الخطبة الأولى: منابع العظمة المحمدية
كرامة الإنسان في الهدي النبوي
الخطبة الأولى: منابع العظمة المحمدية
شكلت المكانة العظيمة التي حظي بها نبينا الأكرم محمد حالة فريدة في التاريخ البشري، وللحديث عن منابع العظمة لنبينا محمد فإنه يمكننا الحديث عن أربعة منابع أساسية:
كانت الخاصية الأولى للنبي أن اختاره الله واجتباه وقرّبه إليه دون سائر البشر. فكما قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾، لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون في هذا المجتمع البشري من أبناء آدم قدوات تتكامل فيهم صفات الخير والكمال وهم الأنبياء والرسل، فهم الشريحة الأكمل من أبناء البشرية، فكل صفات الخير والفضل والكمال تتجسد في حياتهم وسيرتهم، إلا انه سبحانه فاضل بين هؤلاء الأنبياء أنفسهم في الدرجات والمكانة: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، وقد شاء الله تعالى أن يكون أفضل هؤلاء الرسل والأنبياء هو نبينا محمد .
شاءت الارادة الالهية أن يكون النبي الأكرم أفضل خلق الله حتى بين الأنبياء أنفسهم فضلا عن سائر البشر. وحين يقول عن نفسه: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول رب العالمين)[1] ، فإن ذلك لم يكن في مقام الافتخار، وإنما في مورد بيان الحقيقة، وذكر النعمة التي أمره الله تعالى أن يتحدث بها تبعا للآية الكريمة ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، ولذلك أبان هذه الحقيقة. فقوله : (أنا سيد ولد آدم) أي أنه أحب الخلق إلى الله وأفضلهم عنده وأكرمهم عليه، فإذا كان أكرم الناس أتقاهم عند الله وفقاً للآية الكريمة ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، فهل هناك من البشر من ينافس رسول الله في تقواه؟، لاشك أنه أتقى الناس فهو أكرم الناس عند الله تعالى.
إن اختياره من قبل الله تعالى دون سائر البشر ترتب عليه أمور عديدة في الدنيا والآخرة. ومن ذلك ما تحدث عنه أنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة حينما يبعث الناس، وتشير الروايات إلى أن الأمم من أتباع الأنبياء السابقين يأتون إلى أنبيائهم طالبين منهم الشفاعة عند الله سبحانه وتعالى، من آدم إلى نوح إلى كل الأنبياء، لكن لا يتجرأ حينها أي نبي من الأنبياء على طلب الشفاعة من الله قبل نبينا محمد ، فهو أول شفيع ومشفع في أمته، وأول من يفتح له باب الجنة، وأول من يدخل الجنة كما ورد عنه : (أنا أول من يقرع باب الجنة، فيقوم الخازن فيقول: من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيقول: أقوم فأفتح لك ولم أقم لأحد قبلك ولا أقوم لأحد بعدك)[2] . نسأل الله أن يدخلنا الجنة معه بشفاعته.
شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل رسالة نبينا الأكرم الرسالة الأكمل إلى البشرية. لقد جاء الرسل السابقون لأقوامهم برسالات سماوية، ولكن الله تعالى شاء أن يجعل رسالة الاسلام بصيغتها ونسختها التي جاءت على يد رسول الله هي الرسالة الأكمل التي توجه إلى البشرية في أفضل أزمنة نضجها وتكاملها. وحينما يقرأ العلماء والمفكرون والقانونيون تشريعات الإسلام في مختلف المجالات يدركون سر عظمة هذه الرسالة الخالدة التي تأخذ بعين الاعتبار مختلف جوانب ونواحي الإنسان، فهذه الرسالة تهتم بالروح كما تهتم بالجسد، وتأخذ بالدنيا ولا تنسى الآخرة، وتعير العقل أيما اهتمام دون اغفال للعاطفة، علاوة على الاهتمام بالذات والآخرين، فهي رسالة التكامل والتوازن، والرسالة التي تصلح للإنسان في كل الأزمنة والأمكنة حينما يفهمها الإنسان حق فهمها.
لقد تميز النبي بأروع الأخلاق، وأنبل السلوك، وسط مجتمع مفكك جاهلي، سمته القسوة والعنف والعداوة. ولعلها القيمة الأسمى لهذه الأخلاق التي تحلى بها رسول الله ، أنها برزت في قوم كانوا يعيشون في بؤرة التخلف وقاع الانحطاط، وكانوا يعيشون الجفاء والجفاف، وكانت حياتهم شقية تعيسة، وقد تعامل رسول الله مع هؤلاء الناس على ما هم عليه من القسوة والجفاء والجفاف، بأروع خلق وأنبل سلوك، لينتشلهم وينقذهم، حتى أن الله تعالى حينما أراد أن يثني على نبيه وأن يذكر أهم صفة في سيرته قال له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
لقد مثل النبي حالة فريدة، نادرة، في مجتمع جاهلي متخلف. اذ من المعروف عندما يعيش الإنسان في مجتمع له مستوى من التحضر والأخلاق العامة، فسينعكس ذلك على أخلاقه وسلوكه، والعكس بالعكس. لقد اتسم مجتمع الجاهلية بالقسوة البالغة عند الناس تجاه بعضهم بعضا، على المستوى الفردي أو المجتمعي، من حيث تفشي الحروب والغزو والاقتتال، فقد كانوا يعيشون أشبه بحياة الغابة، فالقوي فيهم كان يأكل الضعيف، والتعاطي بينهم في منتهى الفظاظة والغلظة، ومع ذلك يأتي رسول الله فيرسي بينهم تعاملاً أخلاقياً ونبلاً رفيعاً قل نظيره، بالرغم من سيل الاتهامات وكيل الشتائم التي نالها منهم. ففي ذهابه من مكة المكرمة إلى الطائف كانوا ـ أهل الطائف ـ يؤذونه، حتى لم تبق إساءة لم ينلها منهم، من سب وشتم، فكان أطفالهم وسفاؤهم يمشون خلفه وهم يقولون ساحر، كذاب ومجنون، وكانوا يقذفونه بالحجارة حتى أدميت قدماه وأصابه التعب الشديد، فلجأ إلى بستان ليستريح، وفي ذلك الوضع وهو على تلك الحالة المزرية تهبط عليه ملائكة الله فتخاطبه (يا محمد أنت خير خلق الله أمرك مطاع. مرنا ماذا نصنع تجاه من أساءوا إليك) فقد جاءته ملائكة الرياح والمطر ومختلف القوى التي بها يسير الله الكون والحياة، ولكنه وبرغم ما أصابه من المشركين من الألم النفسي والجسدي، تسامى على آلامه وجراحاته، ورفع بصره إلى السماء، وبدلا من أن يدعوا عليهم، دعا لهم بقوله : (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون)، فأي نفس هذه النفس، وأي خلق هذا الخلق؟.
لقد برز الخلق النبوي النبيل في أعظم تجلياته عند تعامله مع ألد أعداءه الذين طالما حاربوه وقتلوا خلص أصحابه. فبالرغم من الحروب والمعاناة التي عاناها من قريش، فإذا به يجمعهم يوم دخل مكة فاتحاً وخاطبهم بقوله: ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء[3] . لا، بل إن أحد أبرز أعدائه وهو أبو سفيان جاءه يقول: يا رسول الله لقد عفوت عن الجميع وأنا واحد منهم، ولكن لأنني بارز في قومي أريد ميزة منك يا رسول الله، فإذا به يتجاهل كل ما صنعه أبو سفيان من مساوئ، ويقول: ألا ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وهكذا الحال مع عبدالله بن أبي، رأس النفاق في المدينة، الذي فعل ما فعل تجاه رسول الله ، وعندما حضره الموت طلب من رسول الله قميصه حتى يكفن به، ولم يقبل بالقميص الخارجي، بل طلب القميص الذي يلاصق جسم رسول الله ، فيلبي له الرسول حاجته. هذه هي الأخلاق العظيمة الفاضلة التي استطاع من خلالها النبي أن يغير وجه التاريخ.
لقد حقق النبي في زمن قياسي ما اعتبر الإنجاز الأكبر في التاريخ. ولقد أدهش ذلك الانجاز المفكرين والباحثين في حياة رسول الله ، ولذلك وجدنا أن باحثاً أمريكياً وهو الدكتور مايكل هارت حينما كتب كتابه سنة 1978م عن المائة الأوائل في تاريخ البشرية، وضمنه أنبياء وفلاسفة وقادة سياسيين، فإنه فاجأ الجميع بعدما وضع على رأس القائمة اسم نبينا محمد . فما الذي دفع هذا الرجل الأمريكي الغربي المادي أن يجعل هذه الشخصية العظيمة لنبينا على رأس القائمة؟ دعونا نقرأ ما يقول هذا الباحث في مقدمة كتابه: (إن اختيار المؤلف لمحمد ليكون على رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم تأثير عالمي في مختلف المجالات، ربما أدهش كثيراً من القراء إلى حد أنه قد يثير بعض التساؤلات، ولكن في اعتقاد المؤلف أن محمداً كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي). ويضيف الباحث: (لقد أسس ونشر محمد أحد أعظم الأديان في العالم وأصبح أحد أبرز الزعماء السياسيين العظام، وفي هذه الايام وبعد مرور ثلاثة عشر قرنا تقريبا على وفاته، فأن تأثيره لا يزال قوياً وعارماً).
هذه هي منابع العظمة في سيرة رسول الله .
إننا وحين تمر علينا ذكرى ميلاده الشريف يجب أن نؤكد على أربعة أمور:
أولاً: ضرورة القراءة المتجددة لسيرته. اننا حينما نقرأ سيرة رسول الله في هذا العصر فسوف نكتشف ما لم يكتشفه العلماء السابقون، أن علينا نعيد قراءة سيرته على نحو متجدد ومنفتح على روح العصر الذي نعيش، كما قرأها من سبقنا بأزمان طويلة وفقا لعصرهم وظروفهم.
ثانياً: تربية الأجيال من أبنائنا على هديه وسيرته. ما أروع أن يحفظ الإنسان بعض القصص من سيرة رسول الله وهي كثيرة لكي يتحدث عنها مع أبنائه وعياله، فمن حق أبناءنا الذين ينفتحون الآن على ألوان القصص وبمختلف الأساليب، من حقهم علينا ومن حق نبينا علينا، أن نربيهم على قصص السيرة النبوية وعلى أحداث السيرة.
ثالثا:ً الاقتداء بهديه والالتزام برسالته. فلا يكفي أن نعجب بسيرة الرسول وننبهر بسيرته، وإنما واجبنا اطاعته تبعا لآي الذكر الحكيم ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾، فهو أسوة لنا كما ورد في الآية الكريمة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
رابعاً: إيصال رسالته وهديه للعالم. إن من المؤلم والمؤسف، أن نشهد في خضم احتفالات الأمة بمولده الطاهر ، انبراء أحد المراهقين ، من بلاد الحرمين، ومن البقعة التي ولد فيها رسول لله ، ليقول كلاماً سيئاً مشيناً فيه اجتراء على الذات الإلهية، وعلى شخصية رسول الله ، ليشغل بذلك الرأي العام. كلنا ندين هذا الشاب الأرعن الذي وجه هذا الكلام المسيء لرسول الله، كما نتضامن مع كل علماء وأبناء البلد، في أن يأخذ القانون مجراه في التعامل مع هذا الشخص، لأن ما قام به جريمة نكراء وإساءة فاضحة يتفق كل المسلمين على إدانتها. ونسأل الله تعالى أن لا يؤاخذنا بهذه الأقوال السفيهة.
إننا نتحمل جميعاً المسؤولية عن بروز مثل هذه الحالات المسيئة للمقدسات في مجتمعنا المسلم. علينا أن نكون حذرين حتى لا يقع أبناؤنا في مثل هذه المطبات، فالمطلوب هو توعية أبناءنا بحقيقة الدين بالدرجة الأولى، ومن ثم يعيشون التطبيق الصحيح والسليم للدين، ذلك لأن بعض الشباب حين يرون تطبيقاً سيئاً لممارسات دينية، فإنهم سيسيئون فهم الدين، وقد يولِّد عندهم ردة فعل تجاه الدين بأكمله. نحن مطالبون بتوفير بيئة دينية صحيحة ينشأ فيها أبناؤنا حتى يعوا حقيقة دينهم.
نسأل الله تعالى أن يبارك للمسلمين وللبشرية أجمع ميلاد رسول الله وأن يجعلنا من السائرين على نهج رسول الله والمشمولين بشفاعته.
الخطبة الثانية: كرامة الإنسان في الهدي النبوي
ان الميزة الأساسية لرسالة نبينا محمد هي أنها أعادت الاعتبار لقيمة وكرامة الإنسان. فقد كان الإنسان طوال التاريخ مسحوق الكرامة، مهدور الحقوق والقيمة، حتى بلغت البشرية إلى الحضيض، خاصة في القرن السادس والسابع الميلادي، ففي هذين القرنيين ابتعدت البشرية عن رسالات الأنبياء السابقين، وساد فيها الظلم والجور والفساد، فامتهنت كرامة الإنسان، بل لم يكن للإنسان حينها قيمة تذكر في تلك المجتمعات، ولو قرأنا التاريخ لرأينا إلى أي مدى من الشقاء بلغه الإنسان في مختلف الشعوب والأصقاع.
لقد جاء نبينا محمد لينقذ إنسانية الإنسان، ويبرز قيمته، ويعزز كرامته، فكانت نقطة البداية التي سلكها رسول الله هي تعريف الإنسان بنفسه، وتحفيزه لاستعادة حقوقه، فلا يجدي أن تخاطب الظالمين بأن يحترموا حقوق الإنسان، بل المطلوب أولاً أن يشعر الإنسان نفسه بحقوقه، ويتحفز للمطالبة بها، لأن السلطات التي كانت تسيطر على العالم آنذاك ما كانت لتسمع موعظة، وإنما كانت تريد ممارسة الهيمنة على الناس، فالطاغي المستبد غير مستعد لأن يسمع المواعظ، لأن فعل الاستبداد بات متأصلاً في نفسه حتى احترف الهيمنة على الناس. من هنا أخذت رسالة نبينا محمد سمتها الأبرز في اعادة الاعتبار لإنسانية الانسان وكرامة البشر.
لقد بدأ الرسول بالإنسان نفسه، فخاطبه بأن أعرف قيمتك ومكانتك وكرامتك، واسع لحماية ذلك. ولهذا سارعت الفئات المهيمنة في قريش حينها لاتهام النبي بمختلف التهم، وشكوه لعمه أبي طالب فقالوا: إن ابن اخيك قد أفسد شبابنا. إن معنى إفساد النبي للشباب بنظر تلك الطغمة هو أنه دفعهم للتمرد على الاستبداد والهيمنة الظالمة، بينما كان اولئك يريدون بقاء الناس تحت هيمنتهم.
لقد جاء الإسلام ليخاطب الإنسان نفسه حتى يعرف قيمته، وورد في آيات القرآن الكريم خطاب مباشر له : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾، إن الآية الكريمة تخاطب الإنسان بالقول؛ يا أيها الإنسان إنك كريم على الله، وبالتالي لا يصح لك أن تقبل حياة الذل والهوان، وتشير آية أخرى إلى خلق الله للإنسان بمثابة التتويج لزعامته ولخلافته لله تعالى في الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾. وورد عن أمير المؤمنين علي أنه قال: (إن الله عز وجل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل وركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم)[4] . إن على الإنسان أن يعرف مكانته عند ربه، وهذا رسول الله يقول: (ما من شيء أكرم على الله من ابن آدم)[5] ولفظ "ابن آدم" ينطبق على كل إنسان مهماً كان لونه ودينه كبيراً كان أو صغيراً. فكانت البداية من تعريف الإنسان بنفسه ومكانته وكرامته، هذا ما تؤكد عليه مختلف النصوص الدينية.
ان التشريعات التي جاء بها النبي جعلت محورية حقوق الإنسان وكرامته فوق كل اعتبار. فكل التشريعات الإسلامية انصبت في خدمة ومصلحة الانسان، فكان أبغض شيء في الإسلام هو الاعتداء على حقوق الإنسان. ولقد أكدت النصوص الدينية على امكانية أن يغفر الله لمن يعتدي على حقوقه تعالى ويتجاوز بعض نواهيه سبحانه، ولكنه في مقابل ذلك لا يغفر الاعتداء على شيء من حقوق الإنسان. ورد عن رسول الله : (الظلم ثلاثة فظلم لا يغفره الله وظلم يغفره الله وظلم لا يتركه، فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك، قال الله تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾، وأما الظلم الذي يغفره الله، فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضا)[6] . إن الله لا يسمح ولا يقبل بالاعتداء على أي أحد كان، ولا أن تنتهك حقوق الانسان على أي نحو من الأنحاء.
لقد جعل النبي على سلم أولياته تربية الناس وتثقيفهم حتى يحترموا بعضهم بعضا. ولعلها أكثر من أن تحصى تلك النصوص الدينية التي تؤكد على احترام حقوق الناس، يقول النبي : (الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله)[7] ، وعنه : (خير الناس من انتفع به الناس)[8] ، وفي رواية ثالثة عنه : (أذل الناس من أهان الناس)[9] ، لاحظوا هنا استخدام النبي لكلمة (الناس) في حديثه، ولم يقل المسلمين أو المؤمنين، ومضمون ذلك أن إهانة أي إنسان وجرح كرامته أمر يغضب الله تعالى.
إن الإسلام يعتبر الاعتداء على حياة إنسان واحد اعتداءً على البشرية جمعاء. وقد ورد في آي الذكر الحكيم ﴿مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾، وهذا ما يبين مكانة الإنسان في الإسلام. لكننا مع ذلك نأسف لحال المسلمين اليوم أيما أسف، ففي حين يحتفون بذكرى ميلاد رسول الله ويتحدثون في إذاعاتهم عن رسالته وتشريعاته، نجدهم في المقابل أبعد ما يكونون عن مقاصد رسالته .
إن مقارنة سريعة بين وضع المسلمين وأوضاع الأمم الأخرى تكشف إلى أي مدى بلغت مكانة الإنسان عند تلك الأمم ، فالأنسان عندهم أكثر كرامة وحقوقه مصانة أكثر من نظيره في بلاد تنتمي إلى الإسلام، وهذا شيء مؤلم. والسؤال هنا، لماذا بلغت مراعاة حقوق الانسان هذا المستوى الكبير في الدول الأخرى، حتى إن الإساءة لإنسان أو مقتله يحدث ضجة كبرى، وتقوم الدنيا ولا تقعد، وقد يتسبب في اسقاط حكومة بلاده، أما في بلاد المسلمين فقد أصبح الدم رخيصا، وحقوق الانسان منتهكة، وحينما تقلب النظر في بلاد المسلمين فستجد الدماء تسيل في أكثر من بقعة وبلد، وقد ملئت السجون بالمعتقلين، و لا يزال التعذيب أمراً شائعاً بحق السجناء، ولم تزال حقوق الناس منتهكة. أليس مخجلاً ومعيباً أن نتباهى بالإسلام بينما يعيش الإنسان في بلادنا هذا الهدر والسحق لكرامته وحقوقه.
إننا ندين كل هذه الانحرافات عن منهج الإسلام في انتهاك حقوق الإنسان.
وقد كنا في القطيف نأمل أن نحتفي بذكرى المولد النبوي الشريف بالسرور والفرح والمهرجانات التي ألفناها في بلادنا كل عام، ولكن للأسف الشديد استقبلنا هذه المناسبة بإراقة دماء زكية من أبنائنا وشبابنا. لماذا تراق الدماء وتزهق الأرواح؟. إننا كما أدنا سابقاً استخدام العنف من أي جهة وطرف، تجاه الناس أو تجاه قوات الأمن، فإننا نعرب عن إدانتنا لما حصل في القطيف بالأمس حيث راح شاب ضحية إطلاق نار لعناصر الأمن.
إن الحكومة التي تستنكر سفك الدماء في بلدان أخرى كيف تسمح للقوة الأمنية في القطيف أن تتسرع في إطلاق النار. إن سقوط القتلى والجرحى لا يحل المشكلة، بل يزيدها تفاقماً، فحتى الدول التي تريد تفريق التجمعات والمظاهرات تحرص على عدم استخدام القوة والاستفادة من الوسائل المختلفة تجنباً لإراقة الدماء، فلماذا الاستهانة بدماء الناس؟. إننا ندين ما حدث ونطالب كما طالبنا سابقاً بالتحقيق في حوادث إطلاق النار على المدنيين العزل، وبوضع حد لما يجري، هؤلاء مواطنون مسلمون وقبل ذلك هم بشر، أرواحهم عزيزة، وحياتهم غالية، والحكومة تتحمل مسؤولية حماية أرواحهم، ولا يصح أن يترك الأمر للانفعالات والحالات الارتجالية لبعض الأجهزة والعناصر، هذا إذا لم يكن هناك أمر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، أما إذا كان هناك أمر بإطلاق النار، فالمصيبة أعظم. إن ذلك ينبئ بخطر وبسوء على البلاد والمجتمع.
نسأل الله أن يصلح ما فسد من أمور المسلمين، وأن يتغمد أرواح الشهداء بالمغفرة والرحمة، وأن يمن على الجرحى بالصحة والعافية وأن يحفظ المواطنين جميعاً. وأن يحفظ المسلمين في كل مكان من البغي والظلم والعدوان.