لنتفهم الرأي الاخر
إن من السمات الطبيعية للمجتمعات البشرية هي تميزها بتعدد الأفكار واختلاف التوجهات. وحينما أمر الإسلام مجتمع المؤمنين بأن يتحدوا فيما بينهم، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا، فلم يكن معني ذلك اجبارهم على تطابق الآراء والمواقف فيما بينهم تماما، لأن ذلك أمر صعب التحقق إن لم يكن متعذر الحصول، فمجتمع المؤمنين مجتمع بشري وبالتالي يحدث فيه ما يحدث في سائر التجمعات البشرية من تعدد الأفكار والتوجهات واختلاف الرأي، لكن ذلك لا ينبغي أن يدعو إلى القطيعة فيما بينهم، ولا إلى أن يتبرءوا من بعضهم بعضا. من الشائع في مختلف المجتمعات أن يكون هناك اختلافات فكرية مرتبطة بالمسائل الدينية، وقد يكون هناك تباين في المواقف السياسية وهكذا في سائر المجالات، إلا أن هذا الاختلاف والتنوع الطبيعي في الآراء لا ينبغي أن يدفع الناس للخصومة والقطيعة ولا أن يتبرأ أحد منهم من الآخر.
وتأتي حالة التنوع واختلاف الرأي نتيجة أسباب عديدة منها:
تفاوت المعرفة بين الناس:
إن تفاوت المعرفة في مختلف الموضوعات ينتج عنه بطبيعة الحال تفاوت في الرأي والحكم على تلك المسائل، وحينما لا يكون هناك تساوٍ في مستوى المعلومة والمعرفة فسيترتب على ذلك تلقائيا اختلاف في الرأي والموقف. لقد تحدث القرآن الكريم في محكم آياته عن حادثة نبي من أنبيائه العظام مع ولي من أوليائه الصالحين، ويقال أنه نبي، وهو الخضر مع نبي الله موسى ، وقد اختلف الاثنان في بعض المسائل، لا لشيء سوى لأن الخضر كان أكثر اطلاعا ومعرفة بعدة مسائل لم يكن الله قد أطلع عليها نبيه موسى ، وقد أخبر الخضر النبي موسى بذلك عند اصطحابه: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾، فالخضر كان يقول أنا مطلع على تلك القضايا عن طريق الغيب وأنت يا موسى لم تطلع عليها، ولذلك سوف تستنكر ما أقوم به. ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾، ومرة أخرى ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾، ولنا أن نتصور المشهد هنا، هناك نبي يعترض على تصرف ولي، مع أن كليهما ينطلق من منطلق رباني واحد، ومرد ذلك هو اطلاع الخضر على بعض الأمور التي لم يتسنى لموسى الاطلاع عليها، فالاختلاف هنا جاء بسبب اختلاف المعرفة.
اختلاف زاوية النظر:
وقد يكون اختلاف الرأي في بعض الأحيان بسبب اختلاف زاوية النظر للموضوع. فأحد الناس ينظر لموضوع ما من زاوية، فيما ينظر له آخر من زاوية أخرى، وهنا يختلف الرأي والموقف. وتذكر في هذا الصدد قصة لعلها واقعية وهي مؤثرة ومعبرة، ومفادها أن معلمة كانت تعلم تلاميذها مادة الرياضيات وتحديدا في مسائل الجمع، فسألت أحد تلامذتها: إذا أعطيتك تفاحة وتفاحة وتفاحة فكم تفاحة تكون عندك قال بعد تفكير: أربع تفاحات، فتعجبت المعلمة وأعادت السؤال فكرر الجواب نفسه، ثم قالت له: إذا أعطيتك برتقالة وبرتقالة وبرتقالة، فكم يكون عندك، قال ثلاثة. فأعادت المعلمة السؤال حول عدد التفاحات فأصر التلميذ على جوابه بأنها أربع تفاحات، وحين سألت الولد عن تفسير ذلك، قال إذا أنت أعطيتني ثلاث تفاحات وأمي قد أعطتني تفاحة في حقيبتي فيكون الناتج أربع.
هنا أدركت المعلمة أن هناك مبرراً لكلامه.
اختلاف الأجواء النفسية:
وإلى جانب اختلاف زوايا النظر، يأتي اختلاف الرأي أحيانا نتيجة اختلاف الأجواء النفسية التي يعيش فيها كل طرف. ويتأتى ذلك عندما يعيش شخص ما ضمن أجواء معينة فتتكون لديه حالة الاطمئنان إلى موقف معين، فيما قد لا تتوفر ذات الأجواء لطرف آخر. ولهذا قال العلماء بأن القطع حجة، فلو أن شخصين كانا في سفر وأرادا الصلاة واختلف الاثنان في تحديد جهة القبلة، فإن الحكم الشرعي يقضي بأن يصلي كل منها في اتجاه بحسب اطمئنانه.
ينبغي على الانسان أن يتفهم على الدوام وجهات نظر الأطراف الأخرى. فقد يتضح لك موضوع ما وهذا لا يعني أن نفس درجة الوضوح تكون عند الطرف الآخر. ولذلك يتحدث القرآن الكريم عن الذين لا يستجيبون لدعوة الأنبياء فلا يصفهم جميعا بالجحود، بل يقول تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾، ومضمون ذلك بأن الأمور لم تتضح لهؤلاء بما يكفي مما جعلهم يعرضون عن إتباع الحق، وهؤلاء لا يصدق على كل واحد منهم أنه اطلع على الحقيقة وجحدها وأنكرها، مع أنهم قد يحاسبون على التقصير وعدم إقبالهم على معرفة الحقيقة.
ما يجري أحيانا هو مسارعة بعض الناس لتوجيه أصابع الاتهام للآخرين لمجرد كونهم لا يؤمنون بما يؤمنون، ولا يرون ما يرون. من هنا جاءت التعاليم الدينية وإضاءات العقل باتجاه دفع الإنسان إلى أن اتخاذ الموقف الصحيح تجاه الرأي الآخر، سواء كان ذلك في المجال السياسي أو الديني، وما شابه. والمطلوب هنا هو تفهم الرأي الآخر، لغرض معرفة خلفية وجهة النظر التي يتبناها، فلعل عند ذلك الطرف أدلة وبراهين مقنعة بالنسبة له، وهنا ينطبق عليه النصوص الواردة في حمل المسلم على الصحة، فلا يصح أن تحمل غيرك على البطلان والعناد، فلعله جاهل بالأمر أو له مبرر، فالتمس لأخيك عذرًا إن لم تجد له عذرا. ولذلك فعلى الإنسان أن يتفهم وجهات النظر الأخرى وأن يلتمس العذر لأصحابها هذا أولا.
ثانيا:احترام حقوق الطرف الآخر. إن اختلاف الرأي في مسألة ما لا يبرر بأي حال تجاوز حقوق الطرف الآخر، فهو يبقى أخ لك في الدين، فلا يجوز لك أن تستغيبه أو أن تفتري عليه أو تؤذيه وتسيء له لمجرد اختلاف الرأي.
ثالثا: التواصل والحوار. هناك بعض الناس لا يستسيغ اللقاء ولا الكلام مع من لا يتطابق معه في الرأي. وأمثال هؤلاء حتى إذا دعي إلى الحضور في مجلس فتراه يسأل أولا عمن سيحضر، فإذا ما عرف بحضور شخص صاحب رأي مخالف له فتراه يسارع برفض الحضور!، وهذا من صميم الجهل.فهل عليك أن تعيش في كوكب آخر غير الذي يعيش فيه من يخالفك الرأي؟.لا ينبغي للإنسان أن يرفض التواصل والحوار، بل العكس من ذلك، فجلوسك مع المخالف لك في الرأي قد يفيدك أكثر من مجالستك لمن يتفق معك في الرأي، لأنك إذا جلست مع المتفق معك في الرأي تكون رقما مكررا، بينما جلوسك مع من يخالفك الرأي سيجعلك تسمع شيئا آخر مختلفا، ولذلك فالحوار هو الذي يجعل كل طرف يتفهم وجهة نظر الآخر على نحو أفضل.
رابعا: التعاون في المشتركات. لابد من وجود مساحة مشتركة بنسبة ما بين المختلفين. فمهما كانت نسبة اختلاف الرأي في مسألة أو أخرى، فلابد من وجود نسبة أخرى مشتركة، وفي غالب الأحيان يكون الاختلاف في بعض القضايا ضمن نسبة محدودة وليس اختلافا مطلقا، من هنا، فإذا كانت هذه المشتركات الكبيرة بين أبناء المجتمع أفلا تكفي لأن يتعاونوا ويعيشوا حياة أقرب إلى الرحمة والمودة منها إلى الخصومة والقطيعة؟ من هنا حذر الامام جعفر الصادق المؤمنين من هذه الحالة بقوله: (ما أنتم والبراءة يبرأ بعضكم من بعض؟ إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصيرة من بعض وهي الدرجات[1] .
لا ينبغي أن يصل الاختلاف في الرأي أو الموقف إلى درجة البراءة والخصومة، فذلك ليس من صفات المؤمنين ولا العقلاء. العقلاء في كل أنحاء العالم يعقدون اللقاءات والمؤتمرات التي تتناول كل مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والعلمية وغيرها، وتشهد هذه المؤتمرات اختلافا وتباينا كبيرا في الآراء ولكنهم مع ذلك يحرصون على الحضور والمشاركة والاستماع لوجهات النظر الأخرى. اذ لا يعني اختلاف الرأي بأي حال قيام القطيعة بين أصحاب الآراء المختلفة فذلك خلاف العقل والمنطق السليم.
نسأل الله أن يحفظ المسلمين والمؤمنين وأن يوحد بينهم.
شكلت السنة الماضية (1432 للهجرة) سنة الهية بالنظر لما اكتنفها من أحداث عظام، تعتبر منعطفا في تاريخ المنطقة العربية والإسلامية. وتمرعلى المجتمعات أيام فريدة تجري فيها تحديات عظيمة، أو تتحقق خلالها انجازات كبيرة، كان يتطلع إليها المجتمع طويلا، فتترك تلك الأيام أثرا وتغيرا جذريا في مسيرة المجتمع. هذه الأيام تظهر فيها قدرة الله سبحانه بشكل أكثر وضوحا، ولذلك فإن على المجتمع أن يقف عند هذه الأيام التي تشكل منعطفات في تاريخه، وحينما يضيف الله هذه الأيام إليه وفق الآية الكريمة ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾، داعيا نبيه موسى إلى أن يذكر قومه بأيام الله، فإن المقصود منها هي تلك الأيام التي تحصل فيها منعطفات وأحداث بالغة في الاتجاه الإيجابي أو السلبي.
ينبغي على المجتمع أن لا يتجاهل ولا يغفل تلك الأيام التي تشكل منعطفات في تاريخه. بل عليه أن يقف عندها متأملا ودارسا ما حدث، مستفيدا من عبرها ودروسها، وكما أشار المفسرون فإن ﴿ِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ تشير إلى أيام انتصار المؤمنين أتباع موسى على فرعون الطاغية المتمرد على الناس وعلى ربه، فيوم هلاكه كان يوما حاسما في تاريخ بني إسرائيل بل وفي تاريخ البشرية، ولذلك أمرهم الله بتذكر ذلك اليوم الذي هلك فيه الطاغية المجرم. وهذا الأمر يمكن للبشرية ان تأخذ به وتستفيد منه وهو الواقع فعلا، فكل المجتمعات البشرية تحيي أياما متميزة في تاريخها.
لقد مرت على الأمة العربية والاسلامية سنة إلهية تمثلت في السنة الماضية 1432 للهجرة، ذلك لأنها احتوت على أحداث مصيرية شكلت في حقيقتها أياما من أيام الله، أحدثت منعطفا حقيقيا في تاريخ الأمة. ولذلك ينبغي أن نتذكر هذه الأيام المجيدة والحاسمة من أجل أن نأخذ منها الدروس والعبر.
لقد كانت السنة الماضية سنة متميزة عما سبقها من سنوات عديدة. حيث سقط خلال سنة واحدة ثلاثة من أعتى الطواغيت الظلمة الذين كانوا يحكمون شعوبهم بالقهر والقمع، فسقط في البداية الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بعد ثلاث وعشرين سنة من الحكم الجائر، وأعقبه سقوط الرئيس المصري حسني مبارك بعد ثلاثين سنة من السلطة الفاسدة، ثم سقط وهلك الرئيس الليبي معمر القذافي بعد حكم ظالم طال أكثر من أربعين عاما.وهناك ثورات بدأت في أكثر من بقعة من أراضي هذه الأمة، نأمل أن تشق طريقها إلى النصر إن شاء الله، إلى جانب الحراك الشعبي الكبير في هذا البلد أو ذاك. وقد احتفل التونسيون في الأيام الماضية بذكرى قيام ثورتهم وانتصارها، ثم احتفل المصريون أيضا، وسيحتفل الليبيون لاحقا، ونأمل أن تحتفل بقية الشعوب التي تعيش تحت نير الظلم والاستبداد بعيد حريتها وكرامتها، وما ذلك على الله بعزيز.
وقد حصلت خلال السنة الماضية تغيرات كبيرة يمكننا أن نرصد بعضا منها:
أولا:على المستوى الدولي
لم يعد أمام الدول الكبرى إلا احترام إرادة الشعوب في رفضها للاستبداد والتزامها بهويتها الدينية.فقد كانت الدول الكبرى تدعم حكومات الظلم والاستبداد، لأنها كانت ترى في هذه الحكومات ضمانة للمحافظة على مصالحها، ولكن مع حراك المجتمعات والشعوب وما أصاب تلك الدول من آثار بسبب وجود الاستبداد في هذه المنطقة، حيث بدأت آثار الاستبداد وشظاياه ونتائجه في منطقتنا تصل إلى عقر دورهم من حالات العنف والتفجيرات التي حصلت في مناطق مختلفة من العالم، حينها أدركت الدول الكبرى أن استمرار هذه الحكومات المستبدة أصبح ضارا بها هي أيضا، بعد أن كانت أضرارها تطال شعوبها فقط، ولذلك بدأت هذه الدول في الاعتراف بحق شعوب المنطقة في التغيير، وذلك بعد أن رأت الإصرار لدى تلك الشعوب، فلو لم يكن الشعب المصري مصرا على حريته وكرامته لما غير الأمريكيون موقفهم من نظام حسني مبارك، حيث كان من الأفضل لهم بقاءه حاكما حليفا، لكن حذرهم من نتائج هذا الاستبداد والقمع، هو الذي جعلهم يتفهمون ويحترمون إرادة هذه الشعوب، كما بدأت الدول الكبرى كذلك في احترام الهوية الدينية لشعوب المنطقة بعدما كانت تتحسس من وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم والسلطة، فقد كانت تريد حاكمين من نفس فلكها العلماني، لا ينتمون إلى الحالة الدينية التي تمثل هوية الأمة، ولكن بعد عقود من الصراع مع الحركات الإسلامية، وصلت هذه الدول إلى مرحلة لم تجد فيها بدا من الاعتراف بهذه القوى، وأنها هي التي تمثل جماهير الأمة أوسع وأفضل تمثيل، ولذلك لم يعد لديهم مانع أن يصل الإسلاميون إلى الحكم في هذه البلاد العربية والإسلامية لكنهم يراهنون على تدجينهم.
ثانيا: قلق حكومات الاستبداد
على المستوى السياسي كل الانظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية تعيش اليوم حالة من القلق والحذر.فقد كانت هذه الحكومات يغمرها شعور بالاستقرار والتراخي، لكن مع استيقاظ الشعوب والحراك الذي حصل في أكثر من بلد عربي، لم يعد هناك من حاكم مطمئن على عرشه ومصيره، وحتى البلدان التي لم يحصل فيها تحرك سياسي كبير، فإن الحكومات فيها تشعر بالقلق، لأنهم يرون أن مسيرة التغيير قد بدأت، وأن العدوى تنتقل من بلد إلى آخر. يروي أحد الباحثين في هذا السياق بأنه ذهب إلى مصر قبيل احتفائهم بالذكرى الأولى لانتصار ثورتهم وأجرى لقاءات عدة بالناس، وسألهم عن سبب إصرارهم في إنجاح الثورة، فذكروا مبررات كثيرة لكن المبرر الأبرز الذي أجمعوا عليه، كان نجاح الثورة في تونس. فحين رأىالمصريون تجربة ثورية ناجحة أمام أعينهم ارتفعت معنوياتهم، وباتوا يتساءلون؛ عن موانع نجاحهم هم أيضا، فتحركوا وانتصروا، وهكذا فإن انتصار الشعب العربي في أي بلد يرفع معنويات الشعوب العربية الأخرى، وهذا ما يقلق الحكام ويقض مضاجعهم.
المطلوب من الأنظمة التي تعيش حالة القلق أن تسعى للتخلص من هذا القلق عبر معالجة أسبابه، وذلك بالانفتاح على شعوبها، وتحقيق تطلعاتهم. أما إذا استخدمت مزيدا من القمع والعنف، فإنها تسرع بنفسها إلى الانهيار، لأن القمع هو الذي يوري جذوة الثورة أكثر عند الشعوب.
ثالثا: تبلور التطلعات السياسية
وعلى المستوى الشعبي، يمكن القول أن التطلعات السياسية عند الشعوب والمجتمعات باتت أكثر تبلورا، بخلاف ما كانت عليه في الماضي.فقد كانت المشاكل الاقتصادية فيما سبق هي التي تشغل بال الناس أكثر من غيرها، فكان كثير من الناس مشغولين بالتفكير في لقمة العيش والحصول على بعض الامتيازات، ولذلك تجد بعض الأنظمة التي تتوهم بأن الناس لازالوا بتلك العقلية القديمة، تجدها تكتفي بمنح مواطنيها بعض المال والامتيازات، لكن حقيقة الأمر أن تطورات السنة الماضية تجاوزت هذه الحالة تماما، فقد تبلورت التطلعات السياسية عند الجمهور العربي، وأصبح الناس مقتنعين بالمقولة الشهيرة (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان). فالناس باتوا يتطلعون للعيش بكرامة، والمشاركة السياسية في إدارة بلادهم، شأنهم شأن الشعوب الأخرى، فلم تعد المسألة مجرد مطالب بزيادة الرواتب الشهرية، أو الحصول على مزيد من الامتيازات المادية، ولعل هذا ما يظهر بوضوح في الشعارات التي رفعتها الشعوب في مختلف المناطق، حتى أصبحت أنشودة يرددها حتى الأطفال: الشعب يريد .. إسقاط النظام، أو إصلاح النظام، لقد تبلورت الرؤى والتطلعات السياسية عند الجمهور العربي، وانهار حاجز الخوف من أمامهم.كان الناس فيما سبمن بطش الأنظمة المستبدة، لكن ثورات الربيع العربي وما صاحبها من فرصة إعلامية غير مسبوقة، جعلت الناس يعايشون أجواء الثورات لحظة بلحظة وبكل تفاصيلها، هذه المتابعة والمواكبة كسرت عند أغلب الناس حاجز الخوف، وقادت إلى استغلال أوسع للفضاء الإلكتروني للتعبير عن الذات والتواصل، وتنظيم التحركات الشعبية، وهذا تطور كبير على المستوى الشعبي.
رابعا: التطور الفكري الثقافي
ولعل التطور الأهم هنا هو ما حصل على المستوى الفكري والثقافي. فقد دفعت أجواء الربيع العربي إلى زحزحة الكثير من الأفكار الراسخة، لتحل مكانها أفكار تقدمية جديدة، وأبرزها عودة الاعتبار لحركة الشارع. فقد سادت فيما سبق افكار جعلت الأولوية في عملية التغيير منوطة بالنخب المثقفة والتنظيمات السياسية، بيد أن هذه الفكرة لم تعد حجر الزاوية في عملية التغيير بعد أن أعيد الاعتبار لحركة الجمهور ودور الشارع.
كما سقطت بعد الربيع العربي مقولة حتمية العنف الثوري المأخوذة عن الأدبيات الثورية اليسارية. فقد كانت تروج هذه الأدبيات بأن الثورات لا يمكن أن تنتصر إلا باللجوء للعنف، وكان بعض فلاسفة الثورات والسياسيين يجزمون بعدم امكانية تصور قيام ثورة خارج ميدان العنف والقوة. لكن ما حصل في بلدان الربيع العربي خلال السنة الماضية أسقط هذه المقولات وعزز التوجه السلمي، وأثبت بأن السلم أكثر قوة، وأمضى أثرا من أي ممارسة عنفية.
ولعل أحد أبرز التطورات المهمة حدث هذه المرة ضمن المنظومة الفكرية لحركات الاسلام السياسي. لقد ساهمت تطورات السنة الماضية في العالم العربي في قيام تطور هائل في الحركات الإسلامية وخلال فترة قياسية، وإذا أخذنا في هذا السياق الحركة السلفية المصرية نموذجا، فقد كانت لها مقولات وقناعات عقدية راسخة لم يكن من المتصور أن تتزحزح بهذه السرعة، ومن تلك أولوية الاهتمام بالعقيدة وتصحيح عقائد الناس ومواجهة البدع والمخالفات الفكرية، إلى جانب الثابت الأبرز عند السلفية والذي يرى الطاعة المطلقة للحاكم اعتمادا على مأثورات من قبيل (من تولى عليكم فاسمعوا له وأطيعوا)، و(أطع الحاكم وإن جلد ظهرك وسلب مالك)، وكذلك مسألة البراءة من المخالفين ممن يعتبرونهم كفارا وأصحاب بدع وشركيات لا يمكن أن يتوافقوا معهم بأي شكل من الاشكال. نحن هنا لا نريد التعميم، ولكن هذه هي أبرز المعالم لدى المدرسة السلفية، لكننا مع ذلك رأينا أن التيار السلفي في مصر تجاوز هذه المقولات سريعا، حيث انخرطوا في المظاهرات الاحتجاجية، وهذا مخالف لمقولة الطاعة للحاكم المتغلب التي كانوا يؤمنون بها، فقد كانوا يرون بأن الحاكم ينصح سرًا، كما شكلوا لهم حزبا سياسيا، وهذا أيضا مخالف لمقولتهم بحرمة الأحزاب، وشاركوا في الانتخابات وقد كانت هذه أيضا بدعة عندهم فيما سبق، علاوة على قبولهم التحالف مع الاطراف الأخرى. ومن يقرأ تصريحاتهم الأخيرة، يكاد يقرأ كلاماً آخر لا ينتمي للخط السلفي، وهذا تغير فكري ثقافي كبير لن تقتصر تأثيراته على مصر وحدها.
نسأل الله تعالى أن يوفق الشعوب التي تحررت من الطواغيت حتى تنجح في بناء دولتها المستقرة القائمة على أساس العدل والحرية، فمهمة البناء أصعب من الهدم.
الخطبة الأولى: لنتفهم الرأي الآخر
الخطبة الثانية: ذكرى انتصارات الشعوب