إحياء عاشوراء تفاعل وإبداع
أجمع المسلمون بمختلف مذاهبهم ومدارسهم على أن محبة أهل البيت فريضة واجبة، وأن بغضهم موجب للنار والعذاب. فقد روى الترمذي عن ابن عباس عن رسول الله أنه قال: (أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي).
وأورد الألباني في سلسلة أحاديثه الصحيحة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار).
وجاء في الكثير من مصادر أهل السنة عن ابن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت الآية الكريمة (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى) قالوا يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فأجاب : (علي وفاطمة وأبناؤهما)، من هنا يتضح بأن وجوب محبة أهل البيت أمر متفق عليه بين المسلمين.
ومع اقرار الأمة بوجوب المحبة للآل، اتجهت شريحة من المسلمين إلى جعل الانتماء لأهل البيت شعارًا وعنواناً، فأصبحوا يعرفون بشيعة أهل البيت. ان المسلمين الشيعة يشتركون مع بقية الأمة بوجوب محبة أهل البيت، لكنهم يمتازون على غيرهم بالاعتقاد بإمامة أهل البيت، وأنهم المرجعية الأساس في فهم الدين في عقائده وتشريعاته، ولهم على ذلك أدلتهم وبراهينهم التي قادتهم إلى هذا الاعتقاد.
كما يمتاز شيعة أهل البيت بإقامة مراسم الولاء لأهل البيت ، ومن أبرزها مراسيم عاشوراء، وهذا الاحتفاء بمناسبات آل البيت له ما يشبهه لدى شريحة من أبناء الأمة من أهل السنة الذين اعتادوا إقامة مواليد أهل البيت، وخاصة منهم أصحاب الطرق الصوفية في الحجاز ومصر والسودان والمغرب وأنحاء عديدة من العالم الإسلامي، فهؤلاء أيضا لديهم مجالس يطلقون عليها مواليد، يتحدثون فيها عن ميلاد السيدة الزهراء، والإمام علي، والحسن، وبقية أهل البيت، ولهم أشعار وأناشيد ومراسم في هذا الشأن، إلا ان ما يمتاز به الشيعة هو أن لهم مراسيم منتظمة زمنيا، وأبرزها مراسيم عاشوراء، فلا يتخلف شيعي عن المشاركة في هذه المراسيم والشعائر حيثما أمكنه، فالشيعة في كل مكان ولو كانوا أفرادا قلائل لا بد لهم وأن يحيوا هذه المناسبة، حسب إمكانهم.
إن هناك فوائد جمة لإقامة الشعائر الدينية وخاصة شعائر عاشوراء، فالمسألة لم تكن في يوم من الأيام عادة أو تقليدا اجتماعيا فحسب، بقدر ما هي شعائر دعا لها أئمة أهل البيت ، وهي تؤدي بطبيعة الحال وظائف في حياة الجماعة الشيعية. ومن تلك:
أولاً: حفظ الهوية المذهبية
كان لشعائر عاشوراء دور كبير في حفظ هوية مذهب أهل البيت، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار ما كان يواجه هؤلاء الشيعة من الضغوط ومحاولات مسخ الهويّة.
ثانيا: تعزيز الكيان الاجتماعي
شكّل إحياء مراسم عاشوراء نقطة استقطاب حيوية في المجتمعات الشيعية في كل مكان. فالشيعة حيثما وجدوا في أي نقطة من العالم، حتى لو لم يكونوا يعرفون بعضهم البعض فإنهم سرعان ما يجتمعون في موسم عاشوراء فيتعزز لديهم الشعور بوحدتهم الاجتماعية، فالدافع الولائي عندهم جميعا يدفعهم باتجاه التجمع وهذا ما يعزز بطبيعة الحال كيانهم الاجتماعي. وقد رأينا ذلك جليا في التجمعات الشيعية في مناطق مختلفة من العالم.
ثالثا: تأكيد الالتزام الديني
إن أحد أهم الأدوار التي تساهم بها هذه الشعائر هو تأكيد الالتزام الديني في ساحة المجتمع الشيعي ثقافيا وسلوكيا. لأن من طبيعة هذه الشعائر استحضار سيرة رسول الله والأئمة من أهل البيت وذكر تعاليمهم وتوجيهاتهم وتأكيد الانشداد إليهم، وهذا فيه دور كبير لتأكيد الالتزام الديني الثقافي والسلوكي في حياة الجماعة الشيعية.
عاشوراء القطيف
وقد أحيت محافظة القطيف الشعائر الحسينية هذا العام بحمد الله على خير وجه ودون إشكال، وهذا ما ينبغي أن يكون، فإذا لم تكن هناك مضايقات للناس، وتركت الفرصة لهم ليمارسوا شعائرهم الدينية المذهبية، فإن الأمور تسير على ما يرام، ولن تكون هناك مشاكل تذكر، وإنما تبرز المشاكل إذا ما كانت هناك عراقيل ومضايقات، أما حينما تتاح الفرصة فإن إحياء هذه المراسيم سيتم على أكمل وجه من النظام والهدوء. وقد رأينا خلال المناسبة مستوى الانتظام في التجمعات الكبيرة في المآتم والحشود التي بلغت عشرات الآلاف في بعض الأماكن من الرجال والنساء والأطفال، ثم ينصرف الجميع ويتفرقون بكل هدوء، وهذا دليل على مستوى الانتظام الكبير في هذا المجتمع.
لقد تجلت خلال إحياء عاشوراء هذا العام خصائص وسمات وأن كانت موجودة فيما سبق من الأعوام إلا أنها تعززت أكثر فأكثر خلال هذا الموسم، ومنها:
أولا: أظهر المجتمع قدراً أكبر من التفاعل مع مواكب العزاء والمجالس الحسينية والمسرح التمثيلي المفتوح والمخيمات والمضايف والأنشطة المختلفة. فقد شهدت هذه الأنشطة بألوانها المختلفة تفاعلا واضحا من مختلف شرائح المجتمع.
ثانيا: تجلى في هذه المناسبة مستوى البذل والعطاء. فقد بذل الناس أموالهم في حب الحسين ، والمضائف الحسينية على سبيل المثال تجل آخر للبذل، ونوع من التأسي بسيرة أهل البيت الذين قال عنهم ربنا (ويطعمون الطعام على حبه)، فهناك ثمة قدر كبير من البذل للمال والوقت والجهد من مختلف أعمار وفئات المجتمع. ولقد رأينا المخيمات الكبيرة كيف عمل بعض الشباب لأكثر من ستة أشهر حتى تظهر ثمرة عملهم خلال عاشوراء. نسأل الله أن يثيب الجميع على هذا البذل ويجزل لهم الثواب على ما بذلوه من الوقت والجهد على حساب راحتهم.
ثالثا: بدا واضحاً هذا العام مستوى الإبداع والتطوير في الكثير من الأنشطة العاشورائية. ففي كل عام نجد تطويراً وإبداعاً أكثر من سابقه، إذ لم يعد الإحياء مقتصراً على إقامة مأتم أو تسيير موكب عزاء، بل أصبح هناك مخيمات ودور للفنون التشكيلية والعرض والتمثيل والمسرح وهكذا في مختلف المجالات تجد هناك إبداعًا كبيرا ينبئك عن مخزون الكفاءة والإبداعات في هذا المجتمع، وهذا ما نحمد الله تعالى عليه، فلدى هذا المجتمع كفاءات وطاقات إبداعية تجد بعضها في العروض التمثيلية الراقية، وما يتطلب ذلك من فريق واسع يبدأ من كتابة النص والسيناريو، وصولاً إلى المؤثرات الصوتية، والتمثيل والتصوير. إن في ذلك قدراً كبيراً من الإبداع عند أبنائنا يستحق الإشادة والتقدير.
أعمال تطوعية جبارة
لقد مثلت مناسبة عاشوراء محطة مهمة للأعمال التطوعية التي استقطبت آلاف المتطوعين من الشباب والشابات. فقد كرست المناسبة روح العمل الجمعي عبر اشتراك المئات من المتطوعين في كل منشط ومخيم حسيني. وكنماذج على هذا العمل الجمعي الكبير نذكر مهرجان عاشوراء والمخيم الحسيني في مدينة صفوى الذي تشرف عليه هيئة عاشوراء، هذا المخيم الذي يقام للسنة الخامسة على التوالي، أقيم هذا العام على مساحة 10 آلاف متر مربع، وبلغت أعداد المتطوعين فيه أكثر من 600 شاب وفتاة، وبينهم متطوعون من أعمار مختلفة بين سن الخمس سنوات وسبعين سنة ، وقد أمضى هؤلاء أكثر من ستة أشهر في الإعداد لإقامة المخيم، وذلك من خلال عدد من اللجان والاجتماعات المتواصلة.
وكذلك الحال في موكب مؤسسة الإمام الحسين في مدينة سيهات الذي شارك فيه أيضا أكثر من 450 متطوع و200 متطوعة بينهم أكثر من 120 شبلا. كما كان هناك حملات التبرع بالدم التي شهدت إقبال المئات من الناس للتبرع باسم الإمام الحسين . ومن الأنشطة الكبيرة أيضا ما قامت به لجنة التمثيل في بلدة أم الحمام، حيث قدموا عرضهم التمثيلي المبهر، وشارك في هذه اللجنة أكثر من 200 كادر من الرجال والنساء، وعلى غرار ذلك مختلف الأنشطة الأخرى.
نحمد الله على هذا التوفيق أن أصبح مجتمعنا يمتاز بهذا المستوى المتقدم، فهناك خطباء جيدون، وشعراء مبدعون، ورواديد، وممثلون، ورسامون، وناشطون، وجميعهم يتفانى في خدمة أبي عبدالله الحسين، ويبدعون ويطورون من أجل إحياء مناسبة عاشوراء في أبهى صورها. فهم جميعا محل الشكر على جهودهم، ونسأل الله أن يضاعف لهم الأجر والثواب.
ومع ذلك لا بد وأن نقول أن علينا أن نستثمر موسم عاشوراء على نحو أفضل. فلا يجب أن نكتفي بهذه الأنشطة والجهود الكبيرة المبذولة وحسب، بل نريد أن نتلمس آثار وثمار هذه الجهود على سلوك أبنائنا وبناتنا، والوضع الاجتماعي العام، فبعد هذا الموسم نريد أن نرى تضاعف الإقبال على صلاة الجماعة، وتنامي الالتزام السلوكي والخلقي بالآداب الإسلامية، وزيادة الوعي والثقافة لدى الجمهور، وتعزز روح التعاون والعمل الجمعي بين الناس، سواء من خلال دعم الأندية الرياضية والجمعيات الخيرية أو غيرها، فهذا وحده دليل على مدى استفادتنا من موسم عاشوراء، وإلا فإن مجرد إقامة الشعائر دون أن تترك أثرها في عقولنا ونفوسنا ومجتمعنا فذلك قصور في الاستفادة من هذه المناسبة العظيمة.
نسأل الله أن يثبتنا على محبة أهل البيت ويبلغنا إقامة شعائرهم في كل عام في خير وأمان.
ان احياء سيرة أهل البيت والاحتفاء بذكرى عاشوراء إنما يأتي على هدي القرآن الكريم، الذي يحث على أخذ الدروس والعبر من أحداث التاريخ. فقد تحدث القرآن الكريم عن قصص عدد من الأنبياء والأولياء والصالحين، وذلك ليس من باب التسلية، ولا لكي يستغرق الناس في الحياة الشخصية الذاتية لهؤلاء الأنبياء والأولياء، وإنما لهدف محدد وهو أخذ العبرة، بحسب ما تشير الآية الكريمة (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب).
فالهدف من ذكر سير الأنبياء هو أخذ الدروس والعبر من سيرتهم، والاستضاءة بنورهم، واستحضارها لذاكرة الأجيال كرموز ودعاة ينشد الناس إليهم، فيقتدون بهم، ولذات الغاية ونفس السبب نحيي ذكرى سيرة أهل البيت . وحينما نحتفي بسير أهل البيت وبمناسبات ذكرياتهم إنما من أجل تحقيق نفس الغاية التي من أجلها ذكر القرآن قصص الأنبياء. وقد يتساءل البعض عن سبب استحضارنا للتاريخ، ويستدلون زعما بالآية الكريمة (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم)، وهذا ليس صحيحاً، ولو كان الأمر كذلك لما خلد القرآن الكريم سير الأنبياء، لدرجة ذكر التفاصيل الجزئية في بعض الأحداث من قبيل قصة نبي الله يوسف ، فالقرآن يخلد قصته مع أخوته في أكثر من 100 آية، مع أن الأمر قد انتهى ويوسف رضي عن أخوته واستغفر لهم في نهاية المطاف، إلا أن القرآن مع ذلك يخلدها. من هنا فالاحتجاج بالآية الكريمة (تلك أمة قد خلت) لا معنى له في هذا المقام، فالآية لا تعني بأي حال تجاهل أحداث التاريخ، ولو كان الأمر كذلك لما خلد القرآن هذه السير. لذلك وعلى هدي القرآن الكريم نخلد قصص وسير أهل البيت ، من أجل أن نأخذ منها الدروس والعبر، وإحياؤنا لعاشوراء هو لهذا الهدف تحديدا.
يمكن القول أن لكتاب عاشوراء فصلين، يحتوي الأول على تفاصيل واقعة كربلاء أما الثاني فهو رسالة الشهداء التي أريد إبلاغها إلى الأجيال اللاحقة. لقد انتهى الفصل الأول بعد ظهر يوم العاشر من المحرم باستشهاد الإمام الحسين والخيرة من أهل بيته وأصحابه، ثم بدأ بعدها مباشرة الفصل الثاني المتمثل في إيصال رسالة الشهداء إلى الأمة، ولو لم يأتي هذا الفصل المهم لضاعت ربما رسالة الشهداء، ولو لم يكن هناك من يوصل رسالة الشهداء ورسالة الحسين لأمكن للسلطات الأموية أن تعتم على الواقعة وتشوهها وبالتالي تتلاشى تلك الأهداف العظيمة لهذه الثورة المجيدة. ولهذا خطط الامام الحسين لتكون المعركة مكونة من هذين الفصلين، وأعد لذلك عدته بأخذ أخوته وأصحابه ليكتبوا الفصل الأول من المعركة، فيما أخذ معه عقيلة الطالبيين زينب ونساء أهل البيت وأطفاله ليكونوا هم كُتَّاب الفصل الثاني من هذه الثورة العظيمة.
لقد كان الحسين مدركا منذ البداية لمدى فداحة الثمن المتوجب دفعه لإبلاغ رسالته إلى الأجيال. كان يمكن للإمام أن يبقي أسرته في المدينة المنورة بعيداً عن هذا الأذى الذي لحق بهم، فقد كانت للعقيلة زينب مكانة عزيزة عند الحسين وعند أهل البيت عموما، ومع ذلك تعرضت إثر مشاركتها أخيها الحسين في ثورته لقدر كبير من الأذى والضيم والألم، حتى أن الإمام زين العابدين لما سئل عن أعظم ما مر بآل البيت، قال : الشام الشام، وكأنها أصعب مما أصابهم في كربلاء، ثم سئل عن أعظم ما عاناه آل البيت في الشام، فقال: شماتة الأعداء. فالحال التي تعرضت لها نساء أهل البيت في الشام لم تكن أمرا بسيطا، كل ذلك لأن الحسين كان يعلم بأن كتاب الثورة لا يكتمل إلا بهذا الفصل، ولأن رسالة الثورة لن تصل إلا عبر هذا الطريق. ولذلك قال حين سئل عن معنى حمله النساء في رحلته إلى كربلاء: شاء الله أن يراهن سبايا. ومعنى ذلك أن الله شاء لهن أن يكتبن الفصل الثاني والمهم من كتاب الثورة الحسينية المجيدة.
لقد حملت خطب الإمام زين العابدين والهاشميات بعد واقعة كربلاء رسالة الثورة إلى كل الإصقاع. لقد كان للسيدة زينب أكثر من خطاب وكذلك أم كلثوم، وزين العابدين، وفاطمة بنت الحسين، هذه الخطب تحديدا هي التي حملت رسالة الحسين، وحمت أهداف ثورته من التشويه بواسطة الإعلام الأموي، الذي كان يريد أن يبين أن الإمام الحسين خارج على إمام زمانه، بل أعظم من ذلك، فقد استخدم ابن زياد، الوالي الأموي على الكوفة، ألفاظا قبيحة لا تليق إلا به، حين وصف الحسين بالكذاب، فقد خاطب ابن زياد سبايا آل البيت بعد عاشوراء بالقول (الحمد لله الذي فضحكم وكذب أحدوثتكم). وقد كان واجبا أن يُواجه ويُكشف هذا الإعلام السلطوي المضلل حتى تصل رسالة الثورة عبر الأجيال.
إن أحد الدروس الكبيرة من عاشوراء يتمثل في أن أي مجتمع لديه قضية وحراك سياسي، ينبغي أن لا يتجاهل دور الإعلام والحرص على إيصال رسالته للمحيط الذي يعيش فيه. لا ينبغي للمجتمع الذي يحمل قضية أن ينكفئ على ذاته مكتفيا بالتبرم في المجالس الخاصة والضيقة، إن عليكم أن توصلوا رسالتكم لمن يعيش حولكم من الأطراف الأخرى، فهم لا يعرفون حقيقة موقفكم وماهية أهدافكم، فتلك مسئوليتكم أنتم بالدرجة الأولى. إننا نعيش اليوم في عصر يقلب الإعلام الحق إلى باطل والباطل إلى حق، ويحول الضحية إلى جلاد، والجلاد إلى حمل وديع، ولذلك فإن أي مجتمع وشعب لديه قضية وحراك ينبغي أن يفكر كيف يوصل قضيته للعالم، فليس من المتوقع أن يبحث أغلب الناس عن الحقيقة حتى يقفوا عليها، ولو كان الأمر كذلك لترك الحسين أسرته وعياله في المدينة المنورة، ولقال أن على الناس أن يبحثوا هم عن الحقائق، كلا، لم يكن الأمر كذلك، بل تحمل الإمام المسؤولية تجاه رسالته وقضيته وجماهير الأمة، واستعد من أجل ايصال الرسالة للآخرين.
ونحن حينما نقرأ في خطابات الهاشميين والهاشميات بعد واقعة كربلاء نجد أن لهذه الخطابات سمات مميزة، أبرزها ثلاث:
الأولى: استخدام منطق القيم
لقد تميز خطاب آل البيت بعد واقعة عاشوراء باستخدام لغة المنطق السليم والقيم والمبادئ، ولم يكن بأي حال خطابا انتقامياً متشنجًا. كان خطاب البيت الهاشمي مؤصلا للقيم، ويرجع ما حصل إلى المبادئ الحقة، هذا ما نقرأه في خطب الإمام الحسين وزنيب وزين العابدين وبقية الأسرة الحسينية، فقد كانوا يستشهدون بالآيات والمبادئ والقيم، حتى يعطوا للحركة والنهضة بعدها القيمي. ولذلك فإن على الناس الذين يريدون أن يتحركوا من أجل مجتمعهم وقضيتهم أن يضعوا هذا الأمر نصب أعينهم، وذلك بأن يضعوا الأحداث في سياقها القيمي، المنطقي، ويتحدثون إعلاميا بلغة قيمية، وليس بلغة انفعالية متشنجة، فاللغة الانفعالية قد تستفيد منها أنت في التنفيس عن نفسك، لكن من غير المتوقع أن تترك أثرا في الطرف الآخر، ولذلك ينبغي أن تكون اللغة الإعلامية المستخدمة منطقية قيمية باستمرار.
الثانية: إبراز المظلومية وفضح الظالمين
حرص رموز البيت الهاشمي على الحديث مفصلا عن مظلومية أهل البيت . وفي هذا السياق نعلم جميعا كيف خاطبت عقيلة الطالبيين زينب يزيد بن معاوية في مجلس الحكم في الشام وأمام الناس قائلة: (أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا على ظهور المطايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن ....)، وفي السياق ذاته تحدث الإمام السجاد في الكوفة عن الظلامة التي لحقت به وبأهله بالقول (أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته، وانتهب ماله، وسبي عياله أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير دحل ولا ترات، أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا). لقد كان من أركان الخطاب الإعلامي لآل البيت إبراز المظالم الفادحة التي تعرضوا لها. فليس من الصحيح إغفال المظالم التي يتعرض لها المجتمع الذي يدافع عن قضيته، بل يجب توثيقها وعرضها للرأي العام.
السمة الثالثة: استثارة الوعي والوجدان عند جماهير الأمة
ينبغي لأصحاب القضايا العادلة أن يخاطبوا عموم الجمهور وعدم الاكتفاء بمخاطبة الخصوم. فمن الخطأ جعل المعادلة الإعلامية وكأنها صراع بين سلطة ومعارضة، فيما يغفل الخطاب الموجه للجمهور الأوسع نطاقا، ينبغي أن نعلم أن هناك جمهوراً وشعباً وأمة ينتظرون سماع الحقائق، إن علينا أن نخاطبهم وأن نستثير الوعي والوجدان في نفوسهم، لا أن نتركهم ونسلمهم للإعلام المضلل، فهذا ما كان يركز عليه الإمام الحسين وخطاب الهاشميات من بعده.
ينبغي أن تأخذ الشعوب هذه الدروس والعبر من أجل نصرة قضاياهم، عبر مزيد من الانفتاح الإعلامي على محيطهم، فلا يصح أبدا أن ينكفئ الناس وينغلقوا على ذواتهم ويتقاعسون في إيصال وشرح رسالتهم للآخرين، فهذا من أهم الدروس التي يجب أن نستلهمها من قضية الحسين .
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أنصار الحسين وعلى حرائر الحسين.
«الخطبة الثانية: إبلاغ رسالة الثورة»