الانتخابات والتنمية السياسية
الثروات المالية الشخصية ليست بالضرورة نتاج جهد فردي محض, ولا يمكن أن تتأتى بمعزل عن الفرص التي يوفرها المحيط الاقتصادي والاجتماعي للفرد, ولهذا كان للمجتمع في تلك الثروات "حق معلوم للسائل والمحروم".
ان حال الثروات المكتسبة يشبه إلى حد كبير حال الطاقة التي يكتسبها جسم الإنسان من خلال الغذاء فإنه يحتاج إلى تصريف لهذه الطاقة وإلا فإن بقاءها في الجسم سيشكل ضررًا فادحا، وكلما كان تناول الإنسان كمية أكثر من الغذاء وكانت السعرات الحرارية فيها أكبر كانت حاجة الجسم أكثر للحركة وبذل الجهد لحرق تلك الطاقة، وإلا فإن اختزانها في الجسم سيكون مدمرا للصحة، من هنا نشأت الحاجة لدى بعض الناس الذين لا تقتضي طبيعة عملهم بذل الجهد البدني لأن يصنعوا لأنفسهم برنامجا رياضيا, يصرف فائض الطاقة لديهم, حتى لا تصبح منشأ للمشاكل الصحية. هذا المثال ينطبق تماما على الثروات المالية, فالإنسان الذي حباه الله سبحانه وتعالى بدخل مالي جيد, يجب أن يكون لديه في مقابل هذا الدخل إنفاق وعطاء ضمن محيطه الاجتماعي وقضايا الشأن العام. اذ إن تكدس الثروة دون إنفاق على أوجه البر يعد منشأ للأمراض الروحية التي تضرب صميم الجانب المعنوي للإنسان, فتخلف أضرارا فادحة على شخصيته.
لقد حفل القرآن الكريم والمرويات الشريفة بالكثير من النصوص حول الإنفاق بشكل يفوق تلك الآيات والمرويات التي تحث على سائر العبادات كالصيام أو الحج أو الصلاة.
إن الإنفاق أمر ضروري لصحة الإنسان الروحية, ولصحة المجتمع الذي ينتمي إليه، ذلك لأنه إذا قلت حالة العطاء والإنفاق فإن المجتمع يضعف وينحدر مستواه، يقول تعالى: ﴿وأنفقوا خيرًا لأنفسكم﴾، وبهذا المعنى فإن الإنسان حينما يعطي فهو لا يعطي الآخرين بقدر ما ينفق على نفسه. إن الإنسان معني بالبحث عن الفرص الاستثمارية التي تبني آخرته، وتقوّم وضعه الروحي، من قبيل المساهمة في مساعدة الفقراء وتشييد المساجد ودعم المؤسسات الخيرية والاجتماعية, وطباعة الكتب، تماما كما يبحث عن الفرص الاستثمارية المربحة في حياته الدنيا.
ان أصحاب السجايا الطيبة يفرحون إذا فتحت أمامهم أبواب الإنفاق في سبيل الله. تلك سجية اشتهر بها الإمام زين العابدين حيث نقل عنه أنه يفرح إذا جاءه فقير فيرحب به ويقول: «مرحباً بمن يحمل عني زادي إلى الآخرة»[1] . ونعرف بعض الأشخاص المؤمنين الذين دأبوا على السؤال والمطالبة باستمرار باطلاعهم على فرص الخير والبذل في سبيل الله حتى لا تفوتهم فرص المساهمة فيها. هذا النوع من الناس هم الذين يعون قيمة المال ويستثمرونه استثمارا صحيحًا، وهم الرابحون في نهاية المطاف.
ان الله سبحانه تعالى يشوق الإنسان إلى الإنفاق فيقول عز من قائل ﴿وأنفقوا خيرًا لأنفسكم﴾، ثم يقول تعالى أن هذا المال الذي تنفقه في الشأن العام هو قرض وسوف يرد إليك بأضعاف كثيرة وأرباح مضمونة ﴿إن تقرضوا الله قرضًا حسنًا يضعفه لكم ويغفر لكم﴾، فالله هو الذي يعطي المال, ثم يقول سبحانه ضمن دعوته عز وجل للإنفاق بأنه سوف يقترض هذا المال من عبده، وهو الغني عن كل أحد، وإنما أراد بذلك أن يعطي للإنسان فرصة البذل والعطاء، وليرسخ بذلك أسس التلاحم والتراحم بين الناس، وفوق كل ذلك يجعل ذلك العطاء سببًا لغفران الذنوب ونيل رضوانه عز وجل، وورد في آية كريمة أخرى ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾[2] .
إن علينا أن نعي بأن نفس الإنسان قد تمنعه عن الإنفاق تحت هاجس نقص المال وهذا ما عبرت عنه الآيات الكريمة بشحّ النفس وحذرت من هذه الحالة (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
ويقول أمير المؤمنين : «الجود من كرم الطبيعة»[3] وفي قول آخر: «الكريم يبهج بفضله واللئيم يفتخر بملكه»[4] فالشخص الكريم يبتهج بالإنفاق على أوجه البر بخلاف اللئيم. ان الإنسان الواعي الذي يحمل رؤية واضحة وروحًا سليمة يفرح بالعطاء, قال علي : «مسرة الكرام في بذل العطاء»[5] .
إن معادن الناس إزاء مبدأ الإنفاق والعطاء ليست واحدة. نجد ذلك واضحا عندما تعرض على أحدهم مشروعا خيريا يحتاج بعض الإنفاق فيشعر بالضيق ويحسسك بأنك قد أثقلت عليه، وخاصة إذا تعدد عليه الطرح ، بينما وعلى العكس من ذلك تجد الواعين الذين يتعاطون مع طلبات المساهمة في المشاريع الخيرية وكأنها فرص استثمارية نادرة تنزل عليهم من السماء.
ولعل السؤال الملحّ هنا؛ ماذا يفعل الإنسان بالمال إذا لم ينفق في سبيل الله ، وماذا ينفع الهوس بالأرقام وارتفاع الأرصدة وهي نائمة في الحسابات البنكية؟!. على العكس من ذلك حين ينفق المرء فهو يكسب راحة النفس ومحبة القلوب ورضا الرب عز وجل، ورد عن النبي أنه قال: «يقول العبد: مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس»[6] .
وسأل النبي أصحابه ذات مرة «أيكم مال وارثه, أحب إليه من ماله؟ قال: قالوا: يا رسول الله, ما منا أحد إلا ماله, أحب إليه من مال وارثه. قال: اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله, مالك من مالك إلا ما قدمت, ومال وارثك ما أخرت»[7] . فالمال الذي تركته هو ليس لك بل لوارثك. وعن الإمام جعفر الصادق قال: «أتى رجل النبي فقال يا رسول الله: أي الناس أفضل إيمانًا؟ قال: أبسطهم كفًا»[8] . وقال : «السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار»[9] .
وحينما نتحدث عن البذل والعطاء لا نتحدث عن فئة الأغنياء فقط, وإنما نعني بذلك كل إنسان بحسب وسعه. حيث يتصور بعض الناس من ذوي الدخل المحدود بأن هذا الكلام إنما يخص ذوي الثروات والأموال الطائلة، هذا غير صحيح فكل ينفق من سعته. قال أمير المؤمنين : «لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه»[10] وقال : «جود الفقير أفضل الجود»[11] ، فعلى كل إنسان أن ينفق على أوجه البر حسب استطاعته.
ان على الإنسان أن يدرب نفسه على البذل والعطاء. وذلك بالإنفاق على أقاربه وذويه والمحتاجين في مجتمعه، وما يخدم الدين، وما أحوج مجتمعنا إلى العطاء والبذل، خاصة في الوقت الحاضر، حيث تبدو الآفاق أرحب من حيث إمكانية إنشاء المشاريع الدينية والاجتماعية المختلفة, من قبيل بناء المساجد والحسينيات، وطباعة الكتب, وإنشاء المؤسسات الدينية والاجتماعية, وما إلى ذلك من مشاريع البنية التحتية والتي لا تزال هشة وضعيفة، وهي أحوج ما تكون للمال.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المنفقين والمعطاءين وممن يبارك لهم في أرزاقهم.
إن العمل والمشاركة في الشأن العام ليست حكرا على فئة اجتماعية دون أخرى, وهي بذلك ليست مقصورة على القيادات أو النخب. فلا ينبغي أن يكون الشأن العام حكرًا على من يتصدى للقيادة فقط، أو على النخب العاملة في هذا المجال، بل إن عامة الناس لا يستغنى عنهم وعن دورهم في هذا الشأن، ومهما رأت القيادات في نفسها القدرة والكفاءة إلا أنها (ليست بفوق أن تعان على ما حملها الله) كما يقول الإمام علي . إن عامة الناس، حتى العاديين منهم، لا يجوز تجاهلهم ولا يستغنى عن دورهم في الشأن العام، ووفقا لتعبير أمير المؤمنين علي : «ولا امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه»[12] . إن كلمة الإمام تعد تأسيسا ودعما لضرورة المشاركة المفتوحة في الشأن العام، وهذا هو بالضبط تجسيد لمفهوم الديمقراطية الذي تبلور لاحقا لدى الشعوب المتقدمة، حيث تدار شؤون الناس من خلال المشاركة العامة، ومفتاح تلك المشاركة هي العملية الانتخابية على كافة المستويات بدء من المجالس البلدية والبرلمانات وصولا إلى انتخاب رؤساء الدول.
ان العملية الديمقراطية التي تجري في دول العالم تعتبر أفضل صيغة وصل إليها العقل البشري في الإدارة للشأن العام، وهي برغم الثغرات، تبقى الصيغة الأفضل حتى الآن، وتضل مع ذلك قابلة للتطوير ما دامت عقول البشر قادرة على التفكير والإبداع. وتبعا لذلك تقضي هذه الصيغة بأن يكون لكل مواطن ضمن سن معين حق المشاركة في الشأن العام ترشحا أو ترشيحا، وأن ينتخب من يراه مناسبًا للمناصب العامة على جميع الأصعدة والمستويات.
إن مفتاح العملية الديمقراطية هي الانتخابات وصناديق الاقتراع, والانتخابات لها مهمتان، أولاهما انتخاب ممثلي الشعب، لأنه لا يمكن أن يجلس جميع الناس على طاولة واحدة وفي مكان واحد لاتخاذ القرارات، فالناس إذن بحاجة إلى إبراز واختيار من يمثلهم للقيام بذلك الدور.
وثانيها تحقيق وتفعيل المشاركة السياسية في إدارة الشأن العام، وقد بدأت هذه المسيرة على نحو خجول في العديد من المجتمعات الإسلامية والعربية, والتي لم تكن ضمن هذا النطاق حتى وقت قريب.
ان نجاح أي عملية انتخابية يقاس بحسب مستوى فاعلية الناخبين فيها، ولهذا تهتم البلدان بإبراز مستوى ونسبة المشاركة في الانتخابات كدلالة على أن الشعب متفاعل مع الواقع السياسي الذي يعيشه، فإذا كانت نسبة المشاركة عالية, دلّ ذلك على تفاعل ورضا الشعب، وإذا كانت النسبة متدنية فهذا يعني أن هناك مشكلة وخللاً، فالشعب يبعث من خلال المقاطعة وقلة الإقبال رسالة سياسية إلى الواقع السياسي، لأن العزوف عن المشاركة في الانتخابات في بعض الأحيان يقصد منه إيصال رسالة سياسية للواقع السياسي أكثر من أي شي آخر.
أن تفاعل أي شعب من الشعوب مع العملية الانتخابية رهن بأمرين، جدية تلك العملية, وتنافس القوى داخل المجتمع. فإذا لم يلمس الناس جدية أي عملية انتخابية وفاعليتها, وانعكاس ذلك على حياتهم, فمن الطبيعي أن يعرضوا عنها. والأمر ذاته ينطبق على العامل التنافسي بين القوى المجتمعية، فالانتخابات التي تشارك فيها قوى متعددة ومتنوعة تكون انتخابات حامية الوطيس، لأن كل جهة تسعى من أجل إقناع الناس ببرنامجها الانتخابي, وتحثهم على التصويت لصالحها، بينما إذا غابت تلك القوى عن التنافس العام ظهرت تلك العملية الانتخابية وكأنها تنافس فردي من الصعب أن يجد تفاعلا مقبولا من القطاعات الأوسع من الشعب.
لقد شهدت الانتخابات البلدية التي جرت في المملكة مؤخرا عزوفا لافتا من الناخبين, نظرا لغياب الحماس الداخلي, وخيبة الأمل التي سيطرت على الناس, جرّاء جمود الإصلاحات السياسية. وبالرغم من دعوتنا للمشاركة في الانتخابات البلدية, إلّا أننا ندرك جيدا المبررات التي أدت لمحدودية الإقبال, وعزوف الناخبين, مقارنة بالانتخابات الماضية عام 2005. وبدا ذلك واضحا ومنذ وقت مبكر، فالإقبال على التسجيل في قيد الناخبين كان ضعيفًا، وإقبال الناس على الترشح جاء أقل من السابق، ومشاركة القوى أيضًا كانت ضعيفة، وحتى القوى التي شاركت لم تعمل بكل طاقتها لغياب الحماس. ولعل أحد تفسيرات هذا العزوف الكبير عن المشاركة الانتخابية يعود للتوقعات والآمال التي علقها الناس في وقت سابق على المجالس البلدية, واعتبار ذلك خطوة باتجاه إصلاحات أكبر، فضلا عن التوقعات بتطوير نظام المجالس البلدية وزيادة صلاحياتها وهو ما لم يحدث، الأمر الذي دفع إلى هذا المستوى من العزوف.
ان العزوف اللافت للعملية الانتخابية يعد رسالة سياسية ينبغي أن تتفهمها الجهات المعنية. إن العالم سيقرأ هذا العزوف عن الانتخابات البلدية باعتباره مؤشرا على أن عامة الشعب غير متفاعلين مع واقعهم السياسي, وأن هذه الانتخابات الجزئية لا تمثل طموحهم وتطلعاتهم، وهذا ما يعني ضرورة تفهم هذه الرسالة, ومعالجة هذا الأمر حتى تتسع رقعة المشاركة ويكون تفاعل الشعب على نحو أكبر.
ومع ذلك، نتقدم بالشكر لجميع الإخوة المرشحين الذين دخلوا السباق الانتخابي فهم أعلنوا استعدادهم لخدمة مجتمعهم. فكلنا يعلم أن عضوية المجلس البلدي ليست منصبًا كبيرًا، ولا يحظى عضو المجلس بأي امتيازات تذكر، بل على العكس من ذلك, فغالبا ما يكون عضو المجلس في موضع المسائلة والعتاب والملامة. إن المرشحين الذي قرروا الدخول في السباق الانتخابي انما أعلنوا عن استعدادهم لخدمة مجتمعه فهم بذلك يستحقون الشكر. نتوجه بالشكر لجميع المرشحين لتصديهم لهذا المهمة, رغم الظروف السلبية المعاشة, وأجواء الإحباط السائدة، والشكر موصول كذلك للفرق الانتخابية التي عملت مع المرشحين. وفي الوقت الذي نتفهم فيه وجهة نظر المقاطعين للعملية الانتخابية, وندرك مبرراتهم، نشكر في ذات الوقت جميع الذين عملوا وشاركوا بجهدهم التطوعي في العملية الانتخابية، والناخبين الذين توجهوا للإدلاء بأصواتهم لانتخاب من يرون فيه الكفاءة.
نأمل أن تكون المجالس البلدية القادمة مجالس نشطة وفاعلة، فالمنتخبون من أبناء هذا الوطن وقد حازوا ثقة منتخبيهم, وفيهم الخير والبركة، أما المرشحون الذين لم يحالفهم الحظ، فهذه العملية الانتخابية ليست نهاية المطاف، فمجالات خدمة المجتمع متعددة.
ونبارك للأعضاء المنتخبين لعضوية المجالس البلدية, ونأمل من الجميع أن يتعاملوا بروح رياضية طبقا للتقاليد الديمقراطية. علينا تقديم التهنئة للمرشحين الفائزين, وأن نتمنى لهم التوفيق في مهمتهم تماما كما يجري في المجتمعات المتقدمة الأخرى، فمهما اشتد التنافس بين مختلف الأطراف والقوى إلا أنهم في نهاية السباق الانتخابي يتقدمون بالتهنئة لبعضهم, ويباركون فوز منافسيهم, بل ويعرضون مساندتهم بمنتهى الإيجابية. نأمل أن يتجاوز الجميع الحساسيات فكلنا أبناء وطن واحد ونسعى لخدمته، ونرجو للفائزين التوفيق، ونسأل الله تعالى أن يكون المستقبل خيراً من الماضي بعون الله.