الثبات على المبدأ ومقاومة الضغوط
ان الثبات على المبدأ في مواجهة الضغوط والصعوبات المختلفة هو الشعار الذي ينبغي أن يتحلى به الإنسان المؤمن في هذه الحياة. فالانسان بطبعه يرتاح لرضى الآخرين عنه، فمتى ما عاش في محيط اجتماعي راض عنه كان ذلك سببا لراحته النفسية. ان من مسلمات الأمور أن على المؤمن أن يترك لدى الآخرين السمعة الحسنة والانطباعات الطيبة عن نفسه، غير أن الشئ المهم أن لا تكون نظرة الناس لنا هي معيار التقويم للذات ولسلامة المنهج، وإنما يكون وفقا لمعيار المبادئ ومدى الالتزام بها بالدرجة الأساس، أما رأي الناس فينا مدحا أو ذما فذلك ما يجب أن يأتي في المرتبة التالية. ينبغي على الإنسان المؤمن أن يقيّم نفسه على أساس المبادئ والقيم.
إن رضا عامة الناس ربما يكون سهل المنال متى ما التزم الفرد بتوجه معين يستهوي هذه العامة. ولكن السؤال الأهم هل هذا الاتجاه يتطابق مع المبادئ والقيم؟. حقيقة الأمر، لا ينبغي للمرء أن يسير على منهج معين لمجرد خطب ود الآخرين، فرضى الآخرين لا ينبغي أن يكون هو الهدف. ان هدف المؤمن هو رضا الله تعالى، وأن يكون ملتزما بهذا المبدأ. ان من المفهوم أن الانسان المؤمن ومن خلال سلوكه الحسن مع الآخرين يسعى لجذب رضاهم، ولكسب السمعة الحسنة بينهم، بالالتزام بحسن القول وطيب السيرة وسلامة السلوك، وليس بالتنازل عن مبادئه. المبادئ والقيم العليا ينبغي أن تبقى بعيدة عن الشك لمجرد عدم قناعة الآخرين بها.
إن التمسك بالمبادئ العليا التي يؤمن الإنسان بها عن قناعة وعلم حجة على المرء فلا يقبل منه بأي حال التنازل عن ما اكتشفه وتبين له. هذا يذكرنا بعالم الفلك الايطالي الشهير "غاليلو" الذي توصل إلى حقيقة أن كوكب الأرض ليس إلا جرم سماوي متحرك ولا يمثل مركز الكون كما كان الاعتقاد السائد في الأوساط الدينية الكنسية في تلك الآونة، لكن "غاليلو" مع ذلك لم يتنازل عن تلك الحقيقة العلمية التي توصل لها رغما عن الكنيسة والحكومة والرأي العام الذي كان بالضد منه تماما. جاء عن الإمام محمد الباقر أنه قال في وصيته لجابر بن يزيد الجعفي: (إن مدحت فلا تفرح، وإن ذممت فلا تجزع، وفكر فيما قيل فيك، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله عز وجل أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك فثواب اكتسبته من غير أن تتعب بدنك).
ومقتضى قول الإمام أنه إذا لامك الناس وكان الحق معك فذلك ثواب لك، تلك هي سيرة الأولياء والصالحين حينما يسمعون كلامًا سيئا بغير حق، فإنما يقولون هذا ثواب بالمجان حصلنا عليه.
ويستمر الإمام في تأكيد هذا المفهوم والمبدأ بالقول: (واعلم أنك لا تكون لنا وليًا حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك (مجتمعك) وقالوا إنك رجل سوء، لم يحزنك ذلك، ولو قالوا أنك رجل صالح لم يسرك ذلك، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله فإن كنت سالكا سبيله فإنه لا يضرك ما قيل فيك، وإن كنت مباينا للقرآن فماذا الذي يغرك من نفسك؟)، أذن فالمبدأ والمعيار الذي يجب أن يلتزم به الإنسان المؤمن هو كتاب الله لا كلام الناس الذي غالبا ما يكون خاضعا للأهواء والميول.
لقد عاصر الامام محمد الباقر ، خامس أئمة أهل البيت ، الذي نعيش ذكرى رحيله هذه الأيام، الطغيان الأموي في أقسى مراحله لكنه كان مثالا للثبات على المبدأ ومقاومة الضغوط. فقد شهد في حداثة سنه مأساة كربلاء وهو بعد لم يكمل السادسة من عمره، وبعد ذلك عاصر بقية الحكام الأمويين، ورأى ظلمهم وطغيانهم، إلى عهد هشام بن عبدالملك حيث التحق بالرفيق الأعلى سنة 114هـ عن عمر ناهز 58 عامًا.
لقد اتيحت للإمام الفرصة لنشر معارف وعلوم الإسلام، لان الدولة الأموية في عهودها الأخيرة كانت تعاني من ضعف شديد، وكانت الثورات المناهضة لها تتوالى وتتابع في مختلف الأرجاء، فانشغل الحكام نسبيا عن أهل البيت، فوجد الإمام الباقر الفرصة سانحة لنشر العلوم، وهو من أرسى أساس جامعة أهل البيت في أرجاء الأمة، حيث كان في المدينة المنورة وكان يستقبل الطلاب والسائلين من مختلف الأرجاء، ولذلك عرف بالباقر، لأنه بقر العلم بقرًا أي شقه وأخرج أسراره ومخبوءاته كما يقول العلماء والمؤرخون، وقد أوردت المصادر أسماء أكثر من أربعمائة وثمانين من العلماء والفقهاء والرواة ممن أخذوا عنه العلم وتشرفوا بصحبته.
هنا لابد وأن نؤكد على أمرين:
الأول: ان على الشاب المؤمن والفتاة المؤمنة الذين قد يعيشان في محيط سيء، أن يلتزما بمبادئهما وقيمهما وأحكام دينهما، وأن لا يتأثرا بالضغوط الاجتماعية التي قد تواجههما، وأن لا يستسلما لقول من هنا أو اتهام من هناك بالرجعية أو التعقيد. نحن اليوم نعيش زمنا قد تضغط على الإنسان فيه أجواء الفساد والانحراف وقد تدفعه نفسه للانسياق حتى لا يكون شاذا عن محيطه، وأكثر من يواجه هذا هم الشباب الذين يعيشون في أوساط بعض الثلل، فيرون أن الانحراف هو السمة السائدة فيمن حولهم، وهنا قد يرى الشاب نفسه شاذا عن هذا الجمع والجو، وما عليه هنا إلا أن يستحضر مثل هذه الوصايا للإمام الباقر ، وكما ورد عن الامام علي (لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك الا الباطل).
الثانية: إن على المصلحين وذوي الرأي في المجتمعات أن لا تهتز ثقتهم بأنفسهم لمجرد اعراض الناس من حولهم وعدم قناعتهم بكلامهم. فالمصلح له رأي ووجهة نظر هو مقتنع بها، ولكن من حوله إما لأنهم لم يدركوا هذا الرأي الذي لديه ولم يتفهموه، أو أنهم يعيشون تحت تأثير عوامل آخرى، ومراكز قوى تؤثر على عقولهم وتوجهاتهم، هنا قد يجد المصلح نفسه محاصرا بآراء تخالف رأيه ومعتقده، فعلى صعيد التكتيك من حق المصلح أن يداري الناس, وأن يتصرف بما يتناسب مع ظرفه وموقفه، ولكن على المستوى الداخلي النفسي لا ينبغي أن تهتز ثقته بنفسه، ولا أن يتزلزل لأن الناس من حوله لم يقبلوا كلامه، إنما عليه مداراة الناس وتقدير استيعابهم, ومدى تقبلهم للرأي الجديد عليهم, دون أن يدفعه ذلك للتشكيك في قناعاته انسياقا خلفهم، حتى لا يصبح مصداقا للآية الكريمة ﴿وكنا نخوض مع الخائضين﴾ أو كما ورد في الرواية (لا تقل حشر مع الناس عيد).
ان على الانسان أن يلتزم بمبادئه، وأن لا يخضع للضغوط الخارجية، فإن الأنبياء عانوا أكثر من ذلك وقد اتهموا بالجنون والسحر, وتفرّق الناس عنهم، وعلى غرار ذلك كان الأمر بالنسبة للأئمة والمصلحين والأولياء، كل ذلك ينبغي أن يكون درسا للإنسان في أن يكون واثقا من نفسه ومن مبادئه التي آمن بها عن حق، فلا تهتز نفسه ولا يضطرب ولا يتزلزل. هذا ما نستفيده من سيرة الإمام الباقر في ذكرى وفاته ونسأل الله أن يثبتنا على ولايته ويصلح أمورنا وأمور المسلمين.
ورد عن الإمام محمد الباقر (ما من بر ولا فاجر يقف بجبال عرفات فيدعو الله إلا استجاب الله له، أما البر ففي حوائج الدنيا والآخرة، وأما الفاجر ففي أمر الدنيا). وورد عن الإمام زين العابدين (إن من أعظم الناس ذنبًا من وقف بعرفات ثم ظن أن الله لم يغفر له).
شرعت فريضة الحج بمناسكها المختلفة لتروض نفس الإنسان, وتدربه على معنى العبودية لله تعالى. ان هدف مناسك الحج أن يتربى المسلم على معنى العبودية، سواء أدرك مغزى المنسك والمصلحة من وراء العمل العبادي الذي يؤديه أم لا. فالشأن العبادي والتشريعات الدينية لا ينبغي أن يكون الالتزام بها مرهونا بمدى تفهم المرء لمغازيها، أو الادراك الفعلي للمصلحة من وراءها، وإنما غاية ما هناك أن على المرء أن يطيع أمر ربه سبحانه تعالى. لقد أجاب نبينا إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام أمر ربه بناء على رؤيا رآها في المنام ﴿قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك * قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين﴾. وبذلك جسد ابراهيم واسماعيل معنى العبودية، فالإنسان المسلم ملزم بطاعة أوامر ربه في كل مجال من المجالات، ولا يسمح لنفسه وأهوائها وشهواتها أن تحول بينه وبين أوامر ربه، فهو حين يستجيب لشهواته لا يكون عابدا لله وإنما عبدًا لأهوائه ﴿أرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾، فالمسلم يقول في كل يوم وفي كل صلاة أنه عبد لله ويخاطبه: ﴿إياك نعبد﴾ وهذا ما يفيد الحصر أي لا نعبد غيرك، ومن هو الغير الذي تحصن نفسك كل يوم لئلا تكون عبدًا له؟ هذا الغير هو الأهواء والشهوات والرغبات والملذات، فأنت حينما تقرأ هذه الآية في كل صلاة أكثر من مرة، ثم تخضع إلى أهوائك وشهواتك فستكون غير صادق فيما تقوله في صلاتك وفي ادعائك العبودية لله.
تتجلى في فريضة الحج عظمة هذا الدين، وعظمة الأمة التي ينتمي إليها الانسان المسلم. فهو يرى في الحج الناس من مختلف البقاع, ومختلف الألوان والأشكال واللغات والاتجاهات، كلهم يجتمعون على صعيد واحد وفي زي موحد، ويتجهون إلى الله داعين ملبين بهتاف واحد لبيك اللهم لبيك. إن قلوب جميع المسلمين تتجه إلى مكة المكرمة, وإلى المشاعر المقدسة, وحيث يتواجد الحجيج. إن كل مؤمن تحدثه نفسه ويتمنى في أعماق قلبه أن يكون مع أولئك الحجيج، وبإمكانه أن يكون معهم فعلا متى ما عاش الأجواء الروحانية التي يعيشونها، وإذا ما سار في الخط الصحيح التي تريد مناسك الحج أن توجه سلوك الناس إليه. بأداءه مناسك الحج ينال الانسان المسلم خيرات كثيرة، فهو من خلال رحلته العبادية تلك ينفتح روحيا على ربه تعالى، ويمتثل العبودية الكاملة لله سبحانه وتعالى، عبر الامتثال المطلق للاوامر الإلهية التي تأمره بأن ينزع ثيابه فينزعها، وأن يلبس شيئًا محدودًا فيلبس الإحرام، وأن يتقيد بكل محظورات الاحرام، والمناسك المتنوعة المختلفة من طواف وسعي ونحر ورمي جمار وحلق أو تقصير.
ان فريضة الحج تعد تجسيدا عمليا لوحدة الأمة. فالوحدة الاسلامية، هذا المبدأ العظيم، يتجسد في الحج، فالحاج وهو يطوف بالبيت الحرام, يلتفت عن يمينه, وشماله, وأمامه, وخلفه, فيجد الطائفين من مختلف الأقوام والشعوب, فيدرك أنه جزء من أمة كبيرة، وأن هذه الأمة هي أمة واحدة كما أراد لها الله تعالى بقوله عز وجل ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾. ينبغي للمسلمين أن يستفيدوا وأن يجسدوا وحدتهم من خلال مناسك الحج، بأن تسودهم أجواء الألفة والمحبة والوحدة، وأن يواجهوا المحاولات التي تسعى لتفريقهم وتمزيقهم والإساءة للعلاقات فيما بينهم، هذا ما يجب أن يستوحيه المسلمون من مناسك الحج.
كما ينبغي على الإنسان المسلم في الحج أن ينفتح على تاريخ دينه وعلى تاريخ النبوات والرسالات السماوية. إن المسلم عندما يصلي عند مقام إبراهيم انما يستحضر بذلك مواقف نبي الله إبراهيم الخليل ومواقف ابنه اسماعيل ومواقف زوجته الصابرة المجاهدة هاجر، إنه يرى بأم عينيه تلك الربوع التي انبثق منها نور الإسلام والتي ظهر فيها الوحي.
وكان يفترض أن يستفيد المسلمون في هذه الرحلة من الاطلاع على آثار ومعالم دينهم وتراثهم, ولكن مما يؤسف له أن كثيرًا من تلك المعالم والآثار التاريخية قد طُمست, وهذا ما حرم المسلمين من أن يتواصلوا مع تاريخهم بشكل محسوس.
وفي الحج يتجه المسلم بكل جوارحه إلى الله معترفا بذنوبه راجيا منه التوبة والمغفرة وخاصة على صعيد عرفات. ورد عن الإمام علي بن الحسين أنه قال: (أما علمت أنه إذا كان عشية عرفة برز الله سبحانه وتعالى وقال لملائكته: انظروا إلى عبادي اتوني شعثا غبرا أرسلت إليهم رسولا من وراء وراء، فسألوني ودعوني اشهدكم انه حق علي أن أجيبهم اليوم، قد شفعت محسنهم في مسيئهم، وقد تقبلت من محسنهم فأفيضوا مغفورًا لكم. فينصرف الناس من عرفات وقد غفرت ذنوبهم وكل حاج ينصرف كأنه يوم ولدته أمه).
وعن الإمام الصادق قال: (إنما تعجل الصلاة – يوم عرفة - ويجمع بينهما لتفرغ نفسك للدعاء فإنه يوم دعاء ومسألة، ثم تأتي الموقف وعليك السكينة والوقار، فاحمد الله تعالى وهلله ومجده واثني عليه وتخير لنفسك من الدعاء ما أحببت واجتهد فإنه يوم دعاء ومسألة وتعوذ بالله من الشيطان فإن الشيطان لن يذهلك في موقف قط أحب إليه من أن يذهلك في ذلك الموطن، وإياك أن تنشغل بالنظر إلى الناس، وأقبل قبل نفسك). ويحفل يوم عرفة، بجملة من الأدعية المأثورة الرائعة التي توجه الإنسان إلى ربه, وتجعله ينفتح على ذاته، وتجعله وجها لوجه أمام ثغراته ونواقصه واخطائه حتى يعاهد الله سبحانه وتعالى على التوبة والرجوع عنها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشركنا في صالح دعوات الحجيج وأن يوفقهم لأداء مناسك حجهم بيسر وأن يعيدهم إلى ديارهم سالمين غانمين.