من يجرؤ على البوح؟
ليس متيسراً لأحدنا أن يبوح بأسراره لأحد آخر، أياً كان هذا الآخر، لأنه يخاف المستقبل، فأقرب المقربين قد يعمد لابتزاز إذا ما تغير مزاج الصداقة، أو عكرتها متغيرات الزمن وتباعد الأفكار.
ولا يمكننا أن نبوح بتصوراتنا وآرائنا لأهلنا وأولياء أمورنا لأننا نخشى ردة الفعل التي قد تأتي كما اعتدناها منهم زجراً وتوبيخاً وحرماناً ووو إلى آخر القائمة.
ولا يمكن أن نفاتح زوجاتنا بحب جديد طرأ على حياتنا، أو حب قديم خرج من بين ركام الأيام ليمارس ضغوطه وفاعليته علينا.
كل أنواع البوح مكلفة لكن أعلاها كلفة وأبهظها ثمناً بوحان، الأول بوح المرء بتصوراته وآرائه وشكوكه وظنونه وتساؤلاته، وأحياناً أفكاره وقناعاته فيما يرتبط بالشأن الديني، حتى وإن كانت جزئيات تحتمل الخلاف والتباين، والثاني بوحه بآرائه ومواقفه في الشأن السياسي، حتى وإن كانت شنشنات في مستويات مقبولة أو حتى دونية.
في الشأن الديني فتاوى التكفير جاهزة، ورجالها ينتظرون الزلة من أي أحد فهم فرسان هذه الميادين، وفي الشأن السياسي جيوش ورجال مخابرات مدججون بأحدث ما أنتجته مصانع الأسلحة والتجسس.
كل ما هو محيط بك يطلب صمتك، كما أنه يخاف بوحك، لا يهمه إن كان صمتك يعبر عن رضا أو سخط، كل ما يهمه أن تبقى خارج فضاء البوح، المطلوب هو الراحة من البوح والجهر، والخلود والتماهي في عالم الصمت والكتمان.
حياة واحدة أهداها ربنا سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، ومنحه فيها الحرية، وأتاح له أن يؤمن به أو يكفر، لكن خليفة الله في الأرض، وهو الإنسان لم يسمح بدوره للإنسان أن يمارس هذه الحرية، بل عد ممارستها جريمة تستحق العقاب، فاضطهد الإنسان وألغاه تماماً، ليقضي حياته دون أن يستمتع بلذة البوح، وترك له خياراً واحداً وهو أن يعيش صاغراً ذليلاً مصفقاً لكل ما حوله وإلا كان الويل والثبور وعظائم الأمور هي القبلة التي لن يحيد عنها.
ليس حباً في التقية التجأ الناس إليها فكراً وسلوكاً كما هو البعض منهم، أو سلوكاً يسكن النفوس في كل أمر كما هو حال كل الناس، دون فرق في أديانهم أو مذاهبهم أو أعراقهم وألوانهم.
التجأ الناس سلوكاً وعملاً إلى التقية لأنهم أيقنوا أنها ثمن الحياة والبقاء، ولأنهم وعوا بأن انتظام حياتهم في الوسط الديني والاجتماعي والسياسي وثيق الصلة بالصمت والكتمان، وأن العدو القاتل لهم والمهدد لحياتهم ومعاشهم وانتظام أمورهم هو البوح، فأخفى الكثير من الناس أفكارهم وآراءهم وتصوراتهم ونصائحهم كي يأمنوا على أنفسهم، فكان لهم ظاهر، وكانت أعماقهم في تناقض تام مع الظاهر.
من رفض الخضوع لهذا الواقع وكتمان ما يؤمن به في مختلف الشئون والمجالات، التجأ إلى ما تبقى أمامه من طرق ملتوية، فصار يعمل في الخفاء، ويتحرك في السر، فاستغنى عن فوق الطاولة ليحول تحت الطاولة إلى ساحة للعمل والنشاط والشعور بالذات والإحساس بالقيمة وامتلاك الحرية والكرامة.
أمراض الخفاء لم تقف مكتوفة اليد، بل كانت بالمرصاد، فالسر والخفاء يفتقدان الشمس ويعدمان الهواء الطلق، ما يعني القابلية التامة لنمو البكتيريا، وانتشار الأوبئة، فانطلق التطرف، وسادت الفكرة الواحدة، ونشأت الارتباطات المشبوهة، وترعرعت جماعات مشتتة على شكل جزر منفصلة عن أفكار وآراء وآمال وطموحات المجتمع أحياناً.
الخفاء الذي صاحب القضايا الشخصية فأتعب أصحابها بأمراضها ومساوئها، كما يحصل في الزواجات السرية، والولادات الخارجة عن القانون، والختان البعيد عن المعقمات والظروف السليمة والصحية، كذلك هو الخفاء يتعب المجتمعات والأوطان ويعرضها للمشاكل والأخطار وقد استفحلت وتفجرت.
فمتى يعترف بالبوح؟ ومتى يتعامل معه باعتباره واقعاً؟ ومتى ترجح عقولنا فنحتمله ونتحمله ونتعايش معه ضمن قوانين وآليات يقرها الشرع، ويقبلها العقل؟ ومتى نوقف البطش بحق البوح؟