العطاء وآفة المن
إن بذل الإنسان الجهد والمال لقضاء حاجات الآخرين يعد نعمة كبيرة يهبها الله إياه، لا يفسدها سوى "المنّ" والشعور بالاستعلاء على المحتاجين. فالله الذي يعطي كل شيء من المال والقدرة والجاه ولولا عطاء الله للإنسان لما استطاع أن يعطي أحداً مثقال ذرة، وبذلك وجب عليه شكر الله لأنه سبحانه وفقه لتبوأ مكانة المعطين، بخلاف الكثيرين الذي رزقهم الله من فضله لكنهم استسلموا لسيطرة الشح والبخل على نفوسهم. من هنا إذا رأى الفرد نفسه وقد تسامت على هذا الشح وأعطت مما أعطاها الله فتلك نعمة تستحق الشكر. غير أن ما يجري في بعض الأحيان أن يصاب المرء المعطي بآفة الشعور بالاستعلاء وإشعار الآخرين بالحاجة، وذلك انطلاقا من شعوره بأنه أعلى منهم وأن له فضلا عليهم، إلى درجة يشعرهم بالذل و"المنّ" والفضل عليهم.
ومعنى (المَنّ) لغة هو النعمة الثقيلة، لكنه وصف يطلق اصطلاحا على التحدث عن إعطاء الآخرين. فأن يعطي المرء شيئا لأحد المحتاجين، فيتحدث عن ذلك العطاء مما يُشعر المستعطي بالدونية فذلك هو المَنّ. فلابد من التحصن ضد هذه الآفة من خلال التخلق بالأخلاق والتربية الإسلامية، ووفقا للتعبير القرآني ﴿الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله﴾، و﴿سبيل الله﴾ يعم كل خير وكل ما ينفع الناس في حياتهم الدنيوية والأخروية، غير أن دقة التعبير القرآني تظهر من خلال المقطع الآخر في الآية والذي جاء فيه ﴿ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى﴾، والحرف (ثم) تفيد التراخي وليس الفورية، ومعنى ذلك أن الإنسان المعطي قد يمن بالعطاء فور القيام به وقد يكون بعد تقديم العطاء بزمن، وتشير الآية الكريمة إلى أن المن خصلة منبوذة، فإذا أعطى المرء شيئا للآخرين فعليه أن لا يمن عليهم ولا يعيّر الآخرين بمعروفه إليهم، وفي ذلك أجر كبير من الله ﴿فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾.
إن تذكير المحتاجين بالأفضال والعطايا التي نمنحها إياهم ينطوي على جرح صارخ لكرامتهم. فالإنسان لا يريد أن يشعر بالضعف، ولا شئ أقسى على الناس من تذكيرهم بحالات ضعفهم، فتلك مما تسبّب أذى وضررا نفسيا بالغا، حتى أن أغلب الناس لو خيروا بين مصلحة يعطوها وبين حفظ كرامتهم فإنهم سيختارون الأمر الثاني. يقول تعالى ﴿قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم﴾، ومقتضى الآية الكريمة أن يعتذر المرء عن العطاء خير من أن يعطي ثم يمن على الآخرين.
ويقول تعالى ﴿يا أيها الذين أمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى﴾، فالصدقة لها أجر كبير عند الله لا ينبغي أن يضيع ويمحق عبر ممارسة المن والإيذاء لمن أعطيت، وفي آية أخرى ﴿ولا تمنن تستكثر﴾، أي لا تمن على الناس من منطلق استكثارك ما أعطيت لهم.
وورد عن رسول الله (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ومنهم المنان الذي لا يعطي شيئًا إلا منَّه).
وعن الإمام جعفر الصادق (المن يهدم الصنيعة)، وينطوي الحديث آنف الذكر على تشبيه بليغ يصور صنيعة الخير بالصرح المشيد غير أنها عرضة للهدم والتدمير نتيجة "المن".
وعنه في وصيته لعبدالله بن جندب (وإن كانت لك يد عند إنسان فلا تفسدها بكثرة المن والذكر لها، ولكن أتبعها بأفضل منها فإن ذلك أجمل بك في أخلاقك، وأوجب للثواب في آخرتك).
كما ورد عن النبي الأكرم (من أصطنع إلى أخيه معروفا وامتن به أحبط الله عمله)، أي كما لو أنه لم يفعل ولم يعط شيئا. ولذلك على المرء أن يتجنب هذه الآفة وأن لا يتحدث عما قدم وفعل للآخرين.
فهناك بعض الناس من اعتادوا على الحديث عن كل عطاء ومعروف أسدوه للآخرين، وهذا ما يجعل عطائهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. وورد عن أمير المؤمنين أنه قال (أحيوا المعروف بإماتته فإن المنة تهدم الصنيعة)وفي ذلك توجيه من أمير المؤمنين بأن لا يذكر صاحب الصنيعة الطيبة ما صنعه للآخرين، وفي المقابل يحث على ذكر محاسن صنائع الآخرين بحقنا، يقول (إذا صنع إليك معروف فاذكره وإذا صنعت معروفًا فانسه). ولعل أسوأ أنواع المن هو المن على الأقرباء المحيطين، فقد يصل مستوى اللؤم لدى بعض الناس أن يمنَّ بما يعطي حتى لزوجته وأولاده, فيعيّرهم بما يعطيه لهم, وذلك غاية اللؤم، لأن النفقة على العيال واجبة أولا، وثانيا لأنه إنما يعطيهم مما أعطاه الله، أما الأمر الثالث؛ فحينما تمن على عيالك تجرح مشاعرهم وهم يعيشون تحت كنفك، في حين بإمكان غيرهم أن يبتعد عنك بمجرد تجرعه مرارة المن من قبلك. وفي خدمة الزوجة لزوجها أجر عظيم وهو داخل في باب الجهاد كما ورد في الحديث (جهاد المرأة حسن التبعل)، ولكنها إذا أتبعت ذلك بالمن على زوجها فقد نسفت كل ثوابها، وكذلك الأمر بالنسبة للأولاد.
ان على المرء أن يراقب نفسه ويتوقى الوقوع في حالة "المنّ"، لأنها يمكن أن تمتد حتى إلى علاقته بالله تعالى. فآفة المن يمكن أن تدفع المرء للجرأة على رب العالمين, بحيث يمنّ على الله بأعماله وعباداته من حج وصلاة وصوم!. وقليل من التفكر لللانسان يدرك به أنه لو جمع كل صنيع الخير فلن يوازي ذلك واحدة من أنعم الله عليه، ولذلك يتحدث القرآن الكريم عن أولئك الذين كانوا يمنون على رسول الله إسلامهم بالقول ﴿يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان﴾، من هنا على المؤمن أن يتعود دائمًا على الشكر حينما يتوفق لعبادة سيما الصلاة, أن سجدة الشكر ليست جزءا من الصلاة, ولا هي واجبة, ولكن يستحسن التعود عليها حتى يتعود على شكر الله تعالى على توفيقه له لأداء هذه الفريضة، وهكذا الأمر بإزاء كل عبادة وكما ورد في ما حكاه الله تعالى على لسان عباده المؤمنين: ﴿وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله﴾.
لا ينبغي لأي إنسان كان أن يمن بعطائه على غيره، حتى الحاكم لا يليق به ممارسة "المن" على رعيته. وهذا ما يلفت إليه أمير المؤمنين واليه على مصر مالك الأشتر بقوله (إياك والمن على رعيتك بإحسان، فإن المن يبطل الإحسان)، فلا ينبغي للحاكم أن يمن على الناس بما يصنع لهم فهو لم يعطهم من ماله، وما قام به إنما هو واجبه تجاههم ووظيفته المناطة به، والأنكى أن "المن" يثير المزيد من الاستياء لدى الشعب.
وينسحب ذات الأمر على الناشطين العاملين في خدمة مجتمعهم فهم أولى الناس بالنأي عن المن على مجتمعهم. وعلى النقيض من ذلك تشجع التعاليم الإسلامية على عمل الخير سرًا، وأن نقدم الصدقة والخير للناس دون أن يتعرفوا علينا، ورد في الحديث (صدقة السر تطفئ غضب الرب)، وجاء في رواية أخرى (إذا استطعت أن تتصدق بيمينك فلا تعرف عن ذلك شمالك) ذلك حتى لا يشعر الفقير والمحتاج بالضعف أمامك.
وورد عن الإمام الباقر قال كان علي بن الحسين زين العابدين يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره، حتى يأتي بابًا بابًا، فيقرع ثم يناول من كان يخرج إليه، وكان يغطي وجهه لأن لا يعرفه)، وعن محمد بن اسحاق إنه كان أناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يأتون به في الليل. وعن هشام بن سالم قال كان أبو عبدالله جعفر الصادق إذا أعتم وذهب من الليل شطره أخذ جرابًا فيه خبز ولحم ودراهم فحمله على عنقه ثم ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسمه فيهم ولا يعرفونه، فلما مضى أبو عبدالله فقدوا ذلك فعلموا أنه كان أبو عبدالله .
ان على الإنسان أن يتعود على تقديم العطاء للجميع فيما يتوجب عليه في ذات الوقت أن يبتعد عن عادة المن على من أعطي.
نسأل الله أن نكون ممن استجاب لهم دعاء الإمام زين العابدين في مكارم الأخلاق (وأجر للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمن).
للاستماع للخطبة: