البدون وصمة عار للأنظمة والمجتمعات
تمثل الهجرات البشرية ظاهرة عالمية ظلت مستمرة منذ فجر التاريخ وحتى يوم الناس هذا. ومع أن الأصل في بني البشر هي النزعة إلى التشبث بأوطانهم التي ولدوا بها، إلا انهم يجدون أنفسهم في بعض الأحيان مجبرين على الهجرة تحت ضغط البحث عن الرزق أحيانا أو الهرب من القمع أو الفرار من الحروب والكوارث. لكل هذه الأسباب تهاجر مجاميع من الناس من بلدانها وأوطانها إلى بلدان وأوطان أخرى.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو؛ كيف تتعامل مختلف المجتمعات مع هذه المجاميع المهاجرة الوافدة؟ وللإجابة على هذا السؤال يجدر بنا العودة إلى فجر الإسلام، فقد امتدح الله تعالى الأنصار وهم أهل المدينة المنورة لاستقبالهم المهاجرين الذين جاءوهم من مكة المكرمة ، حيث قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فالأنصار وفقا للآية الكريمة هم هؤلاء الذين تبوؤا الدار والإيمان وهم أهل المدينة الذين كانوا مستقرين فيها، كما كانوا كذلك مستقرين في إيمانهم ﴿تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ﴾، ويخلد القرآن الكريم لهؤلاء صفة مهمة وهي أنهم يحبون من هاجر إليهم.
لقد أحب الأنصار المهاجرين الذين وفدوا إليهم من مكة، ليس هذا فحسب، بل أضافت الآية بأنهم كانوا ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا﴾، فقد شارك هؤلاء المهاجرون اخوانهم الأنصار في ثروات بلادهم والامتيازات والغنائم، لكن مع ذلك فالأنصار لم يتحسسوا من مشاركة المهاجرين لهم فيها، بل أكثر من ذلك كانوا يؤثرون المهاجرين على أنفسهم حتى من كان يعيش منهم في ضيق أو حاجة وبحسب التوصيف القرآني ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، ولقد تحدث التاريخ وكتب السير عن الكثير من مشاهد الإيثار والمواساة التي قام بها الأنصار تجاه المهاجرين، فقد فتحوا لهم بيوتهم، وتنافسوا عليهم، حتى كانت تقرع القرعة لهم، فحين يأتي مهاجر يعرض الأنصاري له منزله، ويأتي آخر وكلاهما يصر عليه، فيذهبون لرسول الله يحتكمون وكل يقول: يا رسول الله أنا أولى به منه، فيقترع لهم رسول الله أيهما يأخذ المهاجر إلى بيته. وقد قاسم بعض الأنصار المهاجرين أموالهم وبيوتهم، حتى خلد القرآن الكريم هذا الايثار للأنصار فكانوا مضرب المثل دائما وأبدا.
أما في الوقت الراهن، فتختلف المجتمعات البشرية في تعاملها مع مسألة الهجرة بين التعامل الإنساني وما هو خلاف ذلك. فهناك مجتمعات تتعامل مع المهاجرين تعاملا إنسانيا أخلاقيا، فتستقبلهم وتتفهم ظروفهم وتدمجهم في مجتمعاتها، فيما بعض المجتمعات الأخرى لا تتحلى بهذه الصفة.
فالبلدان الغربية مثل الولايات المتحدة واستراليا ونيوزلندا عرفت بأنها الأكثر استقطابا واستقبالا للمهاجرين، بل إن بعض هذه البلدان يشجع الهجرة إليها، فأمريكا تعتبر أمة المهاجرين باعتبار أن أغلب الشعب الأمريكي قادمون من بلاد أخرى، جاءوا واستقروا فيها خاصة من أوروبا خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، فقد هاجر ملايين من البشر من أوروبا وأفريقيا صوب الولايات المتحدة. لقد شجعت هذه البلدان الهجرة إليها، وسهلت أمور المهاجرين الوافدين، لما تملك من مساحة واسعة من الأرض، واحتياجها للأيدي العاملة، والكفاءات والأدمغة، حتى أن بلدا مثل أمريكا جعلت لها برنامجا سنويا تعلن عنه عبر شبكة الانترنت وتستقبل من خلاله آلاف المهاجرين الجدد ضمن مواصفات معينة، وهي بذلك تستقطب أصحاب العقول والأموال والكفاءات، كما ان هناك من يدخل إلى أمريكا وبلدان أوروبا بطرق غير مشروعة ، لكن هذه الدول تعلن بين فترة وأخرى عن برامج لاستيعاب هؤلاء وتسوية أمورهم القانونية، حتى لا يعيشوا خارج القانون، فيندمجون في المجتمع، وتستفيد البلاد منهم، ويصبحون جزء من ذلك المجتمع، له نفس الحقوق، وعليه نفس الواجبات.
هذا القدر من التعاطي الانساني للدول الغربية مع المهاجرين أمر يستحق الإكبار، ويحسب لهذه المجتمعات. فكم من اللبنانيين خرجوا من لبنان اثناء الحرب الأهلية فيها، وكم من الفلسطينيين اضطروا للهجرة من فلسطين، وكذلك الأفغان والعراقيين وغيرهم، فأصبحوا اليوم جزءً من مجتمعات تلك البلاد التي هاجروا إليها، حتى أنك لا تكاد تجد الآن ولاية أو مدينة أمريكية تخلو من جاليات مهاجرة من بلاد أخرى، وخاصة من البلدان الإسلامية، مع ضمان حرياتهم الكاملة فهم مندمجون تماما مع مجتمعاتهم الجديدة.
في مقابل ذلك تتعامل البلاد العربية والإسلامية مع مسألة الهجرة على نحو سلبي، وغير مرحب بأمثال هؤلاء الناس. وإذا ما اضطرت بعض بلداننا لاستقبال بعض اللاجئين أو المهاجرين فغالبا ما يلقون تعاملا سلبيا وسيئا، ولذلك نجد من يضطر للهجرة إلى البلاد العربية والإسلامية فهو يعيش معاناة وأوضاعا مأساوية، وينتظر أي فرصة لكي ينتقل إلى أوروبا وأمريكا.
ولعل المشكلة الأبرز على هذا الصعيد في منطقتنا الخليجية هي مشكلة غير محددي الجنسية المعروفون بـ(البدون). هذه المجاميع البشرية التي تقدر بمئات الآلاف في بلدان خليجية مختلفة لا يحملون جنسية محددة، فقد وفد أجداهم على هذه المنطقة، وقد ولد بينهم في هذه المنطقة الآن الجيل الثالث، ومع ان هؤلاء ولدوا في هذه البلدان ونشأوا فيها، لكن مع ذلك لا يعترف لهم بأدنى حقوقهم الإنسانية.
زرت الكويت الأسبوع الماضي وشهدت كيف كانت مشكلة (البدون) هي الشغل الشاغل في المجالس، فقد كانت هناك مظاهرات واعتصامات من قبل هذه الفئة التي قدر عددهم بأكثر من 120 ألف شخص. الواحد من هؤلاء يرى نفسه ولد في الكويت، وعاش فيها، وأصبح رجلًا، وقد لا يعرف كيف جاء جده من قبل إلى هذه البلاد، وكيف عاش فيها أبوه، لا يعرف كل هذه التفاصيل ولا يهمه ذلك، ان كل ما يهمه هو أنه يرى نفسه شخصا كويتيًا، ولكنهم مع ذلك محرومون من أبسط الحقوق الاساسية ، هذا الإنسان الذي يطلق عليه (بدون) محروم من الحصول على شهادة ميلاد، وإذا مات لا يمنح شهادة وفاة، ولا يسمح له بالتعليم، ولا الوظيفة، ولا التملك، ولا امتلاك وثيقة سفر، فهو محروم من كل حقوقه الإنسانية، مع أنه عربي قح ومسلم، وقد جاء بالتأكيد من بلد مجاور إما من إيران أو السعودية أو العراق أو غيرها، فهو يرى من يعيش معه يتمتع بكامل حقوقه بينما هو محروم من أدناها وأبسطها.
ان ذات مشكلة البدون يرزح تحت وطأتها أكثر من نصف مليون انسان يعيشون هنا على تراب المملكة. فهناك عدد كبير من الناس خاصة في الحجاز، ومناطق مختلفة يطلق عليهم عديمي الجنسية، يعيش هؤلاء حياة تفتقد أدنى مقومات الحياة الإنسانية.
أجرى أحد الباحثين (إبراهيم خليف مرضي المشيطي العنزي) وهو طالب في جامعة الملك سعود بحثا نشر قبل سنتين 1431هـ عن هذه المشكلة تحت عنوان (عشنا بمذلة في بلدنا.. البدون (عديمي الجنسية) الواقع والآثار الناتجة عنه) وقد سجل الباحث شهادات بعض الناس، فينقل عن إحدى الموظفات السعوديات في إدارة مستشفى قولها " لا يمر يوم دون أن نشهد حالات إنسانية لعديمي الجنسية لا نستطيع مواجهتها وتكون محل حيرة وتشدد البعض وتعاطف البعض الآخر، بسبب التكلفة الكبيرة لرسوم العلاج التي لا يستطيعون سدادها وبسبب أيضاً الإجراءات الصارمة بخصوص الشروط والوثائق المطلوبة لتلقي حق الرعاية الصحية فعلى سبيل المثال نعاني من إشكالات يومية من رجال البدون الذين يريدون إنهاء إجراءات زوجاتهم بعد الولادة فالمطلوب عقد الزواج الموثق من وزارة العدل من اجل الخروج من المستشفى، وبما أن أعداد هائلة من عديمي الجنسية لا يحملون عقود رسمية، فغننا نرفض إدارياً العقود (الدينية المدنية) للزواج كما لا نعترف بكل البطاقات والوثائق الأخرى وهنا يتوسل الكثير منهم ويردون علينا ألا تعرفون بأن السلطات الرسمية لا تعطينا عقود زواج رسمية فلماذا إذاً تحرجونا بطلب هذا النوع؟".
وتزيد أعداد هؤلاء في المملكة على نصف مليون شخص وفيهم مجموعة كبيرة من أهالي (بورما) الذين استضافتهم المملكة بعد الانقلاب الشيوعي في تلك البلاد عام 1962، ومنذ ذلك الوقت لم تسوّى أوضاع أغلبهم، ولا يزال أبناؤهم وأحفادهم يدفعون الثمن.
إن مشكلة (البدون) تكاد تتكرر وفق ذات التفاصيل في دولة الإمارات حيث يعيش نحو عشرين ألف محرومين من الجنسية، والأمر ذاته في دولة قطر حيث يحرم حوالي ألفين من حمل الجنسية.
من المعيب جدا أن تحرم هذه المجاميع من الناس من حق الجنسية في بلداننا التي تتمتع بمساحات ، وفي ظل حاجتها إلى الأيدي العاملة. ان أشد ما يؤسف له أن العمالة الأجنبية تحظى بأوضاع قانونية مرتبة في بلداننا، في حين يبقى (البدون) وهم الأبناء الذين ولدوا في هذه البلاد، يعانون أوضاعا سيئة تحرمهم أبسط سبل العيش الآمن الكريم. فلماذا تعيش بلادنا مثل هذه الحالة، أليس من المعيب أن يعيش بيننا أناس من قوميتنا ومن ديننا ونحن نتفرج على معاناتهم ومأساتهم؟ لماذا يعيش المهاجر في الغرب أوضاعا مرتبة لا يحظى بها من يهاجر إلى بلادنا؟. التقيت في الولايات المتحدة ببعض المهاجرين العراقيين وكانوا من قبل يعيشون في بلاد عربية بعد الانتفاضة التي حصلت في العراق سنة 91 وخرج الناس من العراق إلى مختلف المناطق المجاورة، وعاشوا في كثير من هذه الدول في مخيمات في الصحاري، وتعاملوا معهم كسجناء، وتعرض قسم كبير منهم للمشاكل والإهانة، في مقابل ذلك استقبلتهم الدول الغربية -الذين نعتبرهم كفارا ولا نصيب لهم في الجنة فهي لنا وحدنا- استقبلت هؤلاء الناس ورتبوا أوضاعهم، حتى قال بعضهم كأني انتقلت من النار إلى الجنة.
ينبغي أن تكون مشكلة المهاجرين وغير محددي الجنسية محل اهتمام أكبر، ولا يجوز أن نقبل مثل هذه الحالة. ذلك لأن الأوضاع التي تعيشها هذه الفئة تعد انتهاكا للحقوق الإنسانية، ومهددا للأمن الاجتماعي، أناس يعيشون مثل هذه الأوضاع ماذا تتوقع منهم، فهم قنابل موقوتة، من الممكن أن يتحول بعضهم إلى بؤر للفساد والانحراف، مما يؤثر سلباً على الأمن الاجتماعي والوطني.
من هنا لا بد من التأكيد على أن يكون هناك اهتمام وضغط على الحكومات حتى تضع القوانين المناسبة لاستيعاب هؤلاء البشر، لكي يحظوا بحقوقهم الإنسانية، فهم من بني آدم الذين كرمهم الله ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ ، فبأي حق نتعامل معهم بهذه الطريقة؟. لا بد أن تكون هناك قوانين وأنظمة تجعلهم يعيشون حياتهم الطبيعية كبشر.
كما ينبغي أن يكون هناك جهد أهلي يولي فئة (البدون) مزيدا من الاهتمام. لماذا تهتم كل فئة بمشاكلها الخاصة والضيقة داخل المجتمع والقبيلة أو الطائفة، فيما يعيش بين ظهرانيهم بشر يذوقون الأمرّين، آن الأوان لأن تنتهي هذه الأنانية.
والأنكى من ذلك أن بعض الفئات في مجتمعاتنا الخليجية تعارض استيعاب هؤلاء الناس، وكأن هؤلاء سينافسونهم في الثروات ومنح الأراضي والتعليم والقروض والصحة، وكأن هذه الثروات خاصة بنا، والله تعالى يقول: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ وهؤلاء بشر.
يمنح المواليد الجدد حتى الأجانب منهم الجنسية في الكثير من البلدان الأخرى في أوروبا وأمريكا، فلماذا نحن نمانع قيام مثل هذه الحالة؟. ينبغي أن يكون هناك جهد أهلي للاهتمام بهؤلاء البشر.
ان من المشاكل السيئة في بيئتنا هي النظرة الدونية للآخر. فهناك الكثيرون ممن يعيشون بيننا من مختلف البلدان، لكن تبقى في بعض أوساطنا النظرة الدونية لهؤلاء، لا لشيء سوى لأنهم قادمون من بلاد فقيرة، هذه النظرة الدونية أمر منكر وقبيح، لا ينبغي أن يكون في مجتمع إنساني، فضلاً عن مجتمع مسلم. هذا نقص وخلل كبير في ثقافتنا وسلوكنا الاجتماعي، إننا مطالبون بأن نصحح هذه الأمور. وعلينا أن نتذكر ما مدح الله تعالى به أهل المدينة ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للتحلي بمكارم الأخلاق .
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾
مع تطور الحياة والفكر البشري تبرز الحاجة باستمرار إلى أنماط جديدة وملائمة من التشريعات والقوانين الناظمة لحياة الناس، وبخلاف ذلك تغدو حياة الناس صعبة وعسيرة. لقد بعث رسول الله في مجتمع كان يعيش التخلف وكان من أهم سمات هذا المجتمع وجود الأغلال والقيود على حركة الإنسان الفكرية والعملية، وقد جاء رسول الله ليفك هذه القيود والأغلال، حتى ينطلق الانسان حرا في تفكيره ومواقفه وممارساته. إن من أبرز الصفات التي يركز عليها القرآن الكريم بشأن الأثر الذي تركه الإسلام على أتباع الديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية، هو أن الإسلام وضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فهؤلاء كانوا أهل أديان سابقة كانت تكبلهم بتشريعاتها وقوانينها، وكانت الزعامات التي فيها تقيد حركة هؤلاء الناس.
لقد كانت اليهودية والمسيحية في الأصل دينان سماويان نزلا على نبيي الله موسى وعيسى عليهما السلام، فهما رسالتا حق وصدق، لكن تجاوزها الزمن. فقد قدر الله تعالى لكل رسالة فترة زمنية معينة، حيث يتطور الفكر البشري، فيحتاج كل زمن إلى رسالة جديدة، في التشريعات والأنظمة والقوانين، أما في العقائد فإن الرسالات لا تختلف، فكلها تدعو لعبادة الله وحده لا شريك له، فكلما تطورت حياة البشر احتاجوا بطبيعة الحال إلى قوانين تناسب ظروفهم، ولذلك أنزل الله الشريعة المسيحية لأنها تناسب الحياة المعاشة في ذلك الوقت أكثر من اليهودية، ثم ختم الله تعالى الرسالات بالدين الإسلامي، رسالة نبينا محمد ، فجعل هذه الرسالة مناسبة في تشريعاتها لمستقبل البشرية إلى يوم القيامة.
ربما يسأل البعض ألا تتطور حياة الإنسان؟ لماذا في الظروف السابقة كان التطور دافعا لانزال شريعة جديدة؟ لماذا لا تكون هناك شريعة جديدة بعد الإسلام حينما تتطور حياة البشر؟ الجواب أن هذه الشريعة جعلها الله تستوعب تطورات البشر والحياة، مهما تغيرت اوضاع البشر فإن مبادئ وقيم هذه الشريعة تستوعب هذه التغيرات عبر آلية فتح باب الاجتهاد. ان باب الاجتهاد كان ولايزال مفتوحا، ولذلك لابد من وجود مجتهدين في كل عصر، لأن هؤلاء المجتهدين مطلوب منهم أن يستوعبوا هذه التطورات ويستنبطون من الشريعة ما يناسب ظروفهم، ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم ما تنقله بعض المصادر الحديثية عن قول رسول الله (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها). فإذا ما تجاوزنا النقاش في سند الحديث، يبقى المضمون صحيحا في أن الأمة تحتاج في كل مرحلة إلى من يجدد لها دينها، أي أن يستنبط من الدين ما يتواءم مع التطورات الجديدة في واقع المجتمعات البشرية.
لقد كان التجديد هو العنوان الأبرز في الرسالة المحمدية. فحينما جاء نبينا برسالته الجديدة فإن شريعته ألغت الكثير من القوانين والتشريعات التي كانت في الديانات السابقة، كما يقول تعالى: ﴿وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾.
لقد شاب الديانات السابقة لرسالة الإسلام التحريف والتشدد والغلو، إلى جانب بروز الزعامات المهيمنة والمستفيدة من مواقعها الدينية، وقد أنكر القرآن الكريم على اليهود والنصارى تشددهم وغلوهم في دينهم، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾، فيما أشارت آية أخرى إلى الزعامات الدينية المستفيدة من مواقعها في الهيمنة على الناس والتي ظلت تبث في الناس ما يكرّس الخضوع والهيمنة لهم يقول تعالى: ﴿إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾.
إذاً فهناك تشريعات تجاوزها الزمن، صاحبها تشدد وتحريف في الأفكار والتشريعات التي كانت في تلك الرسالات، وعزز كل ذلك وجود زعامات دينية مستفيدة من مواقعها في الهيمنة على الناس، وبالتالي عوقت حركة الناس، وعرقلت حريتهم على مستوى التفكير والنشاط.
لقد جاء الإسلام في المقام الأول لينقذ الناس و﴿يَضَعُ عَنْهُمْ﴾ أي يرفع عنهم ويزيح ما عليهم من أصرار. والإصر هي القيود الداخلية التي تقيد نفس الإنسان، خاصة وأن كتب اللغة تشير إلى أن الإصر هو الثقل، وذلك ما يبرز في سلوك بعض الناس الذين يقيدون فكرهم بأنفسهم، حتى لو يوجد أي أثر خارجي يستدعي ذلك، ولا وجود لأحد يقيد حريته بل هو من يصادرها، بسبب خرافات وأساطير وتعقيدات ما أنزل الله بها من سلطان. ولون آخر هي الأغلال ويمكن أن نفهم منها القيود الخارجية التي تقيد حركة الإنسان، والمتمثلة في الزعامات الدينية. هذه المشكلة التي حصلت في الديانات السابقة حينما يتحدث عنها القرآن الكريم فذلك لتحذير المسلمين من الوقوع فيها.
صحيح أن الإسلام دين مناسب لكل العصور بخلاف الديانات السابقة التي كان لكل واحد منها فترة زمنية محددة، لكن مواكبة الإسلام لكل العصور مشروط بدور الفقهاء والمجتهدين في أن يمارسوا دورهم في التجديد وما يتناسب مع ظروف مجتمعاتهم، فإذا ابتليت الأمة بفقهاء تحجروا فكرياً، واستمروا ملتزمين بآراء الفقهاء الماضين، ولم يستخدموا حق الاجتهاد المتاح لهم، هنا يمكن أن تواجه الأمة الإسلامية نفس التعقيد الذي طال الأمم السابقة. ولعل هذا ما رأيناه من بعض الفقهاء الذين يمنعون الأمة الإسلامية من أي تقدم وتطور، فالتلفزيون كان حراما، والتلفون كذلك، وتعليم البنات، ومكبر الصوت، وغير ذلك كلها كانت محظورة شرعا!. إنها ذات المشكلة التي عاشتها الأمم السابقة، وهذه هي الأغلال والأصر التي كبلت حركتهم. هنا تبرز أهمية دور المجتهدين في استنباط الأحكام التي تجعل من هذا الدين مواكبا لتطورات العصر، فالعلماء الماضون لهم عقول، والمعاصرون لهم عقول، فلماذا يقيدون أنفسهم بآراء السابقين؟
أما الابتلاء الثاني الذي واجهته الأمم السابقة فقد كان الغلو والتشدد وهذا أيضا قد نواجهه في الدين الإسلامي. فبالرغم من أن الإسلام يؤكد على اليسر بحسب الآية الكريمة ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وفي آية أخرى ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ لكن مع ذلك لايزال هناك من يريد أن يأخذ الناس نحو أقصى الفتاوى تشددا وعسرا، وهذا تعقيد لحياة الناس، فالرغبة في الأخذ بالاحتياط ربما يتناسب مع الوضع الفردي، ولكن أن تقيد حركة الأمة والمجتمع باحتياطات لمراعاة آراء السابقين فهذا أمر مشكل.
والمشكلة الثالثة التي ابتليت بها الأمم السابقة هي الزعامات التي تريد الهيمنة على الناس عبر سلبهم حرية التفكير وإبداء الرأي. ان هناك حريات لم نلبث نتحدث عنها ونباهي بوجودها في الدين الإسلامي ولكنها تغيب عن التطبيق، فالمجتمعات الاسلامية تعاني غالبا من فقدان الحرية في المجال الفكري والسياسي، فهناك حكومات دكتاتورية مستبدة تمارس عليهم الهيمنة، وآراء متشددة تعرقل طريقهم وحياتهم، كما أن هناك إرهاباً فكرياً من داخلهم، لدرجة يحظر على المرء البوح بأي رأي مختلف، فلا يجرؤ أن يجهر به، وذلك لأن الناس لا يتقبلونه بل لا يطيقون سماعه، هذه هي الأصر والأغلال التي جاء الإسلام لكي يزيلها من حياة الإنسان لكن غالب المسلمين قد رجعوا إليها!
إن بروز هذه (الأصر والأغلال) جعلت من الدين الإسلامي مخيفا لدى قطاعات واسعة من داخل الأمة ومن خارجها. ذلك لأن الناس بدأوا يشعرون بأن الحكم الإسلامي مساو لتقييد وغياب الحريات، وهذا أمر مخيف ليس لدى غير المسلمين فحسب، بل حتى لدى المسلمين أنفسهم.
ما أحوج الامة الإسلامية لتجاوز هذه الحالة بالعودة لقيم الدين التي تدعو إلى الحرية، وحيوية الإنسان، واستمتاعه بهذه الحياة، من خلال الضوابط الثابتة، وليس من خلال ما أضيف إلى الدين، ومن خلال التحجر التي ابتلي به بعض المفتين.
في المقابل، نحن نستبشر خيرًا هذه الأيام، فقد بدأت حركة وعي وتجديد وانفتاح في الأمة الإسلامية. وأرحب هنا بالوثيقة التي أصدرها الجامع الأزهر الشريف، والتي أعلن عنها الأسبوع الماضي، وهي وثيقة الحريات العامة، حيث عكف إمام الأزهر مع مجموعة من العلماء والمثقفين في مصر، من مختلف التوجهات والمشارب، على وضع هذه الوثيقة. إن هذه الوثيقة تعد تطوراً رائعاً في الفكر الإسلامي، فهي تؤكد على حرية العقيدة والرأي والبحث العلمي والإبداع الادبي والفني.
ولعل مما يؤسف له هو عدم نيل الوثيقة تغطية إعلامية مناسبة وأهميتها. لقد كان ينبغي أن يتحدث عنها الإعلام، وتقام لها المؤتمرات واللقاءات والحوارات، وتناقشها مختلف المجامع العلمية حتى تتبناها وتطورها، ولكن مع الأسف الشديد لم يحصل ذلك بعد، ونرجو أن يحصل في مقبل الأيام، فهي وثيقة تاريخية مهمة، أدعو الناس للاطلاع عليها. هذه الوثيقة وما شابهها من الطروحات التجديدية هي التي تعيد للإسلام ألقه، وتعيد ثقة الناس بدينهم، وتجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجا، كما كانت بداية الدين، فقد دخل الناس سابقا في دين الله أفواجا لأنهم رأوا فيه السعة والعزة والكرامة ولذلك أقبلوا عليه. أما في هذه العصور المتأخرة فقد أصبح الدين بسبب ما دخل عليه من أفكار متطرفة متحجرة دينا يوصف بالعنف والقسوة والشدة والتضييق حتى نفر عنه حتى بعض أبنائه.
نسأل الله تعالى الصلاح للأمة الإسلامية.