الميزانية وخلل توازن التنمية
تعد حالة التصنيف والنظرة النمطية للآخرين إحدى المشكلات الرئيسة التي يمكن أن تضرب أي منظومة فكرية أو عقدية، مما يخلق أمامها عائقا أساسيا في التواصل الإنساني الأرحب.
فحينما تكون هناك على سبيل المثال شخصية عظيمة تتبناها منظومة فكرية أو دينية معينة، فإن أتباع المنظومات الدينية الأخرى قد لا يجدون أنفسهم معنيين بتعظيم هذه الشخصية، مع أنها في الأصل شخصية عظيمة حتى بالمعايير المعتبرة ضمن منظومتهم الخاصة، لكن وبسبب ترسخ حالة التصنيف قد لا يجدون أنفسهم معنيين بالحديث عنها والاهتمام بها.
ولعل أحد أبرز الأمثلة على ذلك هي النظرة الضيقة للاحتفالات المصاحبة لذكرى ميلاد نبي الله المسيح عيسى بن مريم . حيث يحتفل جزء كبير من العالم بذكرى ميلاده ، فنسبة كبيرة من سكان الكرة الأرضية ينتمون إلى الدين المنتسب إليه، ولأنهم يشكلون الحضارة الغالبة فإن مناسباتهم تفرض نفسها على العالم كله.
من طرفنا كمسلمين ينبغي أن لا نحرم أنفسنا من الاستفادة من استحضار شخصية هذا النبي العظيم. فنبي الله عيسى أحد أولي العزم من الرسل، ومن الأنبياء العظام الذين تكرر ذكرهم في القرآن الكريم، وهو أقرب الأنبياء من أولي العزم زمنيا من نبينا محمد ، ولا مشكلة في النقاش حول دقة توقيت ميلاده فمثل هذا الاختلاف أمر قائم حتى في مناسباتنا الإسلامية نفسها.
ان نبي الله عيسى بن مريم ليس رمزًا للمسيحيين فقط. بل هو شخصية مقدسة ومعظمة في المنظومة الفكرية الإسلامية، فالقرآن الكريم يفرض على كل مسلم تقديس كل الأنبياء، كما جاء في الآية الكريمة (لا نفرق بين أحد من رسله)، وقد تحدثت النصوص القرآنية والأحاديث والروايات كثيرا عن شخصيته العظيمة، وفي القرآن الكريم سورة كاملة باسم أمه (مريم) عليها السلام، بل نعتقد أننا أولى به وببقية الأنبياء. وإذا كان هناك من ينتسب إليه ضمن منظومة نختلف معه فيها ولا نراها منظومة عقدية صائبة، فذلك لا يبرر تجاهلنا لهذه الشخصية العظيمة أو ضعف الاهتمام بها، كما يتجلى ذلك في الحضور الضعيف في خطبنا وإعلامنا لشخصية نبي الله عيسى بن مريم، بالشكل الذي لا يتناسب مع مكانة هذه الشخصية الإلهية في نصوصنا المقدسة.
إن أحد الأسباب للحضور الباهت في اعلامنا لشخصية نبي الله عيسى هو حالة التصنيف الحادة للشخصيات ضمن المنظومات الفكرية والعقدية. وهو ما نعاني منه حتى في داخل المنظومة الإسلامية، ففي الداخل الإسلامي نجد أن بعض الشخصيات الإسلامية جرى لها تصنيف مذهبي ضيق، فأصبحت رموزًا لهذا المذهب دون غيره، عوضا من أن تكون رموزا للأمة بأكملها، فأتباع المذاهب الأخرى لا يجدون أنفسهم معنيين كثيرا بهذه الشخصيات.
فأهل البيت رموز عظيمة لكل الأمة ولجميع المسلمين، لكن لأن طائفة من المسلمين أصبحوا معروفين بانتمائهم إليهم ، وعرفوا بشيعة أهل البيت، أصبح بعض المسلمين من أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى لا يجدون أنفسهم معنيين كثيرا باستحضار شخصيات أهل البيت، وكأنها شخصيات تخص الشيعة فقط، بينما هم شخصيات إسلامية تؤكدها النصوص والمصادر الدينية وكتب الحديث عند السنة قبل الشيعة، فحضور أهل البيت ومكانتهم وفضلهم لا يستطيع أن ينكره مسلم.
إن مشكلة التصنيف مشكلة قديمة ترتبط في جانب منها بالمواقف السياسية، ولهذا نجد في كتب التاريخ أن عبدالله بن الزبير حينما توطد أمره في الحجاز والعراق سنة 64هـ أسقط ذكر رسول الله من خطبته، فعوتب على ذلك، فأجاب: (رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا ذكرت اسمه اشرأبت أعناقهم وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم)[1] . وعن الزهري قال: كان من أعظم ما انكر على عبدالله بن الزبير تركه ذكر رسول الله في خطبته وقوله حين كلم في ذلك: إن له أهل سوء يشرئبون لذكره ، ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به[2] .
ويحضرني في هذا الصدد ما أخبرني به قبل سنوات أحد الأصدقاء في الرياض، وهو باحث ومفكر سني من أبناء الوطن، يقول طلبت مني إحدى الإذاعات أن أعد برنامجا يتناول الجيل الشاب من الصحابة وأبنائهم، فرأيت بأن أبدأ بالإمام الحسين لمصادفة تلك الفترة لشهر محرم ومناسبة عاشوراء، وإذا بالطرف الآخر يعترض بحجة ان الحسين بن علي شخصية يتبناها الشيعة وقد يدخلنا الحديث عنه في مشاحنات وما شابه، ويكمل صديقنا حديثه بالقول؛ أحببت أن أستدرجه فقلت له: ما رأيك اذا في أن نبدأ بحلقة نتحدث فيها عن يزيد بن معاوية، قال حسن تفعل!
وهذا الأمر ليس مقتصرا على فئة دون أخرى، إذ أن هناك اهتماماً أضعف لدى بعض الشيعة بأمر صحابة رسول الله ، لابد من القول هنا، أن الشيعة لا يقدسون كل الصحابة ولا يقولون بعدالتهم المطلقة، وأن لديهم رؤيتهم النقدية حول مجمل تلك الفترة التاريخية، لكن ذلك ليس مدعاة لأي موقف سلبي من مجمل الصحابة، فهؤلاء أصحاب رسول الله ، وتحدث عنهم القرآن من حيث الإجمال، ورسول الله وأمير المؤمنين كما في موارد من نهج البلاغة كقوله : (لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله، فما أرى أحداً يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهِهِم وخـدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معـادهم، كأن بين أعينهم رُكب المعزي من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم، ومادوا كمـا يميـد الشجـر يوم الريح العاصف، خـوفاً من العقاب ورجـاءً للثواب )[3] ، وهناك دعاء كامل في الصحيفة السجادية حول اتباع الرسل وأصحابهم وبالخصوص أصحاب نبينا محمد ، كما في الفقرة التالية من الدعاء:(اَللَّهُمَّ وَأَصْحَابُ مُحَمَّد خَاصَّةً الَّـذِينَ أَحْسَنُوا الصَّحَابَةَ، وَالَّذِينَ أَبْلَوْا الْبَلاَءَ الْحَسَنَ فِي نَصْرِهِ، وَكَانَفُوهُ وَأَسْرَعُوا إلَى وِفَادَتِهِ وَسَابَقُوا إلَى دَعْوَتِهِ واسْتَجَابُوا لَهُ حَيْثُ أَسْمَعَهُمْ حجَّةَ رِسَالاَتِهِ، وَفَارَقُوا الازْوَاجَ وَالاوْلادَ فِي إظْهَارِ كَلِمَتِهِ، وَقَاتَلُوا الاباءَ وَ الابناءَ فِي تَثْبِيتِ نبُوَّتِهِ، وَانْتَصَرُوا بهِ)[4] وكذلك في دعاء يوم الثلاثاء المروي عن الإمام زين العابدين والذي جاء فيه (اللهم صل على محمد خاتم النبيين وتمام عدة المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين)، وقد قاتل تحت راية الإمام علي في صفين ما يزيد على 2800 صحابي، فإذا كان هناك موقف حول بعض الصحابة فلا يعني ذلك التنكر للصحابة أجمعين. ان وجود التصنيف المذهبي بين فئات الأمة لا يبرر غض الطرف عن تلك الشخصيات الاسلامية العظيمة.
من هنا نقول بأن نبي الله عيسى ليس شخصية خاصة بالمسيحيين، إنه نبي من أنبياء الله العظام، لذلك فالحديث عنه واستحضار شخصيته أمر مطلوب منا كمسلمين.
الغلو آفة تصاب بها الأديان والمذاهب بل تصاب بها مختلف المجتمعات البشرية ازاء رموزها وقياداتها. وقد تعرضت الديانة المسيحية لهذه المشكلة بمنطوق القرآن الكريم ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾.
والمغالاة في الرموز والقيادات لها أسباب نذكر منها:
الأول: ظهور التميز والتفوق الصارخ
إذا تفوقت الشخصية بشكل كبير فإن ذلك يدفع الأتباع إلى تفسير هذا التفوق تفسيرا مغاليا ، فتنسب له صفات التأثير في الكون والألوهية وما يتجاوز الواقع بكثير. ولا شك أن عيسى بن مريم كان له تميز واضح بدءً من ولادته، فقد ولد من غير أب، وهذه ميزة لم تحصل لأحد آخر بعد وجود آدم الذي خلقه الله تعالى من تراب، والفارق أن وجود آدم لم يشهده أحد من البشر، أما نبي الله عيسى بن مريم فقد شهده الناس، فالسيدة مريم امرأة طاهرة نقية وإذا بها تجيء قومها بمولود من دون زوج، فتعجبوا من ذلك وقالوا: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾، وهذا بحد ذاته أمر استثنائي، ومن ناحية أخرى كلامه وهو في المهد كما ورد في الآية الكريمة ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ فكانت هذه معجزة عظيمة.
كما تميزت سيرة النبي عيسى بين قومه بالرقي الأخلاقي والسلوك المثالي، وزاد منها المعجزات الباهرة التي حصلت على يديه، كما ورد في القرآن الكريم ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، هذه الحالة الاعجازية سببت الانبهار في نفوس المعاصرين له ومن جاء بعدهم مما قاد بعضهم إلى الغلو والانحراف.
ولعل ذات الأمر تكرر مع أمير المؤمنين علي نظرا لتميزه وتفوقه الصارخ، فقد دفع ذلك بعض محبيه إلى المغالاة فيه. وهذا ما دعا رسول الله إلى الإحجام عن الاسهاب في ذكر فضائل الإمام علي، فما حصل من انبهار كبير لدى البعض ازاء شخصية علي حصل مع أن النبي لم يطلعهم على كل جوانب شخصيته فكيف لو أبان لهم ذلك. جاء في حديث ورد في مصادر للسنة والشيعة أن رسول الله خاطب أمير المؤمنين بالقول: (والذي نفسي بيده لولا أن يقول فيك طوائف من أمتي بما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك اليوم مقالا لا تمر بأحد من المسلمين إلا أخذ التراب من أثر قدميك يطلب به البركة)[5] . إذا فالتميز في الشخصية في مختلف المجتمعات قد يكون سبباً لغلو الأتباع والمنبهرين.
والحقيقة ان حالة الغلو ليست مقتصرة على أتباع الأنبياء والرموز الدينية. ولعل آخر ما تم تداوله في هذا الصدد هي الإشاعات التي سيقت هذه الأيام بعد وفاة زعيم كوريا الشمالية (كيم جونغ ايل) فقد بدأت بعض الصحف الكورية الكتابة عن بعض الظواهر التي أعقبت موت الزعيم، فزعمت بأن تساقط الثلوج أثناء جنازته إنما كان علامة من السماء تشير إلى أهمية الزعيم الراحل، كما اختلقوا الكثير من الحكايات ومنها قولهم بتقعقع الجليد تحت مهده المفترض، كما هلت أنوار زرقاء حول مكان قبره، وأن هناك طائراً أبيض جاء يمسح الثلج عن تمثاله.
ثانيا: تعظيم الرموز والزعامات مظهر لتعظيم الذات
ان تعظيم الرموز والزعامات ينطوي على جانب نفسي ملفت يكمن جوهره في تعظيم الذات. فالبعض من الناس إنما يعملون على تفخيم قياداتهم، والمبالغة في ترميزها، حتى يبرزوا أهميتهم هم. وذلك يشبه تماما حديث إنسان عن فندق سكن فيه أو عالم التقى به، فيقوم عندها بإطرائه بشكل مبالغ، لا لشيء سوى لتفخيم ذاته هو، وليقول لمستمعيه أنه مهم بما يكفي، لأنه اكتشفت هذا الفندق أو جلس مع ذلك العالم، فكما ان المتحدث هنا لا يهمه الفندق الذي تحدث عنه، بقدر ما يهمه اظهار مدى التميز الذي يتحلى به هو نفسه، كذلك الأمر في تعاطي بعض المجتمعات مع رموزها.
ثالثًا: سوء فهم الدين
الدين لا يقبل الغلو في الأنبياء والأئمة، وإدعاء بعض صفات الألوهية لهم، فذلك يعني الشرك والكفر والخروج من ربقة الدين، لذلك يقول تعالى: ﴿لا تغلوا في دينكم﴾، وروي عن رسول الله : (لا ترفعوني فوق قدري فإن الله اتخذني عبدًا قبل أن يتخذني نبيا)[6] ، ولهذا يجب على المسلم عند التشهد في الصلاة أن يقول (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)، ذلك حتى نقر ونعترف بأن شيئاً من صفات الألوهية لا يمكن ولا يحق أن تمنح لأحد من الناس، ولو كان أفضل الخلق، وهو رسول الله محمد ، لكنه يبقى عبداً لله، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي أنه قال: (هلك في رجلان محب غال ومبغض قال)[7] . وقال (اللهم إني بريء من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى)[8] ، وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله جعفر الصادق إنهم يقولون ـ يعني الغلاة ـ فقال ماذا يقولون؟ قال يقولون أن الإمام يعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب. فرفع الإمام رأسه ويده إلى السماء وقال سبحان الله سبحان الله لا والله لا يعلم هذا إلا الله)[9] . إن الله تعالى أطلع أنبياءه، والأنبياء أطلعوا خلفائهم على بعض المغيبات، ولكن العلم الذاتي بالغيب، والقدرة الذاتية هي بيد الله تعالى، ولذلك تكرر تأكيد عيسى بن مريم حين يذكّر بمعجزاته القول (بإذن الله)، يعني أن تلك المعجزات لم تأت بقدرته الذاتية وإنما تسنت له بإذن من الله.
نسأل الله تعالى أن يبارك للبشرية جمعاء في ذكريات الأنبياء والأولياء، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من السائرين في خطهم وعلى هداهم.
أقر الإسلام مبدأ العدالة في توزيع الثروة بين الناس منذ بواكير قيام المجتمع الإسلامي. فالدولة الاسلامية الوليدة وضعت الأساس لمبدأ التوزيع العادل للثروات، بحيث تشمل جميع الشرائح والطبقات والمناطق، وهو ما يعبر عنه في المصطلحات العصرية بالتنمية المتوازنة. لقد فصلت الآية الكريمة ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ أحكام ما يعرف شرعيا بالفيء، وهي الموارد المالية التي يعود التصرف فيها لقائد الآمة. ومن موارد الفيء ما يحصل عليه المسلمون من غنائم من دون حرب، فإذا كانت هناك حرب فإن الغنائم توزع على المقاتلين ما عدا الخمس فيكون تحت تصرف القيادة، أما إذا لم تكن هناك حرب فإن مصرف الغنائم إذا وجدت فيكون مصرفها كما في الآية الكريمة (لله) يصرف في سبيله عز وجل، ثم (للرسول) يصرفها على الشؤون الإسلامية وفي شأنه الخاص، بعدها يأتي (ولذي القربى) وهم عترة رسول الله ، ويأتي بعدهم (اليتامى والمساكين وابن السبيل). ثم تتحدث الآية عن المقصد والغاية التي وضع لأجلها هذا التشريع وهي (كي لا يكون دولة بين الأغنياء)، أي لكي لا يكون المال والثروة محصورة للتداول بيد فئة معينة من المجتمع. ذلك لأن التنمية المتوازنة والتوزيع العادل للثروة يعتبران من صميم السياسة الاقتصادية في الإسلام.
إن صدور الميزانية العامة للمملكة هذا الأسبوع والتي وصفت بأنها الأضخم في تاريخ البلاد، أعاد التذكير بمشاكل حقيقية في الإنفاق العام يتمثل أبرزها في الفساد وغياب التنمية المتوازنة. ويبدو من تحصيل الحاصل خروج الميزانية بهذا المستوى غير المسبوق بالنظر للثروات الهائلة التي حبا الله بها بلادنا، ووفقا للأرقام المتداولة سجلت ميزانية العام الماضي 2011 إيرادات تجاوزت ترليون ريال، وفائضا غير مسبوق وصل إلى 306 مليار ريال، أما ميزانية هذا العام 2012 فقد بلغت 690 مليار ريال، وذلك بزيادة 110 مليار ريال على الميزانية المقدرة. غير أن هذه الميزانية عادة ما تواجه مشاكل في الإنفاق كما أسلفنا، من أبرزها:
أولا: الفساد
إن أبرز مشكلة تواجه الميزانية العامة للبلاد هي ان قسما كبيرا منها عادة ما يأخذ طريقه إلى جيوب الفاسدين بدلا من أن يصب في مصالح الناس وخدمة المواطنين. فقد درجت العادة على رصد الميزانيات الكبيرة، لكن شبكات الفساد المستفحل تستولي على قسم كبير منها، فلا يصل إلى الناس إلا النزر اليسير منها. وقضايا شبكات الفساد لم تعد سرا، فكثيرا ما تناولتها الصحافة المحلية بالتفصيل، وما عاد هناك من يتستر على الفساد بالشكل الذي كان عليه في السابق، ولعل انشاء هيئة مكافحة الفساد يكون بداية للحد من هذا البلاء الخطير، مع حاجة البلاد الماسة الى منظومة متكاملة تواجه الفساد.
ثانيا: غياب التنمية المتوازنة
يمثل غياب التنمية المتوازنة مشكلة حقيقية تنذر بانعكاسات سلبية على الوطن والمواطنين. فهناك مناطق في البلاد لا يصلها ما تستحق من هذه الميزانيات، في حين يتركز الصرف على المدن الكبرى، أما المناطق الأخرى فلا تزال تعاني التخلف ونقص الخدمات، ويشكو الناس فيها من الحاجة إلى أبسط مستلزمات إدارة الحياة. وقد قرأنا في الصحافة المحلية عن الناس الذين يعيشون في منازل الصفيح، في هذا البرد القارس، في بعض مناطق الشمال، وعن المناطق التي لم تصلها الكهرباء في قرى الجنوب، كما لا يزال عدد كبير من الطلاب يدرس في مدارس هي عبارة عن بيوت مستأجرة غير مهيئة، ولا تمت للبيئة التعليمية بصلة، بخلاف الحاجات الماسة الأخرى التي تشكو منها العديد من مناطق البلاد.
ان غياب التنمية المتوازنة في مختلف المناطق واستفحال القصور في عمل الأجهزة الادارية له أضرار كثيرة، منها:
أولا: الاجحاف بحقوق المواطنين
ان ثروة البلاد ليست قصرا على طرف أو منطقة دون أخرى وانما هي للجميع. اذ ينبغي أن يصل هذا الخير الكثير الذي ينعم به البلد إلى كل ابناء الوطن. ونحن في هذا الأمر لسنا بدعا من البلاد، فالكثير من البلاد التي حباها الله بالثروات ينعم فيها جميع المواطنين حتى الرضّع منهم بإعانات ثابتة ومستحقة، ومنها كندا التي كان يحدثني عنها أحد طلبتنا المبتعثين بأن كندا تخصص لكل طفل يولد على أراضيها سواء كان لأب كندي أم مقيم مبلغا ماليا شهريا لا يقل عن 500 دولار، وذلك حتى ينشأ الطفل نشأة صحيحة ولا يعاني من أي نقص في الجانب الصحي والتعليمي وسائر احتياجاته، فكل طفل ينشأ وجميع احتياجاته مؤمنه منذ ولادته. إن في بلادنا ولله الحمد الخير الكثير، فإذا لم يستفد منه كل المواطنين فلمن يكون وأين تذهب هذه الثروات، وما مصيرها. ان التقصير في وجود التنمية المتوازنة بمختلف المناطق يعد إجحافا بحق الناس.
ثانيا: تضخم المدن الكبرى
ان تركز الصرف المالي على المدن الكبرى يخلق مشكلة أخرى تتمثل في الهجرة من الريف إلى تلك المدن، فغياب التنمية في الريف وتركزها في المدن الكبرى، سبب رئيس للزحف السكاني من المناطق الريفية باتجاه العواصم، وهذا ما يحصل في البلاد فعليا، اذ تشير التقارير إلى أن ما يزيد على نسبة 40% من سكان العاصمة الرياض هم من غير المولودين في العاصمة، وإنما جاءوا من المناطق المختلفة، وهناك دراسة مفصلة حول هذا الموضوع قام بها الباحث إبراهيم بن عبدالله الحميدي من جامعة الملك سعود فرع القصيم عام 1423هـ وفيها نتائج رصد واستبيانات حول اسباب هجرة الناس عن مناطقهم وقراهم، وكان مبرر هجرة غالبية السكان النازحين غياب الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وفرص عمل في مناطقهم، فيما تتوفر بشكل جيد في المدن التي نزحوا باتجاهها.
ان غياب التنمية عن المناطق الريفية ليس أمرا طبيعيا، ولا يصب في صالح الوطن. ولعل الكثيرين ممن زاروا البلاد المتقدمة وجدوا كيف تتعمد حكومات تلك البلاد توفير كامل الخدمات الأساسية حتى في القرى النائية، فمن غير المستغرب أن تجد في تلك الناطق النائية جامعات كبرى ومؤسسات ومصانع، حتى تكاد تختفي الفوارق بين القرية والمدينة على صعيد الخدمات الأساسية في تلك البلاد، بل هناك تقصد في ايجاد مثل هذه الخدمات في تلك المناطق، حتى تجتذب الناس، وتحرك دورة الحياة الاقتصادية في تلك القرى، وهذا ما نحتاج إليه في بلادنا، لذلك على المخططين والمسؤولين عن إقرار وصرف الميزانيات أن يأخذوا هذا الأمر بعين الاعتبار بحيث تغطي جميع مناطق المملكة مع التركيز في هذه المرحلة على الأطراف التي عانت من الإهمال التنموي.
ثالثًا: غياب التنمية سبب للاضطرابات
لاشك بأن الشعور بالحرمان، وغياب التنمية، واستشراء الفساد، يخلق بيئة مناسبة لاندلاع المشاكل والاضطرابات. فالمناطق التي لا تصلها الخدمات، ولا تأخذ حقها من التنمية، ستتحول إلى بؤر للاضطراب والمشاكل، لأن الناس إذا رأوا أنفسهم محرومين من حقوقهم الطبيعية، ويعانون الفقر، في حين توزع الثروات هنا وهناك، سيكون جميع ذلك سبباً لاندلاع المشاكل والاضطرابات، سواء كانت سياسية أو اجتماعية، وإذا أردنا بلوغ الاستقرار المطلوب وسيادة الأمن الاجتماعي والسياسي، فلابد أن يكون هناك اهتمام متوازن بمختلف المناطق دون اهمال لأي منطقة.
إن مستوى الحال في بعض مناطق المملكة بلغ حداً مؤلماً. فحينما يقرأ الانسان عن منطقة الباحة مثلا، أو بعض القرى في جنوب المملكة وشمالها، يتألم لعيش هؤلاء الناس في هذا الوضع السيء في ظل هذه الميزانيات المتضخمة!، وكذلك الحال في منطقتنا الشرقية كمحافظة القطيف، هذه المحافظة ذات الكثافة السكانية، والتاريخ العريق، والتي تنبع من أرضها الكثير من ثروات البلد النفطية، إن من حق الناس فيها أن يتطلعوا إلى تحسين أوضاعهم المعيشية، فلماذا لا تكون هناك تنمية لهذا المناطق؟ ولماذا لا تكون هناك مثلاً جامعات في هذه المحافظة، فعدد كبير من أبناء المنطقة يضطرون للالتحاق بجامعات في مناطق بعيدة عن مقر سكناهم؟ ولماذا لا تكون الخدمات العمرانية والصحية بالمستوى المطلوب؟
ويهمني أخيرًا أن أؤكد على أمرين:
الأول: المسئولية الاجتماعية: ان على الأهالي في مختلف المناطق والقرى المهملة أن يتحملوا مسؤولياتهم، في أن لا يسكتوا عن حقهم. بل عليهم أن يلحوا في طلب تلبية حاجات مناطقهم، ان سكوت الناس عن حقوقهم هو الذي يتيح الفرصة للفاسدين للتلاعب والتهاون، ولذلك على أهالي كل منطقة أن يبحثوا حاجاتهم من مختلف الخدمات الأساسية كالمدارس والحدائق والمستشفيات وغيرها ويتجهون للمطالبة بها. ان ما يجري في كثير من الأحيان هو اهمال المسؤول في هذه الوزارة أو تلك، فقد يكون غير متحمل لمسؤولياته، ولذلك يقع على عاتق المواطنين القيام بدور المطالبة والمتابعة والإلحاح. من هنا نبعت أهمية وجود مجالس الأحياء التي تتولي تفقد الحي وحاجاته الأساسية، ومتابعة الموضوع مع المسؤولين، وإن لزم الأمر تتجه لإثارة القضية في وسائل الإعلام المحلية مادام الأمر متاحا، وصولا إلى مقابلة كبار المسؤولين، إن لم ينفع لقاء المسؤول المباشر، فهذا ما يتوجب على الناس فعله دون كلل.
الثاني: النشاط الاستثماري: ان صدور الميزانية العامة بهذه الأرقام القياسية يجب أن يلفت نظر الناس نحو التوجه للعمل في المشاريع الاستثمارية. فهذه الأرقام الضخمة في الميزانية ستوجد حراكاً اقتصادياً فاعلاً، فعلى الناس أن يفكروا في الاستثمار في المشاريع المختلفة حتى يشارك كل مواطن في الحركة الاقتصادية وتنمية وطنه.
نسأل الله تعالى أن يمنحنا السعة في الرزق والسلامة في الدين والوطن.
«الخطبة الأولى: النبي عيسى شخصية استثنائية»
«الخطبة الثانية: الميزانية وخلل توازن التنمية»