سفك الدماء في بلاد المسلمين
شددت الشريعة الإسلامية على بعدين ينبغي أن يكونا عماد اهتمام الآباء في تربية أبنائهم، أولهما توفير احتياجاتهم الأساسية في الحياة، والآخر الحفاظ على سلامة الأبناء الروحية والمعنوية لصلاحهم في الدنيا وللنجاة في الآخرة. إن من البديهي أن يهتم الإنسان في هذه الحياة بوقاية أبنائه وأفراد عائلته من المكاره والأخطار، فيسعى في سبيل ذلك لتجنيبهم مصادر الألم والمرض، وإذا أصيب أحدهم بسوء سعى إلى علاجه فوراء ليضمن شفاءه، فهذا هو الوضع الطبيعي إزاء تحمل أي إنسان لمسؤوليته تجاه عائلته. في موازاة ذلك ينبغي على المرء أن يوسع أفقه فيفكر في تجنيب أفراد عائلته المساوئ الروحية والأخلاقية أيضا. ذلك لأن شقاء الإنسان وبلاءه لا يأتي نتيجة المشاكل المادية فقط ، فالإنسان ليس جسما ومادة فحسب، كما ان مصيره غير مقتصر على هذه الدنيا فقط. إن الآباء مدعوون للتفكير في مستقبل أبنائهم الأخروي، تماما كاهتمامهم بمستقبلهم الدنيوي. فبقدر اهتمام الآباء بأن تعيش عوائلهم في سكن مناسب ينبغي أن يكون لديهم ذات الاهتمام في ضمان سكنهم المناسب في الآخرة. من هنا كان على الإنسان أن يفكر في السلامة الروحية والمعنوية لعائلته، وأن يقيهم الميكروبات والجراثيم التي يمكن أن تتسلل إلى أرواحهم ونفوسهم، تماما بقدر اهتمامه بتوفير حاجاتهم الأساسية من سكن وتعليم ومأكل..
ولعل السؤال هنا؛ إذا كان بالإمكان توفير حاجات العائلة في الدنيا، فهل يمكن ضمان توفير الشيء ذاته في الآخرة؟. الجواب: نعم. فبإمكان المرء أن يسعى ويجتهد من أجل تحقيق السلامة الروحية لعائلته في الدنيا تمهيدا لضمان وتأمين مستقبلهم في الآخرة. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا﴾ فمضمون الآية الكريمة يشير إلى أن الأمر لا يقف عند حدود الإنسان نفسه ليقيها من النار، وإنما هناك طرف آخر ينبغي الاهتمام به وهي العائلة. إن على المرء أن يفكر مليا في وقاية أهله من النار، تلك النار التي وصفها جبار السموات والأرض بأن ﴿وقودها الناس والحجارة﴾.
ولتلمس سبل القيام بالوقاية الروحية والمعنوية للأبناء، ينبغي على رب الأسرة الاهتمام بثلاث أساليب ضمن تربيته لأولاده وهي التعليم المباشر والتوجيه المستمر وتمثل دور القدوة الحسنة لهم.
ان أغلب مشاكل الإنسان ناتجة من جهله، فإذا بلغه العلم وتشرب بالمعرفة تجنب الكثير من الشرور. لذلك جاءت النصوص لتأمر الإنسان بأن يصرف جهدًا في تعليم أفراد أسرته المعارف التي تنفعهم والحقائق التي تمكنهم من تجاوز المفاسد والأخطاء. ورد عن الإمام علي (علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم)، فالمعرفة أمر في غاية الأهمية لمساعدة الإنسان على الكمال والرقي وتجنب الفساد. وورد عن الإمام الصادق ما يشير إلى أن على المرء أن يسبق إلى تحصين أفكار أبناءه قبل أن يطالهم تشويش الأفكار المنحرفة، فيقول (بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة)، والمرجئة فئة منحرفة انتشرت في فترة تاريخية معينة. وورد أيضا في تفسير الآية الكريمة ﴿قو أنفسكم وأهليكم ناراً﴾ عنه (علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم). ان عصرنا الراهن مليء بالتيارات المنحرفة فكريا وعقديا، ولذلك ينبغي أن نحصن ونحذر أبناءنا من خطر الوقوع فيها، ولعل قائلا يقول بأن أمر التعليم غير ميسور بالنسبة إليه شخصيا، نقول بأن هذا ليس عذرا كافيا، فقد بات بالإمكان إيصال الأبناء إلى منابع الوعي وسبل الهداية أينما كانت، فتوفير العلم اليوم أصبح ميسورًا بسبب تطور الوسائل التعليمية.
قد لا تكون المعرفة وحدها كافية لدفع الإنسان نحو الخير، ما لم يصاحبها التوجيه المستمر والتذكير الدائم. فهناك موانع كثيرة قد تحول دون التزام المرء، وتجره إلى الركون نحو الباطل والخطأ، مثل الغفلة والاستجابة إلى ضغط الأهواء والشهوات. وقد يقع أحدهم في الخطأ وهو عالم بأن ذلك خطأ لا ينبغي الوقوع فيه، بسبب الاستسلام للشهوات، من هنا جاءت أهمية وضرورة التذكير. ان على الآباء أن يوفروا سبل التوجيه لأفراد العائلة دون الاكتفاء بالعلم فقط. وورد في هذا السياق عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله الإمام الصادق عن قول الله عز وجل: ﴿قو أنفسكم وأهليكم نارًا﴾ قلت هذه نفسي أقيها فكيف أقي أهلي؟ فقال (تأمرهم بما أمرهم الله به، وتنهاهم عما نهاهم الله عنه، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك )، وورد عنه القول لما نزلت هذه الآية جلس رجل من الأصحاب يبكي وقال أنا عجزت عن نفسي وكلفت أهلي؟ فقال (حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى به نفسك).
ان من المؤسف أن يسأم بعض الناس من تذكير أهلهم بالخير. فالتوجيه والتذكير بالخير لا أمد له، بل ينبغي أن يكون مستمرًا وبأساليب متنوعة، فإذا كان ابنك لا يصلي الجماعة مثلا فلا تسأم من تذكيره عبر قصة، أو آية أو حديث، أو فكرة تحببه إلى حضور صلاة الجماعة والمشاركة في الأنشطة الدينية. إن زرع بذرة الخير في نفوس الأبناء عملية دائمة تبدأ من الصغر ولا تنتهي عند الكبر، ففي رواية عن الإمام الصادق (مر الصبي فليتصدق بيده بالكسرة والقبضة والشيء) فعندما يعطي الأب ابنه الصغير مبلغا من المال ويطلب منه أن يعطيه للفقير سيكون لهذا التصرف أثر كبير في نفسه، فيتعلم من خلاله البذل والعطاء والاهتمام بمعاناة الفقراء. من هنا نبعت الحاجة إلى توجيه وتذكير الأبناء على نحو دائم دون الاكتفاء بتوفير المعرفة والعلم فحسب، يقول الله سبحانه وتعالى ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾.
ينبغي للمرء أن يكون قدوة لأفراد عائلته في فعل الخير، ليكون لمواعظه عند ذلك الأثر البالغ في نفوس أبناءه. قد يتخفى بعض الآباء عن أنظار أبنائهم ويفعلون ما يشاءون، في حين يحرصون على الظهور أمام أسرهم بمظهر الصلاح حتى لا تنخدش صورته في أذهان عائلته وحتى لا يتأثرون بسيرته السيئة. ان مثل هذا الأب غير الملتزم لن يكون لمواعظه على الأغلب أي أثر في أبناءه، فهو ليس قدوة صالحة أمامهم كما ان موعظته ليست نابعة من أعماق القلب ولذلك لن يعدوا تأثيرها أطراف آذانهم. قال الإمام الصادق في رواية أنه لما نزلت الآية الكريمة: ﴿قو أنفسكم وأهليكم نارًا﴾ قال الناس كيف نقي أنفسنا وأهلينا؟ قال: اعملوا الخير، وذكروا به أهليكم، وأدبوهم على طاعة الله. وفي ذلك إشارة واضحة من الإمام إلى أهمية التطبيق العملي أمام الأبناء.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المبادرين لأعمال الخير والداعين له.
ان حق الحياة هو أول حق من حقوق الإنسان، عنه تتفرع تنبثق سائر الحقوق الأخرى. ان حق الحياة هو قرار إلهي ومنحة ربانية للإنسان، ولا يجوز تبعا لذلك لأي جهة كانت أن تصادر هذا الحق أو تعيق نفاذ القرار، ومن يفعل ذلك فهو بذلك يتحدى أمر الله سبحانه وتعالى، إلا إذا كان هذا الإنسان قاتلا معتديًا وظالمًا غشوما فهو يستحق القتل، وما عدا ذلك فليس مقبولا عند الله سفك دم أحد من عباده. تعد حرمة الدماء من أعظم الحرمات في الإسلام، ولهذا أكدت عليها جملة من النصوص، ومنها الآية الكريمة ﴿من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا﴾، فالنفس الواحدة طبقا للآية لها مكانتها وقدسيتها عند الله سبحانه وتعالى، والتي تعادل في وزنها وزن نفوس البشر أجمعين. ذلك لأنها أول حق ومنحة منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان.
تشدد الروايات والأحاديث النبوية أيما تشديد على حرمة الدماء، وتنهى على نحو قاطع عن المساهمة في سفك دم ولو بشطر كلمة. فقد ورد عن النبي (لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)، وتشير الرواية هنا إلى إمكانية تدارك مختلف المعاصي والانحرافات على نحو أو آخر، لكن مسألة الدم خط أحمر لا يمكن التهاون إزاءه أو السكوت عليه. وعنه قال (لا يحولن بين أحدكم وبين الجنة كف من دم أصابه)، وإصابة الدم هنا بحسب تعبير الرواية لا تعني مباشرة القتل وإنما ينسحب ذلك على الإسهام في القتل ولو بشطر كلمة. ان هؤلاء الذين يحرضون على قتل الأبرياء عبر البيانات والفتاوى هم شركاء أساسيون مع الإرهابيين والتفجيريين في جرائم القتل التي تسفك فيها دماء الأبرياء بسبب فتاواهم، إنهم محاسبون أمام الله تعالى تجاه هذه الدماء التي تسفك. فقد ورد عن رسول الله (من شرك في دم حرام بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)، فلا شيء أبدًا يبرر سفك الدم الحرام. وفي رواية أخرى جديرة بالتأمل قال (لزوال الدنيا جميعًا أهون على الله من دم يسفك بغير حق)، كما جاء في السيرة النبوية أنه وجد رجل مقتول من قبيلة جهينة، ولا يعلم قاتله، فغضب رسول الله لذلك وأمر باجتماع المسلمين في المسجد وصعد فيهم خطيبا قائلًا: أيها الناس أيقتل إنسان ولا يعلم قاتله؟ والله لو كان أهل السماوات والأرض اشتركوا في دم مسلم واحد بريء أو رضوا به لكان حقا على الله أن يكبهم كلهم على مناخرهم في نار جهنم.
لقد جاء الإسلام ليؤسس مجتمعًا يحترم حق الحياة، ويعطي للدماء حرمتها ويحذر من انتهاكها. خاصة وأن الإسلام جاء في مجتمع جاهلي كان يمتهن سفك الدماء، فجاءت الرسالة النبوية لترسي أركان مجتمع جديد، فكان النبي الأكرم يدأب على تجنب القتال ويسعى لتقليل عدد الضحايا ما أمكن في حروبه مع أعداء الإسلام، حتى أن إجمالي عدد القتلى في حروب وغزوات النبي على مدار عشر سنين لم يبلغوا 1300 قتيلاً من كلا الطرفين المسلمين والكفار. فغاية رسالة الإسلام احترام حق الحياة لبني البشر وليس الانتقام أو استباحة الدماء.
لقد ابتليت الأمة الإسلامية في تاريخها الماضي وواقعها المعاصر بتوجهات فكرية تدعو إلى سفك الدم الحرام حتى أصبحت هذه الأمة كما لو أنها لا تعرف للدم حرمة ولا تقيم للحياة وزنا. وقد بتنا نشاهد في عصرنا الراهن كيف تعمد الحكومات المستبدة في بلاد المسلمين إلى سفك دماء الألوف من أبناء شعبها لا لشيء سوى الحفاظ على العروش والكراسي!. ان استخدام العنف الأعمى ضد الشعوب عبر التاريخ أمر يندى له الجبين، ونتيجة لذلك برزت مجاميع من أبناء الأمة تتبنى استخدام العنف وتمارس سفك الدماء، بل وتفخر بعدد القتلى الذين تفتك بهم من المدنيين والأبرياء.
يتحير المرء عندما يرى إنسانا يدعي التدين ويزعم نصرة الإسلام فيقوم بتفجير نفسه وسط مسلمين مصلين ليوقع بينهم العشرات بين قتيل وجريح، فأي دين هذا؟!. لقد شيع المسلمون أواخر شهر رمضان المبارك وفي أيام العيد مئات الضحايا الذين سقطوا بسبب أعمال إرهابية وتفجيرية داخلية في العراق وباكستان وأفغانستان والجزائر ونيجيريا. ويتضح من ذلك أن هؤلاء الإرهابيين أكثر جرأة وشجاعة ضد المدنيين الأبرياء منهم ضد العدو. إذ تشير الإحصاءات لأعداد القتلى من الجنود الأمريكيين في الحرب العراقية منذ عام 2003 وحتى الآن إلى أنهم يتجاوزن بقليل عدد الأربعة آلاف جندي، في مقابل ذلك بلغت أعداد ضحايا الإرهاب الداخلي من العراقيين وحدهم بأكثر من مئة ألف تبعا لأقل الإحصاءات، فيما يصل العدد وفق إحصاءات أخرى إلى مئات الألوف من الضحايا.
ان من المؤلم حقا حدوث هذه المجازر بحق الأبرياء المسالمين في المساجد والأسواق بالتزامن مع شهر رمضان المبارك ويوم العيد. فقد حصلت أواخر شهر رمضان سلسلة من التفجيرات الإرهابية في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي في الجزائر وأفغانستان وباكستان والعراق ونيجيريا. والأكثر إيلاما هو أن تحصل هذه الفظائع تحت عناوين إسلامية!. فهذا مسجد في شمال باكستان يستهدفه انتحاري بحزام ناسف فيقتل 47 مصليا ويوقع عشرات الجرحى والضحايا. وفي العراق أيضا يستهدف انتحاري آخر مسجد أم القرى السني في بغداد ويخلف عددًا كبيرا من القتلى، وسبق ذلك تفجير انتحاري آخر استهدف حسينية في البصرة وراح ضحيته عشرات القتلى، عدى عن باقي التفجيرات التي استهدف الأبرياء في مختلف المناطق. ان مثل هذه الأفعال ينبغي أن تسترعي النظر والانتباه، فهي تشير إلى أن هناك خللا اجتماعيا، وفكريا، ينتاب هذه الأمة التي يقدس دينها الحياة فيما يستهين أبناؤها بالقتل الأعمى بحق الأبرياء.
نسال الله تعالى أن يصلح ما فسد من أمور المسلمين، وأن يدفع عنا وجميع المسلمين المكاره والأسواء.