تفعيل المسار القضائي في مواجهة الانتهاكات
حالة طبيعية في المجتمعات البشرية أن يحصل فيها خلاف ونزاع بين الأفراد والجماعات. إما لاختلاف وجهات النظرأو التضارب في المصالح، ولا بد من جهة يُحتكم إليها لمعالجة قضايا الاختلافات، ومن هنا نشأت الحاجة إلى القضاء.
القضاء مشتق من الحسم والفصل. ففي كل المجتمعات هناك جهة يرجع إليها المتخاصمون، والقضاء ليس وليد هذا العصر، فقد كان للقضاء دور في المجتمعات البشرية القديمة، وحينما أشرق نور الإسلام على أرجاء هذه المعمورة كان لابد من تعزيز هذا الدور وترشيده، فأصبح يحتل مكانة كبيرة في الشريعة الإسلامية. فهناك روايات ونصوص كثيرة استنبط منها الفقهاء شروط القاضي وأحكام القضاء، وآداب طرح القضايا، وكل ما يرتبط بهذا الشأن.
وحتى يحتل القضاء مكانة في نفوس الناس، ويحظى بالرضا والقبول لا بد من توفر أمرين في من يقوم بهذا الدور.
الأمر الأول: العلم والمعرفة.
لا بد للقاضي أن يكون عارفًا بالنظام الذي يقضي على أساسه. إذا كان قاضيًا شرعيًا فلابد أن يكون عارفًا بأحكام الشرع. والرأي المشهور عند فقاء الشيعة هو اشتراط الفقاهة في القاضي بأن يكون قادراً على استنباط الأحكام من مصادرها المقررة. وهناك رأي بجواز إنابة الفقيه شخصًا لديه فضيلة علمية وإن لم يصل إلى مقام الاجتهاد. أما في القضاء المدني فيشترط العلم بالقانون المعتمد كمرجعية للبلاد.
الأمر الثاني: النزاهة.
يشترط في القاضي أن يكون نزيهًا عادلًا. فلا ينحاز لشخص على حساب آخر بسبب الأهواء والانتماءات. ولو كان في المجتمع الإسلامي جماعة من غير المسلمين وحصل بينهم وبين المسلمين نزاع، فلا يحق للقاضي أن يميل بحكمه لصالح المسلمين ضد خصومهم فقط لأنهم من أتباع دينه. والحال نفسه عند الاختلاف المذهبي، أو القبلي. يذكر العلماء والمفسرون أن سبب نزول الآية الكريمة: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾ أنها كانت بسبب سرقة حصلت في المدينة المنورة، وكادت هذه السرقة أن تنكشف حيث عُرف صاحبها، ولكن من عرفوا السارق تواطئوا بأن يجعلوا الشيء المسروق في بيت رجل يهودي، ومن ثم يمضون إلى رسول الله ويشهدون عنده، حتى يبرئوا صاحبهم. ومن نهج رسول الله أن يحكم بالأيمان والبينات كما ورد في الحديث، ولأن المسألة خطيرة وترتبط بالعدالة، حيث لا يصح ظلم إنسان بناء على انتمائه الديني، فإن الله تعالى أطلع نبيه الكريم على حقيقة الموقف، وأمره بأن يحكم بما أطلعه عليه، وأن لا يقبل منهم شهادتهم وايمانهم لتواطؤهم ضد اليهودي، حيث لا يصح أن يكون رسول الله خصيماً أي مدافعاً عن المتآمرين الخائنين.
على القاضي أن لا يترك مجالًا للأهواء والانتماءات أن تسلك سبيلًا إلى نفسه فيما يصدر من حكم قضائي، فذلك يفقده نزاهته. إن النصوص الدينية تبين خطورة هذا المنصب، بمعنى أن من يتبوأ هذا المنصب ينبغي أن يكون على قدر عال من الدراية والنزاهة. ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حول مجلس القضاء أنه قال: (لا يجلس فيه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي)[1] . فهو منصب خطير إذا جلس فيه من لا يملك الأهلية يكون شقياً.
وورد عن رسول الله حول القضاة أنه قال: القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهله فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار [2] . وجاء عنه : لسان القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس، فإما إلى الجنة وإما إلى النار[3] .
يأخذ القضاء مكانة عظمى في المجتمعات المتحضرة. وهناك نقاش يدور حول هذا الجانب: هل القضاء سلطة أم وظيفة؟
سلطة بمعنى أن تكون مستقلة شأنها شأن السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية. ووظيفة بمعنى أن تكون تحت رعاية ومظلة السلطة السياسية في البلد، والتي يترأسها شخص هو الحاكم، وهو بدوره يوزع المهام والوظائف ومن ضمنها وظيفة القضاء.
في المجتمعات المتقدمة يرون بأن القضاء يجب أن يكون سلطة مستقلة، ولا بد من فصل السلطات الثلاث. فهناك سلطة تشريعية هي البرلمان، وسلطة تنفيذية تتمثل في الحكومة برئيسها ووزرائها، وسلطة ثالثة هي السلطة القضائية يرجع الناس إليها في النزاعات والخصومات والاحتكام حول تطبيق القانون وقرارات الدولة.
استقلالية القاضي ونزاهته أمر مهم في كل مجتمع، فلا يخضع للسلطة التنفيذية، ولا ينقاد للأهواء والشهوات. وهذا ما تؤكد عليه الشريعة الإسلامية. هناك من القضاة من يراعي الله في هذا الجانب ويحكم بما أنزل الله. ولكن إذا كان الباب مفتوحًا أمام القاضي، يقضي كيفما شاء، دون رقيب ولا حسيب، فهذا خطأ كبير، فهو بشر وليس معصومًا، ومن الطبيعي أن تتسرب إليه عوامل الفساد والانحراف. وقد وجدنا في مختلف الدول كيف أن القضاة كانوا يأتمرون بأوامر السلطة التنفيذية ويتواطئون مع النافذين وأصحاب الثروات!
تفعيل دور القضاء:
في كل المجتمعات ـ كما ذكرنا ـ تحصل نزاعات وخلافات بين الأفراد، أو الجماعات كالطوائف والقبائل. وإذا ما حصل اعتداء من أي طرف كان، فلابد للمعتدى عليه من اللجوء للقضاء. والحديث حول عدم جدوائية ذلك كما يرى البعض غير صحيح، وهو لا أقل أجدى من السكوت وأحق.
فمن اللازم تفعيل دورالقضاء، حيث يحق لأي مواطن أو أي مواطنين أن يرفعوا دعوى على أي فرد أو أي جهة، حتى لو كانت جهة رسمية حكومية.
وقد شهدنا في هذه الأيام تصريحًا لرئيس لجنة المحامين في الغرفة التجارية الصناعية في المدينة المنورة يدّعي فيه أن الشيعة مجهولو النسب، وأننا لو عملنا تحليلًا حمضيًا لكل شيعي لما تطابق مع من يدّعي أنه أبوه! كلام قبيح، قذف به أعراض الشيعة في العالم كله. وليس من قاله شخص عادي أو جاهل، بل صادر من رئيس لجنة محامين والذي يفترض منه أن يكون عارفًا بالقانون، ويناصر الناس ويحل مشكلهم!
على الناس أن يتحملوا دورهم في مثل هذه الظروف. فقد اعتدنا في مجتمعاتنا حين تحصل مثل هذه الإساءة أن نتأزم نفسيًا، ونتحدث في مجالسنا، ونشكو الحال لبعضنا، لكننا لا نخطو خطوات عملية. من حق الناس في كل مدينة تنتمي لهذه الطائفة أن يتقدموا بدعوى قذف ضد هذا الرجل الذي أساء لهم. والمسألة لا تنحصر فيه فقط، فهو يمثل تيارًا واتجاهًا، ورفع الشكوى ضده يضع حدًا لمثل هذه التجاوزات، فلا ينبغي التغاضي عن هذا الأمر. لابد من التحرك السياسي والإعلامي والحقوقي والقضائي. فالطرق والمسالك متعددة لدحر مثل هذه التوجهات، وعلى من يجد الخيار المناسب أن يسلكه ولا يتردد، فلا يصح السكوت أبدًا لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.
لقد أكدنا أكثر من مرة أن المشاكل الطائفية ما كان لها أن تحصل لولا الثغرات السياسية الموجودة. فالتمييز الطائفي بين الناس، هو الذي يعطي لجماعة شعورًا بالسيادة والتعالي، وجماعة أخرى تشعر بالغبن والظلم والإقصاء. هذا الخلل الموجود في الواقع الاجتماعي هو الذي يفرز مثل هذه الأمور، ولا سبيل للخلاص منه إلا بقانون عادل يساوي بين المواطنين ويجرم مثل هذه الممارسات والانتهاكات.
إن مجتمعاتنا الخليجية بشكل خاص تتعرض لموجات من الإثارات الطائفية والمذهبية، وعلى الحكومات إذا كانت صادقة فيما تدعيه من الحرص على الوحدة الوطنية، أن تتنبه وتضع حدًا لهذه الممارسات. وعلى المواطنين العقلاء الواعين من مختلف المذاهب أن يتضامنوا ضد أي إساءة من قبل هذا الطرف أو ذاك وعلى الناس المتضررين خاصة أن لا يسكتوا وأن يتحركوا إعلاميًا وقضائيًا وبمختلف الطرق للدفاع عن حقوقهم المادية والمعنوية.
قبل أيام أصدرت المحكمة في الكويت حكمًا قضائيًا ضد شخص أساء للطائفة الشيعية، بالسجن سبع سنوات مع الشغل والنفاذ. وبغض النظر عن بقية التفاصيل، ولكن هذا مسار مطلوب، خاصة وأن مجتمعاتنا تعيش النداء بالحريات، ويقظة المشاعر المذهبية والطائفية، فلابد للحكومات أن يكون لها دور في مواجهة هذه التصرفات والتصريحات الطائشة. لأن استمرارها يعتبر معولًا هدامًا للاستقرار الوطني، وعاملاً مؤسسًا لأرضية الخلافات والنزاعات، وآثار ذلك وخيمة على الوطن والمواطنين.