كيف نعصي الله بنعمه؟
يتقلب الإنسان في نعم الله منذ أن يفتح عينه على الحياة وحتى آخر رمق يعيشه. فكل ما بين يدي البشر هو نعمة من الله، ولذلك حق على الإنسان أن يشكر الله تعالى على نعمه، وفي الحد الأدنى أن لا يستخدم هذه النعم التي انعم الله بها عليه في معصيته سبحانه وتعالى. إن فطرة الإنسان تدفعه للإحسان لمن أحسن إليه، وعقله يوجب شكر المنعم، فإذا أنعم أحد على أحد آخر بشيء فإن العقل يوجب شكره، وقبيح عقلا ومستنكر وجدانا أن يقابل المحسن بالإساءة، والمنعم بالجحود، والأشد قبحا أن يستخدم الإنسان الإمكانات التي أنعم بها أحد عليه في الإساءة لهذا المنعم. هذا المبدأ يجب أن يكون حاضرا في نفس الإنسان ضمن علاقته بالخالق المنعم جل وعلا.
ينبغي للمرء أن لا يعصي ربه عز وجل. فإذا همَّ بمعصية فلا يليق أن يعصى ربه بالنعم التي أنعم بها عليه، من هنا يأتي السؤال؛ وهل عند الإنسان شيء من خارج نعم الله؟ فكل جوارحك أيها الإنسان نعم من الله، فالعين التي تعصي بها ربك من خلال نظرة الحرام، من أعطاها قدرة البصر؟ وكذلك سمعك ويدك، وقدمك، وجميع جوارحك وغرائزك، فكل ذلك من عند الله، فكيف يسمح لك وجدانك وعقلك أن تقابل الله تعالى بالمعصية من خلال النعم التي أنعم بها عليك؟
تلفت الروايات الشريفة نظر الإنسان إلى عجزه عن الخروج عن سلطان الله ونعمه التي لا تحصى. ويروى في هذا الشأن عن أمير المؤمنين : (أقل ما يلزمكم لله سبحانه ألا تستعينوا بنعمه على معاصيه)[1] ، روي أن الحسين بن علي جاءه رجل وقال: أنا رجل عاص ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة فقال : (افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت، فأول ذلك: لا تأكل زرق الله وأذنب ما شئت، والثاني: اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت، والثالث: اطلب موضعا لا يراك الله وأذنب ما شئت، والرابع: إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت، والخامس: إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار وأذنب ما شئت)[2] فاتعظ الرجل وأناب. ولذلك على الإنسان ان يتوقف وأن يتأمل تجاه أي داع من دواع المعصية.
ان هذه النعم التي أعطاها الله البشر في هذه الدنيا، إنما هي جزء ضئيل جدًا من النعم الكبيرة التي اذخرها لهم في الآخرة. لقد خلق الله تعالى الناس في هذه الدنيا حتى يمتحن مدى جدارتهم واستحقاقهم لتلك النعم المدخرة لهم في الآخرة. فإذا تصرفوا في هذه الدنيا على نحو جيد، و لم يستخدموا هذه النعم -على أقل تقدير- في معصية الله، فإنهم يثبتون استحقاقهم وأهليتهم لتلك النعم الكبيرة العظيمة في الآخرة. وذلك يشبه تماما كما لو أن جهة ما استضافتك لمدة أسبوع في قصر منيف وجُعل كل شيء فيه طوع يديك، ثم قالوا لك: سنرى بعد أسبوع واحد كيف تعاملت مع هذه النعم التي وضعناها بين يديك، فإذا تصرفت بشكل جيد ولم تخالف النظم والقوانين، فسوف نعطيك أفضل منه مليون مرة، وستمكث فيه حينذاك طيلة حياتك، وليس أسبوعًا فقط، فهل هناك عاقل يختار أن يأنس بالاستجابة لرغباته لأسبوع واحد فقط ثم يكابد الشقاء طوال حياته، لا لشئ إلا لمجرد استسلامه لداعي الرغبة، فيفوت بذلك على نفسه النعم المقبلة طيلة حياته.
ان ما سبق كان مجرد مثال لتقريب الفكرة للاذهان، فكل ما في هذه الدنيا، نعم محدودة قليلة مؤقتة. فالله تعالى يخاطب الناس دائما في محكم آياته بأن هذه النعم التي تأنسون بها في الدنيا، هناك في الآخرة ما هو أفضل منها أضعافا مضاعفة، فالمطلوب منكم فقط أن تحسنوا التصرف في هذه النعم في الدنيا، فأنتم هنا في مقام الاختبار، وعليكم أن تختاروا، فهل من عاقل يفوت تلك النعم العظيمة مقابل شيء زهيد في الدنيا.
وقد ورد في الأحاديث الشريفة ذكر الكثير مما أعده الله تعالى لعباده الصالحين في الآخرة. جاء عن رسول الله : (لموضع سوط في الجنة، خير من الدنيا وما فيها)[3] ، وورد عنه : (قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)[4] . وفي حديثه اشارة إلى أن نعماً كثيرة لا يمكن وصفها، وحياة مستمرة دائمة لا ينقطع أمدها، وجميع ذلك في مقابل شئ واحد فقط، وهو أن ينال كل منكم اجازة مرور حتى يحظى بتلك النعم. وهذه الاجازة لا تعدو عن تجنب المعاصي في الدنيا، كما جاء في الآية الشريفة ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً﴾، وفي آية أخرى ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.، كما ورد عن الإمام علي : (لن يحوز الجنة إلا من جاهد نفسه)[5] . ان على الإنسان أن يضع أمام نفسه هذه الحقيقة كلما دعته نفسه لمعصية، فلا ينبغي أن يفوت على نفسه ذلك النعيم الأبدي المقيم من أجل شهوات زائلة. المطلوب منك أيها الانسان أن تواجه شهواتك في الدنيا حتى تحظى بلذات ونعم الآخرة العظيمة.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.
لا يستقيم أمر مجتمع من المجتمعات إذا ما ابتلي بآفة الاستبداد. فالمجتمع الذي تستبد به فئة معينة، لن تستقيم أموره، ولن يكون مجتمعا ملتزما بقيم الله تعالى مهما بلغ مستوى تلك الفئة أو القيادة المستبدة فيه، وهل هناك أحد يمتلك كفاءة القيادة، وإمكانية الصواب أكثر من رسول الله ، ومع ذلك فإن هذا القائد الأعظم المرتبط بالوحي والمسدد من قبل الله تعالى، يأمره الله بقوله سبحانه وتعالى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، والسؤال هنا؛ لماذا يشاورهم في الأمر، ولماذا لم يفوّض الله تعالى لنبيه أن يتصرف كما يشاء، ويفعل ما يريد دون استشارة، وهو المسدد المعصوم المتصل بالوحي، فما الداعي لأن يأمره بالمشاورة؟ الجواب على ذلك هو أن الله سبحانه تعالى أراد أن يرسي منهجية ضرورية لحياة المجتمعات المسلمة، وهي تلك المتمثلة في مشاركة عامة الناس في ادارة وتقرير ما يرتبط بمصيرهم وحياتهم. أما إذا استبدت بأي مجتمع فئة معينة فستأخذه إلى الهاوية.
تشير آيات القرآن الكريم إلى أن أبرز خصلتين للمجتمع الإيماني هما الاتصال بالله حيث لا تنحصر اهتمامات المجتمع الايماني بالنواحي المادية الدنيوية، ولذلك فهم يقيمون الصلاة، وهي رمز للارتباط بالله، ورمز للاهتمامات المعنوية. أما الناحية الأخرى فهي أن هذا المجتمع يستجيب لدعوة الله، ويدير أموره الدنيوية على نحو سليم. فكيف يمكن لمجتمع أن يدير شؤونه بشكل افضل؟ الجواب ما يشير اليه سبحانه وتعالى من إن الطريق الصحيح لإدارة الشؤون الدنيوية هي مشاركة الناس كما ورد في الاية الكريمة ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾.
ما هي خلفية الاستبداد
تكمن الخلفية الحقيقية لنزعة الاستبداد في استحكام الأهواء وغلبة الشهوات. فالمستبدون والمستأثرون بالمقدرات لا يريدون للناس مشاركتهم في الحكم والسلطة، والإدارة واتخاذ القرار، وعلة ذلك تكمن في رغبتهم أن يحكموا بمفردهم، ويتصرفوا وفق رغباتهم، وليس وفق مصالح الناس. لأنهم لا يعترفون بأن للناس إرادة وحقا، بل ينظرون لهم كما لو كانوا قصّرا، أو حتى أنعام في حظيرة. ولذلك يقررون لهم ما يشاءون دون أن يكون للناس رأي ولا دور ولا مشاركة.
لا يليق بمجتمع إنساني يبحث عن حياة كريمة أن يبقى تحت الهيمنة والاستبداد. ولذلك قرر الله تعالى في مجتمع المؤمنين أن يكون لهم رأيهم في الشأن العام الذي يرتبط بهم جميعا، وبحسب التعبير القرآني ﴿شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، وفي ذلك اعتراف من السماء بإرادة الأمة، وإقرار بسلطة الناس على أنفسهم وأموالهم وحقوقهم. ويورد الفقهاء في هذا الشأن قاعدة مفادها أن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم، واتخاذ القرار فيما يرتبط بالشأن العام لا يعدو عن ذلك، فلابد وان يرضى الناس به، بشكل مباشر أو غير مباشر، أي ينبغي اتخاذ طريقة معينة تضمن رضاهم واختيارهم، ذلك ان الآراء تختلف والوصول الى الرأي الأنضج انما يكون عبر التشاور، علاوة على أن المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار تضمن نجاح القرار، وتكفل الاستقرار في المجتمعات، فالقرار الذي يتخذه الناس سوف يلتزمون به، أما القرار الذي يفرض عليهم خلافا لرغبتهم وإرادتهم فإنهم لا يجدون انفسهم ملزمين به.
كان النبي الأكرم كثير التشاور مع صحابته الكرام. وقد ورد في السيرة النبوية قول أحد الأصحاب (ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله ). فقد كان يجمع كل الناس في المسجد ويشاورهم في مختلف الشؤون العامة. ويذكر في هذا الشأن أن النبي لما سمع بنزول المشركين أحدا، قال لأصحابه أشيروا علي، فاختلف الناس، اذ قال بعضهم نتحصن في المدينة فإن هاجمونا ندافع، فيما قال بعض آخر: بل نخرج إليهم ولا نترك لهم الفرصة حتى يهجموا علينا. فتعددت الآراء، وكان ممن طلبهم رسول الله للمشاورة عبدالله بن أبي المعروف برأس المنافقين في المدينة، ومع ذلك يطلبه رسول الله باعتباره أحد أفراد المجتمع وإن كان منافقًا، فلما اختلف الرأي في الخروج أو التحصن، اختار الرسول رأي الأكثرية الذين رأوا الخروج، مع أن رأي النبي كان في بداية الأمر يميل مع خيار البقاء في المدينة، لكنه نزل عند رأي الأكثرية، حتى أن بعض الأصحاب قال أن رسول الله ما كان راغبا في الخروج، ولكن حين تكاثرنا عليه برأينا أحرجناه، فلنعتذر منه، وقد ذهبوا إليه بالفعل، وهو قد دخل منزله وخرج لابسا لامة حربه مستعدا للقتال، فأحسوا بالحرج واعتذروا إليه، لكن رسول الله قال: (إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل)[6] ، وفي السيرة النبوية شواهد عديدة حول كثرة استشارة رسول الله لأصحابه. كما ورد عن الإمام الحسن القول: (ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم)[7] ، وعن أمير المؤمنين قال (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)[8] .
لابد من صيغة تتحقق فيها إرادة الناس. كان المجتمع الإسلامي في المدينة مجتمعا صغيرا محدود العدد، فكان يكفي أن ينادى فيهم في المسجد ويستشارون، لكن بعد أن اتسعت الأطراف وزادت مساحات الدول والمجتمعات، أصبح من الضروري ايجاد سبل يستشف بها رأي الناس، خصوصا مع تطور الزمن وبروز وسائل تضمن الوصول إلى رأي الناس ومشاركتهم. وقد وصلت المجتمعات البشرية إلى صيغة ينتخب من خلالها الناس ممثليهم عبر صناديق الاقتراع، فالناس يختارون من يمثلهم، وهؤلاء الممثلون يجتمعون ويتخذون القرارات التي ترضي الناس، وتبعا لذلك يأتي دستور البلاد برضى الناس كذلك، كما ينتخب الناس حكامهم، وهذا ما يطلق عليه حديثا بالديمقراطية.
وتعد الديمقراطية أفضل صيغة للحكم وصلت إليها المجتمعات البشرية. وبطبيعة الحال، قد تختلف المجتمعات في التفاصيل، ولكن تبقى الديمقراطية رغم عيوبها ومشاكلها، أفضل صيغة للحكم بلغتها المجتمعات البشرية. وكما يقولون، مشاكل الديمقراطية تحل بمزيد من الديمقراطية، وليس بالتراجع عنها. ولو أخذنا ما يجري في مصر على سبيل المثال، نجد الآن الشعب المصري يعيش حالة مخاٍض من أجل اختيار لجنة تأسيسية تضع له دستورا، وانتخاب رئيس للجمهورية، وهو الأمر الذي استغلته بعض الجهات في محاولة تصوير ما يحصل في مصر باعتباره دلالة على أن الديمقراطية أمر فاسد، وأن فيها من المشاكل والاختلافات ما فيها، وتبعا لذلك يزعمون بضرورة بقاء مجتمعاتنا على ما هي عليه، ان هذا هو عين التضليل للناس. فالديمقراطية ليست على هذا النحو المشوه الذي يصوره هؤلاء.
لقد واجهت الكثير من المجتمعات البشرية مراحل انتقالية حرجة ولكنها تجاوزت المعوقات شيئا فشيئا. الشعب المصري ليس استثناء، ومتى ما كانت هناك نزاهة، والتزام بالقوانين، وعدم التفاف على ارادة الشعب، وجرت انتخابات نزيهة لاختيار رئاسة تمثل كل الشعب المصري، فإن جميع المشاكل الحاصلة منذ الثورة تبقى مشاكل طبيعية ومتوقعة وسيتم تجاوزها.
شعوبنا لا تختلف عن الشعوب الأخرى في استعدادها للديمقراطية. ومن المستغرب حقا أن تجد كل الشعوب في العالم يسلكون طريق الديمقراطية، فيما لا يزال بعض الناس يتهمون مجتمعاتنا بعدم الأهلية في المشاركة في الشأن العام وممارسة حق الاختيار، كما لو أن شعوبنا لا تزال مجموعات من الأطفال القصر!. والسؤال هنا، ما الفرق بين شعوبنا وبقية الشعوب؟ ولماذا الشعوب الأخرى مهيأة ومؤهلة للانتخاب والاختيار، فيما شعوبنا لا تستحق هذا المستوى؟ لقد آن الأوان لكي تأخذ الشعوب منحى آخر، حتى تكون ممتثلة لأمر الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بينهم﴾ فشعوبنا بحاجة لإعادة تأكيد الارتباط بالله تعالى، وإقرار المشاركة الشعبية.
إن مشاكل الديمقراطية تحل بالمزيد من الديمقراطية. ونحن واثقون أن الشعب المصري والتونسي وكل الشعوب العربية التي هي على مفترق طرق اليوم وتمر بمرحلة انتقالية، نحن واثقون أن هذه الشعوب إذا لم يحصل تلاعب في إرادتها، فإن هذه الشعوب ستشق طريقها وستقدم نموذجا أفضل للشعوب العربية والإسلامية.
نسأل الله أن يصلح أمور المسلمين.