الشيخ الصفار يدعو إلى مضاعفة الإنفاق على الشؤون الثقافية
دعا سماحة الشيخ حسن موسى الصفار إلى مضاعفة الإنفاق على الشؤون الثقافية، مؤكداً أن الاهتمام بالشأن الثقافي من شأنه أن يرتقي بالمجتمع إلى الأمام، واستنكر الوضع القائم من تدني مستوى الإنفاق على هذا الجانب المهم في حين أن المجتمعات الغربية سبقت إلى هذا الجانب فتقدمت وتركت المجتمعات العربية والإسلامية تتقوقع في مؤخرة الركب، بينما كان من المفترض أن تكون الأمة الإسلامية هي السبّاقة إلى ذلك حيث أن أول ما نزل من رسالة الإسلام دعوة صريحة إلى المعرفة والثقافة يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ﴾. واستعرض في حديثه آراء المفسرين حول قوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ مؤكداً أن فيها تشجيعٌ على الإنفاق في الشأن العام فيما يرتبط بخدمة الدين والمجتمع والإنسانية، وبها ينال الإنسان الثواب العظيم في الدنيا والآخرة.بدأ الشيخ الصفار خطابه بقوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (الحديد، 7)، واستعرض آراء المفسرين حول هذه الآية الكريمة، وقال: تحدث المفسرون حول هذه الآية الكريمة عن المخاطبين بها أولاً، فالآية الكريمة تقول: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، فهل الخطاب للمؤمنين؟ فإذا كان كذلك فهو تحصيل حاصل، إذ كيف يُطالبهم بالإيمان بالله ورسوله وهم مؤمنون فعلاً. أم أن الخطاب للكفار؟ الكثير من المفسرين رجّح الرأي الثاني، ولكن بعض المفسرين، ومنهم السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره الميزان، رجّح أن المخاطب في الآية هم المؤمنون، لأن سياق الآيات موجة للمؤمنين، ولأن أمر المؤمنين بذلك لا يُعتبر تحصيل حاصل، وإنما الآية تُشير إلى تحقيق آثار الإيمان، ومن أبرز الصفات التي يجب أن تنطلق من الإيمان صفة الإنفاق، لذلك الآية تقول: ﴿وَأَنْفِقُوا﴾، وعدم الإنفاق دليل على ضعف الإيمان بالله ورسوله.
وأشار إلى المقصود من الإنفاق في الآية الكريمة، قائلاً: المقصود به الدعوة إلى الإنفاق في الشأن العام فيما يرتبط بخدمة الدين والمجتمع والإنسانية، إذ أن الإنفاق في أمور الإنسان الخاصة لا تحتاج إلى تحريض وتشجيع.
وأضاف: ثم تشير الآية الكريمة إلى فلسفة الدعوة إلى الإنفاق، فتقول الآية: ﴿مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾، موضحةً حقيقة علاقة الإنسان بالأموال التي بيده، فهو ليس مالكاً لهذه الأموال وإنما هو وكيل في التصرف فيها.
وأشار إلى معنى قوله تعالى: ﴿مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾، وقال: إما بمعنى الخلافة والنيابة، فالله تعالى جعل المال تحت تصرف صاحبه، وجعله وكيلاً عنه في التصرف في هذا المال، فعليه أن ينفقه في الجهة التي يريد الله تعالى أن يُنفقه فيها، ولذلك ورد في حديثٍ قدسي: «المال مالي والأغنياء وكلائي والفقراء عيالي، فمن بخل بمالي على عيالي، أدخلته النار ولا أبالي.» والمعنى الثاني لقوله تعالى: ﴿مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾: أي أن هذا المال ليس دائماً لصاحبه فهو قد ورثه ممن قبله وسيتركه إلى من بعده، وكما يقول الشاعر:
وما المال والأهلون إلا ودائعاً تُقيم قليلاً عندنا ثم ترحل
وإذا لم يُحسن الإنسان التصرف في الأموال التي في يده سينال الوزر نتيجة لذلك، إضافةً إلى السمعة السيئة في الدنيا، والعقاب في الآخرة، ولذلك يقول تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ﴾ (المنافقون، 11).
ويُضيف الشيخ الصفار: إن الله تعالى اختتم الآية الكريمة بتقديم البشرى للذين يُنفقون أموالهم في الشأن العام بأن لهم الأجر العظيم ليس فقط في الآخرة وإنما في الدنيا أيضاً، يقول تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾.
وأكد الشيخ الصفار أن هناك شحاً في الإنفاق من أجل المصلحة العامة في المجتمعات الإسلامية بشكلٍ عام، مستثنياً بعض المجالات التي يتوفق البعض للإنفاق فيها، مؤكداً أن أعلى مستوىً للإنفاق هو ضمن الأعمال الدينية المباشرة، كبناء المساجد والحسينيات والإنفاق على الحج والعمرة وغيرها من الأمور الدينية المباشرة. ويأتي المجال الإنساني في الدرجة الثانية من حيث إقبال الناس على الإنفاق فيه، أما المجال الثقافي فهو في آخر القائمة، ولذلك أصبحت الثقافة والمعرفة في وضعٍ متخلفٍ ومزرٍ، مع العلم أن هذه الأمة أول ما بدأت به رسالتها ودينها الدعوة إلى المعرفة، يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ﴾ (سورة العلق، 1).
ويُشير الشيخ الصفار أن الاهتمام بالعلم والمعرفة والثقافة في المجتمعات الأخرى فاق المجتمعات الإسلامية بكثير، وهذا ما تؤكده الإحصائيات والأرقام، وكنموذج لذلك استعرض سماحته جانباً من الإحصائيات التي رصدها تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام (2002 – 2003)م، فعلى مستوى الصحف يقول التقرير: في المجتمعات العربية لكل مليون إنسان (53) صحيفة، بينما في المجتمعات المتقدمة فإن لكل مليوون إنسان (517) صحيفة. وعلى مستوى الحاسب الآلي، ففي المجتمعات العربية لكل مليون إنسان (17) حاسب آلي، بينما في المجتمعات المتقدمة فلكل مليون إنسان (78) حاسب آلي. وفي مجال الترجمة ففي المجتمعات العربية لكل مليون إنسان كتاب واحد يُترجم سنوياً، أما في المجتمعات المتقدمة فلكل مليون إنسان (529) كتاب يُترجم سنوياً. فالفارق بين المجتمعات العربية وتلك المجتمعات واضحٌ وجلي ولا يحتاج إلى إثباتٍ أكثر.
ويُجيب الشيخ الصفار على سؤال: لماذا الاهتمام بالمعرفة والثقافة متخلف في مجتمعاتنا؟ بقوله: لا شأن لنا بالسياسات الحكومية، فحديثنا يختص بالمجتمع الأهلي، نحن نلحظ أن الإنفاق الأهلي على الثقافة والمعرفة محدودٌ وضعيف، وأشار إلى ما كتبته مجلة (Arabian Business) عن خمسين ثري عربي قبل شهر، وقالت: إن ثروتهم تبلغ (404) مليار دولار، وأضاف: كم يُنفق هؤلاء الأثرياء على المعرفة والثقافة في العالم العربي؟ ويؤكد أن هناك شيئاً من الإنفاق، ولكنه محدودٌ جداً قياساً إلى حاجة المجتمعات العربية، وقياساً إلى الثروات التي يمتلكها أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة.
ولاحظ الشيخ الصفار الوضع القائم في مجال الإنفاق على الأمور الدينية حيث اقتصر الإنفاق على ما يرتبط مباشرة بها دون الالتفات إلى الجوانب الثقافية والمعرفية والتي قد تخدم هذه القضايا الدينية أكثر من أي شيءٍ آخر، وضرب لذلك مثلاً الإنفاق على الأوقاف الدينية وكيف أن استثمارها لا يعدو ما يرتبط مباشرة بالجهة الموقوفة لأجلها سواءً كانت مسجداً أو وقفاً للرسول الأكرم أو للسيدة الزهراء أو لأحد الأئمة (عليهم السلام). مستفهماً: أليس بالإمكان أن تُسهم هذه الأوقاف في الجانب الثقافي وبما يخدم الجهة التي أوقفت باسمها؟ واستعرض مجموعة من الاقتراحات في هذا الجانب، مؤكداً أن العقول تتوقف حينما يكون التفكير في استثمار الأوقاف بخلاف المعتاد والسائد. وأشار إلى استثناءٍ في المسألة وهو أن الوقف إذا خصص إلى جانب معين بذاته فهنا يجب التصرف فيه ضمن ذلك الجانب. إلا إذا كان هناك فائضاً من الأموال فهنا يُمكن استئذان المرجع في التصرف في بقية الأموال بما يخدم الوقف ثقافياً ومعرفياً، والمراجع لا يرفضون مثل هذه الأعمال المهمة والمسهمة في تقدم المجتمع.
وبين الشيخ الصفار أن حديثه حول هذا الموضوع كان بمناسبة الاحتفاء الذي أقيم في القطيف لرجل أعمالٍ من الكويت أبدى اهتمامه للنشاط الأدبي والثقافي وهو الأستاذ عبد العزيز بن سعود البابطين، وقد أقيم الحفل في جزيرة تاروت. وذكر سماحة الشيخ جانباً من الأنشطة والإسهامات التي قام بها هذا الرجل في المجال الذي أبدى اهتمامه فيه.
وتساءل الشيخ الصفار: ألا يوجد في العالم العربي أناس يمتلكون المليارات والملايين؟ فلو انبرى مجموعة من هؤلاء وقاموا بمثل ما قام به الأستاذ عبد العزيز البابطين فإن ذلك سيُثري العالم العربي بالثقافة والمعرفة التي من شأنها أن ترتقي بمستواه إلى الأمام.
وأضاف: وفي منطقتنا تراثٌ علمي وأدبي لا يزال مخطوطاً، فأين رؤوس الأموال المخصصة لطباعة هذه المخطوطات. وأشار في حديثه هذا إلى المعاناة التي يتحملها كل من يتبنى إثراء الجانب الثقافي والمعرفي حيث يقف الجانب المالي عقبة كأداء في طريق تقدم العمل وإنمائه.
ودعا إلى ضرورة تكوين مراكز تهتم بالشأن الثقافي والمعرفي في المنطقة، إقتداءً بالنماذج المعطاءة في الجانب الثقافي والمعرفي والتي تُعد على الأصابع، مؤكداً أن المجتمع الذي يُنفق على الثقافة فإن شأنه يعظم عند المجتمعات الأخرى، وهذا ما تؤكده الآية المباركة: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾، حيث أن الأجر العظيم لا يقتصر على الثواب الجزيل في الآخرة فحسب، وإنما آثاره وبركاته تنعكس على الحياة الدنيا قبل الآخرة.