتزامن مع مناسبة ذكرى مولد الإمام علي هذا العام، حيث أقرت منظمة العمل الدولية يوم 16 يونيو 2011 في جنيف أول معاهدة دولية لحماية عمال المنازل في جميع أنحاء العالم. هذه الخطوة التي وصفتها المنظمة باللحظة التاريخية جاءت بموافقة 183 دولة عضوا فيها، وقالت أن المعاهدة ستضع ما بين 50 مليون و100 مليون خادم وخادمة تحت مظلة معايير العمل الدولية.
وبالعودة إلى الرواية الشريفة أعلاه، تشير الرواية إلى أن عليا ذهب ومعه خادمه قنبر إلى السوق واشترى ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين، وقد آثر الإمام خادمه على نفسه، فأخذ هو الثوب الأرخص وأعطى الأغلى لخادمه، فاعترض قنبر قائلا: يا أمير المؤمنين أنت أولى بهذا الثوب لأنك تصعد المنبر وتخطب في الناس فينبغي أن يكون ثوبك لائقا مناسبا، فأجابه الإمام بجوابين، الجواب الأول: قال أنت شاب ولك شره الشباب، ومؤدى ذلك بنظر الإمام أن كون قنبر شابا فينبغي أن يلبس ما يناسبه بين أقرانه، وأن من حقه أن يتمتع بشبابه. واتجه الإمام في جوابه الثاني ناحية التعليل الديني لموقفه حيث خاطب خادمه: إني أستحيي من ربي أن أتفضل عليك، فالإمام يستحي من الله تعالى أن يكون وضعه المعيشي أفضل من خادمه حتى وهو في موقع السلطة السياسية والسيد لهذا الخادم الشاب. إن هذا الموقف من الأمام يظهر إلى أي مدى كان خلقه والتزامه المبدئي إزاء هذه القضية الاجتماعية. ثم ينقل عن رسول في سياق التعليل: أني سمعت رسولِ الله ألبسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تأكلون. ولعل الدرس الأهم الذي أراد أن يقدمه لنا علي هو أن لا نشعر الخدم الذين تحت أيدينا ويعملون في منازلنا بأنهم في مرتبة دونية، اذ ينبغي أن يكون مستوى معيشتهم وملبسهم ومأكلهم مناسبا لحاجتهم الأساسية والاعتبارية كمراعاة فئتهم العمرية ووضعهم الاجتماعي, هذا هو الهدي الإلهي القيمي الذي أراد الإمام إيصاله لنا من خلال تعامله مع خادمه قنبر.
لقد حاز موضوع العاملين في الخدمة المنزلية على اهتمام دولي واسع، اذ يجري اليوم نقاش عالمي لمعالجة الأوضاع البائسة التي تواجهها العمالة المنزلية والبالغ عددها أكثر من 52 مليون خادم وخادمة على مستوى العالم. فالخدم غالبا ما تتقلص فرص إنصافهم عند مطالبتهم بحقوقهم ما داموا واقعين تحت سلطة غيرهم من أرباب العمل، ولذلك فإن نسبة كبيرة من الخدم تتعرض إلى سوء المعاملة. إن بلدنا غير مستثنى من هذه الحالة، فقد أصدرت منظمة "هيومن رايتس واتش" في يوليو 2008 تقريرًا جاء في أكثر من 173 صفحة بعنوان "كأنني لست إنسانة" تحدث عن وضع العاملات في المنازل السعودية والذين يزيد عددهم على مليون ونصف المليون عاملة. ولخصت نيشا فاريا الباحثة في قسم حقوق المرأة في "هيومن رايتس واتش" حالة العمالة المنزلية في المملكة بالقول "في أحسن الأحوال تتمتع النساء المهاجرات في السعودية بظروف عمل طيبة وأصحاب عمل طيبين وفي أسوأ الأحوال يعاملن كما العبيد.. ومعظم العاملات تتراوح معاملتهن بين هذين المستويين".
لقد جاء عنوان التقرير معبرا "كأنني لست إنسانة"، فهذه الخادمة لا تشعر بأنها إنسانة لها حقوق، وذلك بسبب سوء معاملة أرباب العمل وأصحاب المنزل معها، ففي كثير من الأحيان لا يكون وقت العمل محددًا، فالمعروف دوليًا أن ساعات العمل هي ثمان ساعات في اليوم، فيما نجد خادمات يشتغلن في كثير من الأحيان إلى 18 ساعة في اليوم، إن هذا العمل تكليف بما لا يطاق، فإذا كان لابد من أن تعمل الخادمة لأكثر من ثمان ساعات فيجب أن تعطى أجرًا إضافيا، وخلاف ذلك يصبح نوعا من الإجحاف والظلم.
كما يواجه بعضهن تأخرا في دفع الأجور والرواتب، وهذا زيادة في الظلم والاجحاف، زد على ذلك عدم إتاحة فرصة التمتع بعطلة أسبوعية، فكما هو معروف دوليًا بأن كل موظف وعامل يتمتع براحة أسبوعية ليوم أو يومين. وأخيرًا ما تتعرض له العاملات في بعض الأحيان من الإساءة والإهانة والتحرش والنظرة الدونية، إن هذا النوع من المعاملة السيئة يعد حراما وجرما كبيرا بحق هؤلاء البشر. وعلينا أن نعلم من ناحية دينية أن هذا العامل أو العاملة أن لم تسعفهما القوانين والأنظمة لأن ينتصفا لنفسيهما في الدنيا نتيجة قصور القوانين أو بسبب ضعفهما عن الدفاع عن حقوقهما، فعلينا أن نعرف بأن الله تعالى بصير خبير مطلع على عباده وأنه بالمرصاد لكل ظالم. ولنا أن نطلع على تراثنا الديني في هذا الصدد، فهناك كثير من النصوص التي تعلمنا كيف نتعامل مع الخدم والعاملين، ومنها ما ورد عن الأئمة الأطهار «ظلم الضعيف أفحش الظلم»[2] و«إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرًا إلا الله»[3] ، وقد روى الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه عن رسول الله أنه قال: "إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، فان كلفه ما يغلبه فليعنه"[4] .
وهناك - في السياق نفسه - مسألة مهمة ترتبط بالتعامل مع هذه العاملة وذاك العامل بالنظر لظروفهم الخاصة التي تصيب أي إنسان، من حالات الغفلة والنسيان والخطأ والاشتباه، إذ لا ينبغي للإنسان أن يصب جام غضبه على العامل حينما يخطئ أو يغفل. فقد ورد عن رسول الله أن رجلا جاءه فقال يا رسول الله: «كم نعفو عن الخادم؟ فصمت عنه ثم قال: اعف عنه كل يوم سبعين مرة»[5] . والمقصود بذلك أن يكون لدى الواحد منا المرونة والاستعداد لتحمل اخطاء العاملين تحت يده. ويروي أبو مسعود الأنصاري يقول كنت أضرب غلاما فسمَّعني من خلفي صوتا. اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود إن الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار»[6] .
ونحن نتساءل بدورنا، كيف تسمح نفوس البعض أن يصبوا جام غضبهم على خدمهم وعمالتهم, حتى أصبحت مشكلة قائمة ومادة دسمة في التقارير الحقوقية الدولية. وهذا الإمام علي بن موسى الرضا يعطينا درسًا آخر: فقد روى نوح بن شعيب، عن ياسر الخادم ونادر قالا: قال لنا أبو الحسن إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون، فلا تقوموا حتى تفرغوا، ولربما دعا بعضنا فيقال هم يأكلون فيقول: دعوهم حتى يفرغوا»[7] ، في مقابل ذلك نجد الكثير منا لا يقيم وزنا للعاملين لديه ولا يعير اهتماما للحياة والأوقات الخاصة بهم، والأسوأ من ذلك أن ينتقل تعاملنا السيئ مع الخدم إلى أولادنا فيتعاملون هم كذلك بقسوة وسوء أدب مع الخدم ويتربون على التعالي والغرور والتكبر عليهم.
من هنا، وفي ذكرى مولده الشريف، ينبغي أن نتعلم هذا الدرس من أمير المؤمنين في تعاملنا مع العاملين تحت أيدينا، والأهم من ذلك كله أن نعلم بأن الثواب لا يتمثل في العبادات كالحج والعمرة والزيارة وما شابه، بل أيضا في حسن التعامل مع الناس، كما أن العقاب الأكبر هو في ظلم الآخرين.
قال تعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل - 97].
الحياة الطيبة هي الوضع المعيشي الذي تطيب معه أمور الإنسان بحيث يكون مرتاحًا عبر تحقق أغلب احتياجاته في مختلف مجالات الحياة. ولا جدال بأن حياة الإنسان لا تتسق مع تحقق جانب حاجاته المادية على حساب حقوقه المعنوية كالكرامة والحرية وحق التعبد، فلابد وأن تتحقق له حاجاته المادية والمعنوية بالطريقة الملائمة حتى تكون حياته طيبة. لاشك بأن الدين يبشر بالحياة الطيبة في الدنيا، وبخلاف ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن المقصود بالحياة الطيبة هي الحياة في الآخرة، رأى أكثر المفسرين بأن المقصود بالحياة الطيبة هي في عالم الدنيا.
ينطوي مفهوم العمل الصالح الذي يقوم به الإنسان في الدنيا على أبعاد واسعة ولا ينحصر بأي حال في المجال الديني فقط، وإنما يشمل ذلك إعمار الأرض والتقدم الصناعي والزراعي وكل ما ينفع الناس ويسهم في تسهيل حياتهم. وعلى ذلك فالإنسان المؤمن بالمبادئ والقيم والذي يمارس الفاعلية بما يعود عليه وعلى غيره بالخير يبشره الله تعالى بحياة طيبة. هنالك الكثير من النصوص الدينية الدالة على أن رسالة الإسلام لا تقتصر على إسعاد المؤمن في الآخرة فقط، فيما تهمل وضعه الحياتي في الدنيا، بل على العكس من ذلك هناك دلائل كثيرة وواضحة تشير دون أدنى شك إلى أن هدفية الدين هي سعادة الناس في الدنيا كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، والآية الكريمة ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إلى جانب الآية الكريمة ﴿ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة﴾.
وهنا يكمن التحدي الأكبر أمام الإسلاميين في هذا العصر في خلق برامج تنموية تؤّمن للناس حياة طيبة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لا أن تكتفي بترغيب الناس بالآخرة وجنانها وحورها وإغفال أوضاعهم الحياتية، حتى لو كانت خرابا، في ظل انعدام أدنى المعايير الصحية، ونقص التطور العمراني، والتخلف الحضاري، وانعدام أبسط مقومات الحياة. إن التدين الحقيقي هو ذلك التدين الذي يدفع باتجاه ترتيب حياة الإنسان في الحياة. وقد ورد في الرواية «من كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل»[8] . لاشك أنه سيكون مخطئا إلى حد بعيد من يغفل عن السعي في ترتيب أموره الحياتية مبررا موقفه بأن الله سيعوضه بالآخرة خيرًا، حقيقة الأمر ليس هناك ضمانة للتعويض الأخروي في حال لم يحسن الإنسان أعماله في الدنيا، فالله سبحانه وتعالى يحاسب الناس على تصرفاتهم في هذه الحياة، فالدين في نهاية المطاف ليس مجرد الممارسة العبادية الصرفة من قبيل الصلاة والصوم، بل إن البناء للدنيا هو أساس البناء للآخرة.
ان التحدي الأكبر أمام الإسلاميين هو أن ينجحوا في تقديم برامج تنموية فاعلة تسهم في إسعاد حياة الناس, وأن ينجحوا في نشر وتطبيق تلك البرامج.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى النجاح الساحق الذي حققه حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية في الانتخابات التركية الأخيرة. والحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان هي أن نجاح الحزب لم يأت نتيجة معتقداته وشعاراته أو جذوره الإسلامية، إنما حقق هذا الحزب انتصاراته نتيجة برامجه الاقتصادية والسياسية الناجحة. ففي بلد كانت تسيطر عليه العلمانية المتشددة والمتطرفة ضد الإسلام، استطاع هذا الحزب أن يستقطب الناس فنجح في ثلاث دورات انتخابية بدءا من عام 2002 و2007 وصولا للانتخابات الأخيرة في يونيو 2011، وقد اعتبر جميع المراقبين نجاح الحزب في ثلاث استحقاقات انتخابية برلمانية متتالية انجازا فريدا من نوعه وغير مسبوق في التاريخ السياسي التركي، سيما وقد تحصل الحزب في كل مرة على نسبة أصوات أعلى من سابقتها متخطيا في الانتخابات الأخيرة 15 حزبا منافسا.
وتشير الإحصاءات العالمية إلى أن تركيا كانت عشية وصول حزب العدالة إلى سدة الحكم عام 2002 تحتل المرتبة رقم 27 ضمن ترتيب أكبر الاقتصادات العالمية، أما الآن وبفضل السياسات الاقتصادية الناجحة للحزب فقد تقدمت تركيا لتحتل المرتبة ما بين 16 و17 بين الاقتصادات العالمية، كما أصبح الاقتصاد التركي السادس أوروبيا مع تسجيله أعلى نسبة نمو في أوروبا والبالغة «7%» وهي نسبة لم تتوفر في أي اقتصاد أوروبي حاضر، علما بأن نسبة النمو في تركيا كانت «تحت الصفر» غداة تسلم حزب العدالة رئاسة الحكومة.
لقد حقق العدالة والتنمية نجاحات كبيرة في مختلف المجالات، فقد كان حجم الاقتصاد التركي لا يتجاوز 250 مليار دولار أمريكي حينما جاء حزب العدالة والتنمية، أما الآن فقد تجاوز 800 مليار دولار. وكذلك تضاعف دخل الفرد السنوي في تركيا منذ تربع الحزب على سدة الحكم في 2002 بحيث قفز من 3300 دولار سنويا إلى 11 ألف دولار. وتبعا لذلك استطاع هذا الحزب أن ينقل تركيا من دولة منطوية على ذاتها إلى دولة ذات تأثير إقليمي وعالمي لافت، زد على ذلك ما قدمه الحزب في الانتخابات الأخيرة من برنامج طموح للسنوات المقبلة, كان الاقتصاد هو قوام هذا البرنامج الانتخابي «156 صفحة», يخطط من خلاله لأن تحتل تركيا المرتبة العاشرة اقتصادياً في العالم بحلول عام 2023, وأن يصبح دخل الفرد التركي 35 ألف دولار في السنة.
والملفت في الأمر أنه إلى جانب النجاحات الاقتصادية الكبيرة التي حققها "العدالة والتنمية"، استطاع هذا الحزب ذي الجذور الإسلامية أن يسجل نجاحات سياسية واجتماعية كبيرة على صعيد الداخل التركي، وذلك من خلال تخفيف التوترات السياسية المزمنة بين مختلف فئات الشعب التركي, من السنة والشيعة والمسيحيين والعلويين, إلى جانب القومية الكردية التي ظلت تعيش أزمة مزمنة في تركيا. إن أهم ما فعله الحزب في هذا الإطار هو إشعار مختلف الفئات التركية بمختلف أديانهم وقومياتهم أنهم مواطنون, وأنهم يحضون بالاحترام من حكومتهم. وقد كان واضحا تأثير حضور رئيس الوزراء التركي الطيب اردوغان احتفالات المسلمين الشيعة في تركيا باليوم العاشر من المحرم، فقد أراحت مشاركته تلك جميع الشيعة الأتراك وغير الأتراك في كل العالم، وهكذا الحال بالنسبة للمشكلة الكردية فقد لبى الكثير من مطالبهم خصوصا معاناتهم من مشكلة التهميش القومي الذي يستهدفهم. هذه النجاحات أكثر من أي شيء آخر هي التي جعلت الشعب التركي يلتف حول حزب التنمية والعدالة.
ونحن إذ نبارك للشعب التركي هذا النجاح ونبارك لحزب العدالة هذه الانجازات، علينا أن نؤكد على ما يعنيه هذا التقدم والنجاح المتكرر. إن ذلك يعني أن الإنسان لا يحيى بالأيديولوجية وحدها والشعارات الدينية والسياسية البراقة، فقد انشغل العالم الإسلامي والعربي طويلا بالشعارات السياسية والدينية والماركسية والشيوعية والقومية والبعث والاشتراكية حتى ضاعت مصالح المواطنين. فقد بات لسان حال أغلب شعوبنا اليوم، شبعنا من الشعارات، ماذا عن التنمية والتقدم الاقتصادي، وأين هو الرفاه الاجتماعي؟. حقيقة الأمر ان أوطاننا باتت منذ زمن تسير إلى الخلف نتيجة هذه الشعارات التي لم تطعم الناس خبزًا. فكما أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان كذلك ليس بالأيديولوجية وحدها يحيا الإنسان.
ان مجتمعاتنا الإسلامية باتت اليوم في أمس الحاجة إلى برامج تنموية حقيقية، فقد شبعنا من الشعارات والأيديولوجيات ونتطلع إلى برامج تطور من حياة الناس وتصنع قوة الوطن والأمة. إن ما حصل في تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية ينبغي أن يكون أنموذجا على هذا الصعيد. ولعل الدرس التركي الأهم هنا هو إن أي حكومة تهتم بتحقيق طموحات وطنها وشعبها فإنها ستجد نفسها متجاوزة للمشاكل البينية الداخلية، وتسير بطبيعة الحال باتجاه جمع الناس حول برنامجها التنموي الذي يغير من حياة الناس. في مقابل ذلك عندما لا يكون هناك برنامج تنموي فإن انشغالات الناس تتجه ناحية المشاكل الدينية والمذهبية والقومية، والأسوأ من ذلك حين يتم إشغال الناس على نحو اعتباطي أو مخطط بهذا النوع من المشاكل التي تشل المجتمعات وتعيق نمو الأوطان.
إن الأوطان لا تبنى إلا بتلاحم أبناءها وتوحدهم تحت برامج تنموية, تنعكس إيجابا على حياة الناس ومكانة البلاد. ولن يتم ذلك إلا إذا تحملت الحكومة في أي بلد المسؤولية الأولى في تحقيق الوحدة الوطنية, من خلال تعاطيها مع كل المواطنين واحترام انتماءاتهم وهوياتهم لتجمعهم في نهاية الأمر تحت برنامج تنموي موحد, ينهض بالبلد في كل المجالات. هذا تحديدا ما نجح فيه إخوتنا الأتراك في حزب العدالة والتنمية.
نسأل الله أن يوفقهم للمزيد من النجاح حتى يقدموا أنموذجا لبلد مسلم تقدمي يحقق التنمية لشعبة. وأن يوفق الله كل المسلمين إلى تجاوز هذا التخلف الذي يعيشونه.