الولاء الوطني واثارات المزايدة والتشكيك
الخطبة الأولى: التربية وصناعة الإنسان
الإنسان يأتي لهذه الدنيا صفحة بيضاء، يمكن ان يُكتب فيها أي شيء، وهو أرض خالية تستقبل أي بذرة تلقى فيها.
تتشكل شخصية الإنسان وتتكون صفاته النفسية وتوجهاته الذهنية بالتربية والتنشئة التي يمر بها، وبخاصة في السنوات الأولى من عمره، وهي ما يطلق عليها خبراء التربية أنها السنوات التأسيسية التي تتأسس فيها معالم شخصية الإنسان، فهي التي تحدد توجهات هذه الشخصية في مستقبل حياتها لاحقًا.
ولذلك ورد في الحديث عن الرسول أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
وذلك في تعبير واضح بأن التربية التي يتلقاها الإنسان في صغره وطفولته هي التي تكوِّن الإنسان، وهذا أمر لا يحتاج إلى برهنة واستدلال. غير أن البشرية الآن تواجه مشكلة كبيرة على هذا الصعيد، ذلك أن الأسرة ماعادت تقوم بالتنشئة والتربية كما كان ذلك في الماضي، إن مختلف الشعوب والمجتمعات تشعر الآن بخلل كبير في صياغة وبناء نفسية الأجيال المعاصرة، وحينما يبحث الخبراء والعلماء في مكمن هذا الخلل، فإنهم يضعون يدهم على هذه النقطة الأساس، وهي العائلة التي فقدت دورها الكبير نحو أطفالها.
وهذه الحالة ولّدتها أسباب، من أبرزها:
الإنسان المعاصر أصبح أكثر أنانية، ويقدّم ذاته ومصلحته الشخصية ويؤثرها على كل شيء آخر. في الماضي كان الإنسان يهتم بأطفاله وأبنائه على حساب رغباته وشهواته ومصالحه الشخصية، بينما في هذا العصر وبسب قوة الحالة الذاتية وقوة التوجهات المادية انخفضت حالة الإيثار عند العائلة والوالدين اتجاه الأبناء، لذلك نجد في بعض المجتمعات أصبح التوجه للإنجاب ضعيفًا. حيث يتساءلون هناك لماذا ننجب، ونحمل أنفسنا الأعباء؟ ويكتفون بأقل عدد ممكن من الأطفال، حتى لا يحملوا أنفسهم عناءً أكثر وجهدًا أكبر، ويتعجبون من المجتمعات الإسلامية، كيف أنهم يكثرون من الإنجاب والتناسل.
في بعض المجتمعات دقوا جرس الإنذار، كما في اليابان وألمانيا والدول الإسكندنافية، وذلك لأن عدد الوفيات عندهم اوشكت ان تكون أكثر من عدد المواليد، والشيوخ الكبار في السن بدأ عددهم يزداد ويرتفع في مقابل انخفاض عدد الأطفال والشباب.
وإذا رأت الأم أن أمامها فرصة لتحقيق رغبة من الرغبات.. شهوة من الشهوات قد لا تفكر في أبناءها.. في الماضي كانت تحصل مثل هذه الأمور - كحالة شاذة -.
هذه المتطلبات الكثيرة جعلت الأب والأم في حالة من اللهاث لتوفير المكاسب واحتياجات الحياة المعاصرة، فالأب والأم يعملان، ومن ثَمَّ لا يجد الأبناء الاهتمام الكافي لانشغال الأبوين عنهما لفترات طويلة.
تقرير تحدث عن انتشار المخدرات والإدمان في أفغانستان، عن وجود أكثر من مليون مدمن للمخدرات في هذا البلد، وذكر بأن من أهم أسباب الإدمان على المخدرات ما تقوم به الأمهات في القرى المختلفة، حيث يعملن في حياكة السجاد فيصرفن ساعات طويلة في الحياكة، فيجدن مشكلة في التعامل مع أبنائهن الصغار، ولم يجدْنَ من حل سوى أن يعطين أطفالهنَّ جرعه من الهيروين، ليخدرنهم حتى يناموا فتتفرغ الأم للعمل في حياكة السجاد، لذلك نشأ جيل في أفغانستان من صغره على هذا المخدر.
هذه الحالة التي تعيشها العائلة في هذا العصر أثرت كثيرًا على اهتمامها بتربية أولادها، فتجد الخادمة في المنزل هي مَن تربي الأطفال، وهي بدائل لا تقوم بمستوى ما تقوم به الأم، لأن هذه البدائل تقوم بعمل وظيفي.
ونحن نقرأ ما تقوله بعض التقارير من أنه في كثير من الأحيان تسبب هذه البدائل المشاكل الكبيرة للعائلة، فالعاملة والخادمة لا نعلم من أي بيئة جاءت، ولا نعلم مدى إخلاصها، هذا إلى جانب أن تعامل الأسرة معها يؤثر على تعاملها مع أبناء الأسرة. فعندما يكون هناك نوع من الإساءة إليها، سينعكس هذا على تعاملها مع بقية أفراد الأسرة.
وإذا استغنت بعض الأسر عن الخادمات والعاملات، فإنها تستعين بالأجهزة الالكترونية والبرامج الحديثة، فتوجه أطفالها ليقضوا أكبر وقت أمام التلفزيون أو الكمبيوتر، حتى تنشغل الأم بأمورها والأب بأموره، قد يكون للكمبيوتر برامج مفيدة ونافعة، ولكن هناك دراسات علمية تثبتُ أن إدمان الأطفال على متابعة أفلام الكرتون له تأثير على أعصاب الأطفال وعقولهم، كما أن هذه المواد الموجودة في الألعاب ليست محايدة على المستوى الأخلاقي، فهي تبشر بأنماط سلوك معين، كما نرى موضوع العنف ـ مثلاً ـ، فأغلب المادة الموجهة للأطفال تتكون من مشاهد عنفية، وهذه تؤثر في توجهات الأطفال وسلوكياتهم.
ما نريد أن نخلص إليه في هذه النقطة هو أن البشرية تعاني من مشكلة تراجع الدور العائلي في التربية والتنشئة، وفي مقابل ذلك هناك عوامل كثيرة تستقطب الأطفال للإجرام والانحراف، مع حصانة ضعيفة ومتغيرات كثيرة تدفع نحو الفساد، والنتيجة ما نشهده في المجتمع المعاصر، حيث تعج المجتمعات بمظاهر الفساد.
وهناك حديث عن عودة عدد من النساء الأمريكيات للمنزل من أجل تربية الأطفال، وهذا بعد الإقبال الواسع على العمل، وبعد أن كان البقاء في المنزل وكأنه حالة متخلفة، وبعد أن كان التفاخر بالعمل في صفوف النساء رائجًا، أصبح هناك ردات فعل، كما في تحقيق نشرته جريدة الحياة الاقتصادية في تاريخ 18 صفر 1428 هـ، حيث يشير هذا التقرير إلى عودة أكثر من 6 ملايين امرأة أمريكية إلى البيت، للاهتمام بتربية وتنشئة أبنائهن، وأصبح الموضوع مطروحًا ومثار جدل في الوسط الاجتماعي الأمريكي.
كما أن هناك دراسة أجريت على دار الرعاية الاجتماعية للفتيات في مدينة الرياض تشير إلى ضعف التربية، حيث تتحدث هذه الدراسة إلى أن الفتيات اللاتي وقعن في الانحراف كان بسبب الحرمان العاطفي، والدفء والحنان الكافي الذي لا يتوفر لهنَّ في المنزل، وكان ذلك بوابة تخرج منها الفتاة للانحراف.
فالتربية هي ما تعول عليه البشرية من أجل تلافي هذا الاندفاع والانزلاق من قبل الأجيال الناشئة، التربية هي من تصنع الإنسان، ولذلك ما يحتاج إلى الاهتمام هو كيف تقوم العائلة بالدور السليم والصحيح في تربية أطفالها، فمن آخر التوجهات الاجتماعية في مدينة نيويورك الأمريكية هو الإقبال الواسع من قبل الأسر الثرية على التسجيل في دورات تهتم بتدريب الأسرة على تنشئة الأبناء وتربيتهم تربية جيدة، وهذا توجّه جيد، فالتربية تستحق أن يهتم الإنسان ببرامجها حتى يتقن القيام بهذا الدور.
﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الاعراف, 85].
أولت الشريعة الإسلامية أهمية كبرى للمعاملة الاجتماعية المنصفة بين الناس، والحض على تبني السلوك الحضاري الذي يحفظ للناس مقاماتهم ويحترم شخصيتهم الاعتبارية. وفي مقابل ذلك نهى الشارع المقدس أيما نهي عن الانتقاص من الآخرين وتحقيرهم أو النظر إليهم بعين الازدراء والتهوين. لقد تناولت الآية الكريمة هذا الجانب من السلوك الاجتماعي وعبرت عنه بـ"البخس"، ونهت عن هذا السلوك بصورة قطعية بحيث ساوت بينه وبين الفساد في الأرض.
ان معنى "البخس" هو انتقاص شيء من صفة أو مقدار لأي من الخلق، وقد نهى القرآن الكريم في ثلاث آيات على لسان نبيه شعيب عن البخس، فجاء في الأية الكريمة ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ أي لا تنتقصوا الناس أشياءهم المادية والمعنوية، والمادية أن يؤخذ أو ينتقص شيئا من مال أو أملاك الآخرين، أما المعنوية فهي انتقاص شيء من مكانتهم الاجتماعية, أو النيل من كرامتهم أو التنكر والطعن في جدارتهم وكفاءتهم دون وجه حق، ذلك هو البخس الذي نهى عنه الكتاب العزيز.
وينسحب معنى البخس في عرف الفقهاء إلى القدر الذي لو قال المشتري للبائع إن هذه الكمية لا تساوي إلا عشرة كلغ وهو يعلم أنها أكثر فقد بخسه حقه. والشيء ذاته ينسحب على الجانب المعنوي للإنسان، فلو تعمد معلم أو رئيس قسم في دائرة من الدوائر التقليل من تقييم أحد طلابه أو موظفيه بخلاف ما يستحق فهذا هو البخس بعينه. وبطبيعة الحال ينسحب ذات المعنى على جميع المجالات سواء كان على مستوى الأفراد أو الفئات والمجتمعات.
ولعل أهم دوافع ومسببات بخس الناس، هو وجود خلل في العلاقة بين شرائح ومكونات المجتمع، فحينئذ يكون هذا الخلل دافعاً للبخس عند البعض. لا يجوز التقليل من شأن طائفة من الناس أو قبيلة من القبائل تحت أي ذريعة كانت، فهذا موجب لاعتلال العلاقة بين أطياف المجتمع، ولذلك ورد في الآية ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾. ان البخس يسبب إثارة النعرات والغبن لدى الآخرين. ولذلك التفت المشرعون في المجتمعات المتقدمة لهذه النقطة تحديدا، ومضوا منذ أمد بعيد في تشريع قوانين تحظر أثارة العنصرية وإثارة النعرات بين مكونات المجتمع، فلا يستطيع إنسان في المجتمعات الغربية التي تزخر بتنوع بشري واسع، أن ينتقص من كرامة الآخرين أو يتعدى على شخصياتهم تحت أي مبرر كان، وذلك لوجود قانون يحارب العنصرية التي هي عينها بخس للناس وانتهاك لحقوق الإنسان.
وعلى النقيض من ذلك لازالت مجتمعاتنا العربية والإسلامية تعاني من هذه الظواهر التي يجري خلالها النيل من مجتمعات أو طوائف بأكملها وسط غياب تام لأي حماية قانونية. فمن الشائع جدا خروج شخص ينتمي لقبيلة أو طائفة فيخوّل لنفسه أن يشكك في مكانة طائفة أخرى وقبيلة ما، فينال من دينهم أو ولائهم الوطني. هذا نوع من البخس منهي عنه شرعا ومخالف لحقوق الانسان ومسبب للاضطرابات في أي مجتمع. وقد رأينا خلال الأيام الماضية كيف انشغلت الأوساط الثقافية والاجتماعية في المملكة نتيجة هذا النوع من السلوك المقيت، فقد انبرى أحد الأكاديميين وهو بدرجة بروفسور واستشاري في الطب النفسي في إحدى الجامعات المحلية ومشرف على احدى القنوات الفضائية، انبرى للتشكيك في ولاء ما يعادل نصف سكان المملكة، بزعمه: إن ولاء أبناء جنوب المملكة لدولة مجاورة أكثر من ولائهم لوطنهم، والشيء ذاته بالنسبة لسكان شمال المملكة فقد يكون ولاءهم لدولة مجاورة أكثر من ولائهم لوطنهم، انتهى كلامه. هذا الكلام يعد تشكيكا في الولاء والانتماء الوطني، بل اتساع مضطرد لدائرة التشكيك حتى وصلت النوبة هذه المرة لتنال من نصف سكان المملكة. لسنا هنا بصدد الحديث عن الشخص بعينه، وانما عن حالة التشكيك القائمة والمتجددة بين الفينة والأخرى من هذا الطرف أو ذاك. والسؤال؛ لماذا يسوغ مواطن لنفسه أن يشكك في انتماء وولاء مواطنيه الآخرين؟ ومن الذي خوله الحق في أن يكون هو مصدرا لشهادات حسن السيرة والسلوك، وشهادات الولاء الوطني؟ فهؤلاء مشكوك في ولائهم لاعتبارات مذهبية، وأولئك ولاؤهم لدول مجاورة بالنظر لتقارب عاداتهم وأعرافهم لتلك الدول!
ولنا أن نتسائل مرة أخرى، هل تشابه العادات والتقاليد أو المذهب الديني لفئة من المواطنين مع نظرائهم في دول مجاورة مدعاة ومقياس للانتماء والولاء الوطني؟. لاشك ولا ريب هذا التشكيك هو نوع من أنواع البخس المنهي عنه في الشرع، لما له من عواقب وخيمة على النسيج الاجتماعي في أي وطن كان. ومن أسف نقول أننا أصبحنا بين الحين والآخر نشهد ظهور مثل هذه الحالات، فيوم يكون التشكيك في ولاء المواطنين الشيعة لبلدهم لأن مذهبهم مشابه لمذهب دولة أخرى، أو لأن مرجعيتهم الدينية موجودة خارج الوطن. والغريب في الأمر أن سيف التشكيك في الولاء والانتماء الوطني بات يطال كل من يخالف رأي مجموعة معينة من الناس، كما لو أن هذه الفئة معينة تريد احتكار كامل الوطن فيها هي دون غيرها، فالوطن بالنسبة لها يعني منطقتها ومذهبها وعاداتها وتقاليدها هي، وكل من يختلف معها في ذلك فهو مشكوك في ولائه وانتماءه، فهؤلاء جعلوا من أنفسهم مسطرة لوطنية الآخرين.
ونحن بإزاء معضلة التشكيك في الانتماء الوطني لشرائح من المواطنين لا يسعنا الاكتفاء بردود الفعل على صفحات الجرائد المحلية، أو تجاوز الأمر بعد اعتذار خجول مرة والمكابرة مرات أخرى. المطلوب بوضوح تشريع قانون صارم يجرم حالات التطاول على الآخرين أفرادا أو جماعات، ويفرض الاحترام المتبادل بين الناس. ولابد هنا من القول ان الاختلاف في العادات والأعراف والتقاليد والمذهب الديني ليس موجبا للخدش في الانتماء الوطني لأي فئة، فقد باتت الأوطان الحديثة تفخر بتنوعها البشري, وتعتبره مصدرا للثراء الثقافي والاجتماعي داخل الوطن، فالحديقة تكون أجمل عندما تتنوع ورودها وأزهارها.
ليس هناك من مبرر منطقي للتشكيك في الانتماء الوطني للآخرين مهما كانت الأسباب. ان صدور أخطاء من بعض الأفراد في تلك المنطقة أو ذلك المذهب أو تلك القبيلة ليس موجبا لتعميم الخطأ على مجتمعات بأكملها، هذا تصرف مرفوض جملة وتفصيلا، فالدين والعقل والقانون يمنعون من التعميم على هذا النحو، كما ان العقاب الجماعي يرقى لمستوى الجريمة، والمولى جل وعلا يقول في محكم كتابه ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى?﴾ [الأنعام, 164]. ثم من قال أن هناك منطقة أو مذهب أو قبيلة لم تحصل فيها مشاكل وخلل من بعض أفرادها. لقد أفرزت بعض الفئات مجموعات إرهابية أهلكت الحرث والنسل في الداخل والخارج، فهل يحق لنا أن نشكك في انتماء القبائل التي تنتمي إليها هذه المجموعات؟ أو الطعن في المذهب أو المدرسة الدينية التي ينتمي إليها هؤلاء؟. اذا كان لا يصح هذا التعميم هنا فهو تعميم فاسد أيضا عندما يطال الأطراف الأخرى والمواطنين الآخرين. من هنا نؤكد مجددا على ضرورة تشريع قوانين تحارب العنصرية والحض على الكراهية، حتى نستطيع أن نعزز قيم الوحدة والألفة بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة.