المجتمع يدفع ثمن العادات المرهقة
حينما يريد الإنسان ممارسة سلوك اجتماعي معين، فإن عليه أن يأخذ بعين الاعتبار انعكاسات ممارساته على الساحة الاجتماعية. فقد يقوم الإنسان بعمل جيد، وهو في أصله مباح، ولربما كان مستحبًا بالعنوان الأولي، ولكن المدار حول أثر هذا العمل على المجتمع، فإن ترك أثرًا سلبيًا فإن المباح قد يتحول إلى حرام، والمستحب قد يصبح مكروهاً، ولا يصح للإنسان أن يبتكر عادة وإن كانت حسنة، ويغض الطرف عن آثارها إذا كانت سيئة على مجتمعه.
ولعلّنا نجد هذا المعنى واضحًا في الرواية التي نقلتها المصادر الشيعية عن الحسين بن أبي العلاء حيث قال:
خرجنا إلى مكة نيفا وعشرين رجلا، فكنت أذبح لهم في كل منزل شاة: فلما أردت أن أدخل على أبي عبد الله عليه السلام قال: يا حسين وتذل المؤمنين؟ قلت: أعوذ بالله من ذلك فقال: بلغني أنك كنت تذبح لهم في كل منزل شاة، فقلت: ما أردت إلا الله، قال: أما علمت أن منهم من يحب أن يفعل مثل فعالك فلا يبلغ مقدرته فتقاصر إليه نفسه، قلت: أستغفر الله ولا أعود[1] .
هذا الراوي وهو الحسين بن أبي العلاء، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق. وقد وثقه بعض علماء الحديث، كالنجاشي من الأقدمين، والسيد الخوئي من المتأخرين في معجم رجال الحديث.
ومفاد الرواية أن الحسين بن أبي العلاء كان ذا سعة وثراء، وشهامة وكرم، وكان أثناء خروجه إلى حج بيت الله الحرام يذبح شاة ليطعم من معه من المؤمنين كلما حلّت القافلة في منزل. وعمله هذا دليل على كرمه وجوده، ولا شك أن اطعام الطعام أمر مستحب، فكيف إذا كان لحجاج بيت الله الحرام؟ فالأجر فيه مضاعف وهو عنوان لخدمة ضيوف الرحمن. بيد أن الرواية تشير إلى انزعاج الإمام من هذا الفعل، حيث عاتب ابن أبي العلاء ووبخه: وتذلُ المؤمنين؟ وقد دهش الحسين لذلك وقال مدافعًا عن نفسه: ما أردت إلا الله! وهنا بدأ الإمام يلفت نظر صاحبه إلى الخطأ الذي وقع فيه: أما كنت ترى أن فيهم من يحب أن يفعل فعلك فلا يبلغ مقدرته ذلك، فتقاصر إليه نفسه؟
إن الإمام يريد أن يقول له أن عملك في عنوانه الأولي حسن، ولكن ألم تلتفت إلى انعكاساته على من معك، ومن تريد أن تكرمهم؟ أنت مع جماعة وتذبح لهم من حسابك الخاص، ومن حرِّ مالك، وتقوم بضيافتهم دائمًا وأبدًا، وفي القوم من يريد أن يعمل عملك كي يرد جميلك، ويحفظ العشرة، ويكافأ الإحسان بالإحسان، لكن يده قصيرة، لا يستطيع أن يضيّف أصحابه بالمستوى الذي صنعته أنت، فتولد في نفسه حسرة ويشعر بالانكسار والضعف. ولربما شقّ بعضهم على نفسه فيبذل فوق طاقته مجاراة لك، فتكون قد سنّيت سنة أرهقت بها من حولك.
عندها أدرك الرجل الأمر وقال في الحال: استغفر الله ولا أعود.
إننا حين نقرأ مثل هذه الروايات الواردة عن أهل البيت فإن علينا أن نأخذ منها الدروس والعبر، وأن نطبقها كما لو كان الأئمة قد وجهوا الكلام لنا مباشرة.
إن لكل مجتمع عادات وتقاليد، وهي تبدأ بممارسة فرد لشيء ما، ثم يتبعه هذا وذاك، وهكذا تنتشر في أوساط المجتمع، وبعد مدة من الزمن تصبح عرفًا اجتماعيًا. قد يبتكر الإنسان عادة حسنة فيثيبه الله عليها، وقد يبتدع فكرة يكون أثرها سلبيًا على المجتمع فيتحمل وزرها وإن كان عمله في حد ذاته مباحًا.
إننا نشهد بين الحين والآخر ولادة عادات جديدة في مجتمعنا المنهك اقتصاديًا تزيد من معاناته وشقائه. نلحظ ذلك في كثير من المناسبات الاجتماعية، ولا فرق فيما إذا كانت مناسبة فرح أو حزن. فحفلات الزواج أصبحت باهظة الثمن، ولا تختلف عنها كثيرًا مجالس العزاء التي تقام لفقد قريب. والحال نفسه في الهدايا التي يتم تبادلها في المناسبات ومنها هدايا المواليد وأعياد الميلاد.
إن ابتكار عادات جديدة في المجتمع وإن كانت تحمل في عناوينها الأولية الإباحة والاستحباب لكنها قد تتحول إلى إثم وكراهة إذا كانت مدعاة لإرهاق كاهل المجتمع، وعلينا أن نتنبه لهذا الأمر حتى لا نعرّض أنفسنا للإثم. فالإمام حين وجه صاحبه إلى ترك عمل مستحب حتى لا يرهق من معه، لم يكن الخطاب خاصًا به فحسب، بل هو موجه لنا جميعًا. وإذا كان الرجل قد أدرك ما يرمي إليه الإمام وبادر في الحال للاستغفار والعزم على عدم العود للأمر، حيث قال: استغفر الله ولا أعود. وفيه إشارة إلى الترك حالًا، فالرجل لحسن إيمانه عزم الترك مباشرة، وهذا ما ينبغي أن يكون منا جميعًا تجاه العادات التي ابتكرناها وولدت لنا إرهاقًا وعناء.
على الإنسان أن يحسب لغيره من أبناء المجتمع حسابًا. فإذا كان ذو قدرة على فعل عمل ما، فليأخذ بعين الاعتبار أن هناك من يريد أن يعمل مثله ولا يستطيع، وهذا يولد انكسارًا في نفسه، أو حرجًا إذا أصرّ على عمله حتى لا يكون في مستوى أقل من غيره، لأنه سيسمع ألسنة جارحة في مجتمعه لا تعلم وضعه فيضطر لإخراسها حفظًا لماء وجهه.
حينما يريد الإنسان أن يفرح بزواجه ـ وهذا من حقه ـ فعليه أن يتخذ أمرًا يرضي مشاعره، ولا يرهق من يأتي بعده. حتى لو كانت له قدرة وإمكانية، فعليه أن يتذكر أن هناك من لا يستطيع ذلك. لقد أصبحت عادات الزواج مرهقة للغاية، وللتو قد قرأت تحقيقًا عن العادات الاجتماعية حول الزواج، وكان أحد الشباب من أصحاب الدخل المحدود يقول أن زواجه كلفه 200 ألف ريال منها 30 ألف ريال للمهر، والباقي كلها على مراسيم الضيافة وعادات أخرى!
هذه أمور تسبب حرجًا وانكسارًا في نفوس الشباب، والحالة تكون أبرز في المجتمع النسائي لرقة عواطفهن. فالمرأة تريد أن تزف بالشكل الذي تزف فيه كل فتاة في أبهى صورة وأجمل احتفال، وإذا كان الأمر متعسراً عليها لضعف الإمكانات المادية عند زوجها أو أهلها، فإن ذلك يحدث إنكسارًا في نفسها، أو يشكل ضغطًا عليها فتوقع زوجها وعائلتها في حرج وعسر. علينا أن نتذكر قول الإمام لصاحبه: وتذل المؤمنين؟ هذا إثم وجرم كبير.
إننا إذ نكرر القول والتذكير بهذا الأمر لما نشهده من تطور الحال وزيادة الأعباء على أبناء المجتمع. هذه العادات الباهظة هي من أسباب صنع العنوسة بسبب البذخ الصارخ الذي نمارسه في حفلات الأعراس، فهذا (بما كسبت أيدينا). فمن أين لشاب محدود الدخل أن يلبي كل هذه المبالغ الطائلة؟ كانت الأمور ميسرة، حفلات عقد الزوج تقام في بيت والد العروس ببساطة، ولكن الأمر تطور فأصبحت حفلة أشبه بحفلة الزواج! وهناك إصرار على إقامتها ولو بعد حين وكأنها واجبة فيتم قضاؤها بعد فوات وقتها قربة إلى الله تعالى!
والأمر كذلك في مأتم العزاء لوفاة قريب. حيث يجتمع الأهل ثلاثة أوقات، الأمر الذي يستلزم ثلاث وجبات، وتعطيل أعمال، وبذل جهد وتعب كبير، ولاشك أن بعض العوائل يرهقها ذلك. ولكننا نصرُّ على ما يرهقنا حتى لا نبدو أقل من غيرنا. يقول أحد المؤمنين: جاءني أحد الأصحاب يطلب مني قرضة حسنة، فسألته لماذا؟ قال: لأقيم بها ذكرى الأربعين على روح والدي!
لماذا هذا التكلف وكأن اقامة الأربعين واجبة؟ فقط لأنه وأخوانه لا يريدون أن يكون أبوهم أقل من غيره! وذكرى الأربعين أساسًا ما كانت تقام إلا لأهل العلم تعزيزاً لمكانتهم وتخليداً لذكراهم، إلا أن البعض بدأ باقامتها لذويهم وشيئًا فشيئًا أصبحت عرفًا في بعض أوساط مجتمعاتنا. والمشكلة أنك تجد من يزايد في الأمر فيجنح للعادات المرهقة مدعيًا أنه من سيقوم بها إذا تخلى عنها غيره من عائلته، ويضع الآخرين في حرج. ولا يصح أن نحتجّ بعناوين أخرى بأن ذلك نفع للمتوفى وفيه أجر وما شابه، إذا كان ذلك يسبب حرجًا للآخرين.
ظاهرة أخرى نجدها في تبادل الهدايا بين الأحباب والأقرباء في المناسبات السعيدة. وهو أمر تحبذ التعاليم الإسلامية رواجه بين الناس كما في الحديث (تهادوا تحابوا)، ولكن ليس بالشكل الذي نقوم به الآن. ينبغي أن تكون الهدايا رمزية تشعر الطرف الآخر بمحبته ومكانته عندك. لكن ما نراه في عادات تبادل الهدايا في مناسبات المواليد الجديدة وهدايا الميلاد مثلًا أن هناك مزايدات ومبالغات ترهق المجتمع. ولا يقتصر الأمر على هدية واحدة فحسب، فاليوم مولود لأخ وغدًا لأخت، وقريب أو قريبة، فإذا كانت الهدايا باهظة الثمن فإن ذلك يسبب حرجًا وانكسارًا. حتى المرأة الموظفة لا يصح أن تبالغ في هداياها بحجة أن لديها قدرة مالية ولن ترهق زوجها، لأنها بالتالي سوف ترهق من أهدته فالهدية كالدين، وأيضًا تضع من حولها في حرج حين تكون الهدايا أقل مستوى مما قدمته.
لماذا نصر في مجتمعنا على تكريس هذه العادات والتقاليد المكلفة التي تنتج لنا مشاكل اجتماعية وعائلية ونفسية؟ إن الله تعالى لا يحب المتكلفين، وهو سبحانه يريد اليسر ولا يريد العسر.
أصبح من الواجب علينا ونحن نعيش هذه الظروف أن ننشر ثقافة التسهيل. وأن يشجع بعضنا بعضاعلى عدم التكلف في مراسيم المناسبات. لا يصح للبعض منا أن يلوم من حوله ـ ولو على سبيل المزاح ـ لعدم استضافتهم له في مناسباتهم، فقد يكون في ذلك عبء عليهم وحرج، بل ينبغي التشجيع حتى يعيش الناس اليسر وعدم التكلف مع الآخرين. مراعاة أحوال الناس وظروفهم أمر يتحتم علينا أخذه بعين الاعتبار.