الطموح سبيل الرفعة والشهوات طريق السقوط
الهمة العالية هي الطريق الأقصر نحو الرفعة وسمو المقام عند الله وبين الناس. فكلما ارتفعت لدى الإنسان درجة الطموح والتطلع نحو الخير وتحقيق الإنجازات الكبيرة، حلّق على نحو تلقائي، في آفاق العلو والرفعة. ولذلك ورد عن أمير المؤمنين : (ما رفع امرءا كهمته ولا وضعه كشهوته)[1] ، وفي نص آخر ورد عنه : (من رقى درجات الهمم عظمته الأمم)[2] . وإذا ما تأملنا أسماء العظماء وذوي المكانة والرفعة في المجتمعات المعاصرة والغابرة فسنجد خصلة مشتركة بين هؤلاء العظماء هي أنهم كانوا من ذوي الهمم العالية والتطلعات الرفيعة.
يتمنى كل إنسان أن يكون في مقام الرفعة والتقدير. فلا يرضى أحد لنفسه أن يكون وضيعاً، ينظر إليه الناس بدونية واحتقار، ولكن ما هو الطريق الذي يوصل الإنسان إلى مقام الرفعة والعلو؟ وبخلاف ذلك، ما هي الأسباب والعوامل التي تنحدر به إلى قاع الدناءة والوضاعة؟
آفاق الرفعة
إن هنالك آفاقاً ثلاثة يمكن أن يحلق فيها الإنسان ويصبح رفيعاً وذا مكانة عظيمة:
الأفق الأول: أفق العلم والمعرفة
يأخذ المرء موقعه في نفوس الناس، ويحفر اسمه في سجلات التاريخ، بمقدار ما يحقق من تقدم في مجالات العلم. فإذا كان الإنسان طموحاً، وحقق انجازًا علمياً، سواء في مجال العلوم الطبيعية أو الدينية أو الأدب وغيرها، فإنه بذلك يأخذ موقعه في نفوس الناس وسجلات التاريخ، ولذلك لا يزال الناس يتداولون أسماء المخترعين والمكتشفين والأدباء كالشيخ المفيد والطوسي والعلامة الحلي وغيرهم من عظماء الشرق والغرب. وقد احتفلت بريطانيا قبل أيام ومعها المهتمون بالأدب والمسرح في مختلف أنحاء العالم بذكرى مرور 450 سنة على ميلاد شكسبير الأديب والروائي الانجليزي الشهير، وتحدثوا عن ترجمة أعماله إلى 37 لغة، وأشاروا إلى وجود مئات الملايين من المتابعين لتراثه وأدبه ومسرحياته، فما الذي خلّد اسم هذا الرجل طوال هذه القرون وجعله محل احتفاء الملايين في العالم؟ الجواب؛ لأنه اختار التحليق في فضاء المعرفة والأدب فتربع على عرش قلوب وعقول الملايين من محبي الأدب والفن.
الأفق الثاني: أفق القيم والمبادئ
ان الأشخاص الذين ينذرون أنفسهم للقيم السامية، والمبادئ الإنسانية الرفيعة، تتألق أسماؤهم، وتلمع شخصياتهم، ويصبح لهم ذكر خالد في التاريخ. فالذين ضحوا وناضلوا من أجل الحرية والسلم والحقوق العادلة لشعوبهم وعموم البشرية، جعلوا من أنفسهم مضرب مثل للملايين فحجزوا مكانتهم المرموقة في طليعة العظماء والخالدين. إن عظمة وموقعية سيد الشهداء الامام الحسين بن علي انما تحققت لما ارتبط اسمه بموقف التضحية والفداء، وقد ورد في الأثر عن رؤيا الإمام الحسين حينما خاطبه النبي الأكرم بقوله: (إن لك في الجنة درجات لن تنالها إلا بالشهادة)[3] .
والأمر ذاته ينسحب على الكثير من الشخصيات العالمية المرموقة، فما الذي صنع من الزعيم الهندي المهاتما غاندي هذا الاسم الرنان والخالد؟ إنه ارتباط اسمه بانجاز عظيم تمثل في تحرير شعبه من الاستعمار البريطاني بالنضال السلمي.
وما الذي جعل للزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا هذا الاسم الخالد، والمكانة الفذة والمحترمة في العالم؟ لقد سلخ هذا الرجل 27 سنة من عمره خلف القضبان، وحينما خرج من السجن بنهاية نظام الفصل العنصري في بلاده، لم يسلك سبيل الانتقام من جلاديه البيض، بل جعل من نفسه عنواناً للتسامح والعيش المشترك بين مختلف فئات شعب جنوب أفريقيا، رغم ما أصابه من آلام، وما تحمله السود من عذابات، فخلّد مانديلا بذلك اسمه بين العظماء؛ لأنه ارتبط بقيم انسانية عظيمة.
إن من يحلق في سماء القيم، كقيمة الحرية والعدالة والمساواة والدفاع عن الحقوق والشعوب والمجتمعات، سيرتقي حتما في درجات العلى، وسيستحق أن تعظمه الأمم جيلا بعد جيل.
الأفق الثالث: أفق الخدمة والعمل الاجتماعي
ان من يخدم الناس، ويضحي من أجلهم، ويبذل طاقته في سبيلهم، فسينظر اليه الناس بتقدير واحترام. كما سيكون مقامه عند الله عظيماً بمقدار إخلاصه وصدق نواياه. ونحن نجد في مجتمعاتنا شخصيات بلغوا هذا المستوى. فإذا ما أراد المرء الرفعة وعلو المقام، فإن الطريق إلى ذلك هو علو الهمة، فعلو الهمة يجعل المرء يتحمل المشاق والمتاعب التي لا تنتهي، ولذلك قال الشاعر: ومن طلب العلا سهر الليالي. وكذلك وردت العديد من النصوص التي تحض الإنسان على أن يبذل من طاقته وقدرته، في سبيل قيم الخير والصلاح، ويتحمل المشاق والمشاكل مهما بلغت مرارتها.
عوامل السقوط
ثمة العديد من العوامل التي تساهم في الحط من مقام الاشخاص وتجرهم نحو مستوى الدناءة والانحطاط والوضاعة، ولعل أبرزها استلام المرء لشهواته. ورد عن أمير المؤمنين (وما وضعه كشهوته). اذا استسلم المرء لشهواته طمعاً في اشباعها بأي ثمن، فإنها تنحدر وتهوي به حتماً إلى قاع الوضاعة والمذلة.
إن لدى الإنسان سلسلة من الغرائز والشهوات والرغبات، إذا استسلم لها فقد تدفع به نحو سلوك الطرق الملتوية المتعرجة. وهذه هي المشكلة التي يقع فيها كثير من الناس، الذين يلهثون خلف أهواءهم وشهواتهم، تلك الشهوات التي قد تتمثل في طمع مالي، أو رغبة جنسية محرمة، أو حباً مرضياً في الشهرة وتقلد المناصب، هذه الرغبات على اختلافها قد تدفع الإنسان الى سلوك الطرق الملتوية والمتعرجة، والتي تجعل منه إنساناً وضيعاً، ينظر الناس إليه باحتقار. وقد ورد عن رسول الله : (إنما سمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه)[4] ، وورد عن أمير المؤمنين (أمقت العباد إلى الله سبحانه من كان همته بطنه وفرجه )[5] . ومقتضى ذلك أن أشد العباد مقتاً عند الله هم أولئك المنغمسون حتى آذانهم في شهوتي البطن والفرج. وعنه : (ما أبعد الخير ممن همته بطنه وفرجه)[6] .
إن كثيراً من الناس إنما انزلقوا في عالم الشهوات والدناءة نتيجة أسباب تبدو في أولها تافهة. فهناك من انزلق في هذا السبيل بسبب رغبة دفعته لسماع صوت انثوي ناعم، أو صوت ذكوري مخادع، لكن هذا الطريق الذي كانت بدايته الاصغاء إلى صوت عاطفي، خاصة عبر وسائل الاتصال الحديثة، انتهى بالكثيرين للوقوع في مشاكل وفضائح اجتماعية.
وبالعودة للشرارات الأولى للعديد من القضايا الأخلاقية المؤلمة التي راح ضحيتها هذا الرجل أو تلك المرأة، فسنجد أن البداية إنما كانت بمحادثة عابرة في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي كالماسنجر أو الفيسبوك وما أشبه، فهناك امرأة استهواها الاستماع إلى صوت شاب، أو العكس، وسرعان ما يندفع الواحد منهم لسماع المزيد من الكلمات العاطفية، وإذا بهما وقد وجدا نفسيهما ينغمسان في عالم الانحراف والانحطاط. من هنا على المرء أن يكون حذرًا، يقول أمير المؤمنين : (الشهوات مصائد الشيطان)[7] .
قد تكون بداية الانحراف خطوة صغيرة، أو خطأ يبدو للوهلة الأولى تافهاً. فقد يرتاح أحدهم لمجرد سماع صوت ناعم، أو رؤية صورة جميلة، فيتواصل مع الجنس الآخر برسائل عاطفية، لكن هذا بالتحديد هو ما قد يكون طريق الانحدار، فإنما هي رغبة بسيطة فيما تبدو، ولكنها قد تقود الإنسان الى منزلق عميق وهاوية سحيقة. وقد ورد في هذا السياق عن أمير المؤمنين قوله : (حلاوة الشهوة ينغصها عار الفضيحة)[8] . وإلا فما الذي يدفع رجلاً محصناً متزوجاً ولديه أبناء، نحو الوقوع في مثل هذا الفخ، وإذا به ينتهي سجيناً، أو مبتلى بفضيحة اجتماعية وأخلاقية كبيرة. وقد قرأت لأحدهم أنه حينما وقع في فضيحة أخلاقية فإن أهون ما كان يعانيه هو ألم السجن والعقوبة، في مقابل ما كان يقاسيه من الخجل الكبير من أبنائه وبناته الذين كانوا ينظرون إليه باعتباره مثلهم الأعلى، وإذا به يقع في وحل الانحطاط الاخلاقي. والسؤال المهم هنا؛ ما الذي أوقع أمثال هذا في مثل هذا الفخ؟ وما الذي يدفع بامرأة متزوجة للوقوع في فضيحة والعيش مدى عمرها في عذاب الضمير لإقامتها علاقة محرمة عبر الماسنجر أو رسائل الجوال مع أحد الغرباء؟ انما هي الرغبات والشهوات.
إن اتباع الشهوات يقود الإنسان الى المشاكل والفضائح. يقول أمير المؤمنين : (أول الشهوة طرب، وآخرها عطب)[9] ، عادة ما تكون الشهوة بمثابة الطرب الذي يرتاح إليه الشخص، ولكن في نهاية المطاف تكون الكارثة والفضيحة. وفي كلمة أخرى له : (كم من شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا)[10] ، فهؤلاء الذين يقيمون في السجون بسبب جرائم أخلاقية وسرقات وما أشبه، إنما كانت بسبب شهوات معينة قادتهم أخيراً إلى هذه المآزق والمشاكل والأزمات. ولذلك على الإنسان أن يكون حذراً، وأن يتجنب الوقوع في هذا الفخ، حتى يحتفظ بعزته وكرامته، فلا يكون وضيعاً بين عائلته وفي أعين الآخرين، والأسوأ من ذلك كله أن يكون منبوذاً عند الله تعالى. علينا أن نضع نصب أعيننا دائما كلمة أمير المؤمنين : (ما رفع امرئ كهمته، ولا وضعه كشهوته).
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم للخير والصلاح.
عن أنس عن رسول الله أنه قال: (إنما الأمل رحمة من الله لأمتي ولولا الأمل ما أرضعت أم ولدا، ولا غرس غارس شجرة)[11] . وعن أمير المؤمنين : (أعظم البلاء انقطاع الرجاء)[12] .
يحتاج الإنسان في هذه الحياة إلى التحلي بالأمل والرجاء من أجل تحيق آماله وتطلعاته. فللإنسان حاجات وتطلعات، وعادة ما تحيط به بعض المشاكل والأزمات، ولذلك فهو بحاجة ماسة إلى طاقة وقدرة نفسية تجعله يتحمل الصعوبات والمشاكل التي تواجهه في هذه الحياة، وتدفعه في الوقت نفسه للسعي من أجل تحقيق آماله وتطلعاته. هذه الطاقة النفسية التي يحتاجها الإنسان هي الأمل والرجاء.
كلما ارتفع منسوب هذه الطاقة في نفس الإنسان كان سعيه من أجل أهدافه وتطلعاته جاداً، وكان أكثر تحملاً لما يواجهه من مشاكل. وعلى النقيض من ذلك إذا تضائل منسوب الأمل أو انعدم في نفس المرء، فسيتضاءل حينئذ حماسه، وقد يصاب بالجمود، لأن الإنسان إنما يتحرك بالأمل، الذي هو مثابة الوقود والمحرك النفسي. من هنا جاء التأكيد على أهمية التشبث دائما بالأمل والرجاء.
إن من أهم العلائق التي تجعل نفس الإنسان عامرة بالأمل والرجاء هي الارتباط بالله تعالى. فذلك يعني أن المرء متصل بالله الرؤوف الرحيم والمعين لعباده، والقادرالذي بيده أزمة الامور. وهذا بلا ريب يملأ نفس الإنسان بالأمل والتفاؤل.
منبعان للأمل:
تشكل الثقافة السليمة إلى جانب البيئة الاجتماعية الصالحة منبعين للأمل لا ينضبان. وتتفرع الثقافة السليمة عن الايمان الديني، والتوجه الروحي، والوعي بالحياة وأمورها. وإلى جانب ذلك البيئة الاجتماعية الصالحة، فإذا عاش الإنسان في بيئة فيها درجة من التماسك والمواساة والتلاحم، فإن نفسية مثل هذا الانسان عادة ما تكون عامرة بالأمل، أما إذا عاش في مجتمع أناني متفكك متشرذم، وفي ظل أوضاع سياسية متردية، وحالة اقتصادية راكدة، فإن ذلك مما يضعف منسوب الأمل في نفسه.
إن انخفاض منسوب الأمل عند الإنسان يمثل الدافع نحو الكثير من المساوئ، ومنها الإقدام على الانتحار. فإذا اسودت الدنيا في عين امرء، ولم ير سبيلاً لتحقيق ما يتمناه، ولم يجد تعاطفاً مع آلامه، ولا مساعدة لحل مشاكله، فإنه يصاب عندها باليأس والقنوط ، فتدفعه هذه الحالة النفسية المتردية نحو مخاطر كثيرة عليه وعلى مجتمعه، ومن تلك المخاطر الاقدام على الانتحار ووضع حد لحياته. وهذا من أعظم البلاء كما يقول أمير المؤمنين : (أعظم البلاء انقطاع الرجاء). فقد يلجأ الإنسان إلى أقرب أبواب الأمل، والتعلق بأدنى شيء ينجيه مما هو فيه، فهو بذلك يعيش على هذا الأمل، وذلك بخلاف من لا يجد له ملجأ يأوي اليه، فيختار عندها إنهاء حياته بالانتحار، إنه بطبيعة الحال أمر محرم ولا يجوز من الناحية الشرعية ، فمن غير الجائز دينياً أن يصاب المرء باليأس والقنوط فأبواب رحمة الله أكثر سعة من أكبر تصوراتنا.
لقد تزايدت في عصرنا الراهن ظاهرة الاقدام على الانتحار في مختلف أنحاء العالم. وحسب احصائية دولية هناك على المستوى العالمي نحو مليون شخص يقدمون على الانتحار سنوياً، أي بمعدل حالة انتحار كل أربعين ثانية. والسببان الرئيسان لذلك هما: غياب الثقافة الروحية، واستحكام الأزمات الحياتية أمام الناس، في ظل غياب أي بصيص أمل أو مخرج منها. ومن هنا يلاحظ تزايد حالات الانتحار في المجتمعات المادية أكثر من تلك التي تحظى بأجواء ايمانية على نحو ما، والأمر سيان مع المجتمعات التي تعاني من المشاكل والأزمات الحياتية.
ومما يوجب التأمل راهنا هو تصاعد حالات الانتحار في مجتمعاتنا الاسلامية. وذلك يشمل بطبيعة الحال بلادنا، فهناك تصاعد مطرد في حالات الانتحار. ان من المثير للاستغراب تزايد نسب الانتحار في مجتمع ديني محافظ كمجتمعنا، ونشأة الفرد منذ نعومة اظفاره على الحالة الدينية، بدء من العائلة، ومروراً بالمناهج التعليمية في المدارس، وصولاً للخطب الدينية في المساجد، فالمجتمع على نحو العموم تسوده الأجواء الدينية، فلماذا تحصل فيه حالات انتحار؟ وعلاوة على ذلك تمتع بلادنا بثروات هائلة، فلماذا يعيش الناس في هذا البلد الثري أزمات تدفع بعضهم الى الانتحار؟ يبقى ذلك مثار تساؤل كبير.
والأشد غرابة هو ما تشير اليه الاحصاءات الرسمية من تصاعد مطرد في حالات الانتحار عاماً بعد آخر. فقد تضمنت الاحصائية التي أصدرتها وزارة الداخلية السعودية حول حالات الانتحار في العام 1430هـ ما يناهز 787 حالة انتحار، أي بمعدل حالتي انتحار يومياً، متجاوزة بذلك عدد حالات الانتحار في العام الذي سبقه بـ 39 حالة، ويشمل ذلك الرقم المواطنين والوافدين الأجانب، فلماذا يحصل هذا في بلدنا؟ لماذا يأتي الوافد إلى مجتمعنا المتدين والثري ثم يقدم على الانتحار؟ مع أن من المفترض أن يعيش الوافدون مرتاحين في بلادنا، إن اقدام الوافدين على الانتحار يعني أن هناك خللاً كبيراً في مجتمعنا.
ان وقوع أغلب حالات الانتحار في بلادنا في الوسط الشبابي لهو مؤشر آخر على وجود خلل أكبر. فهناك بحسب الاحصاءات 84 % من حالات الانتحار في المملكة يروح ضحيتها شبان لم يتجاوزوا 35 عاماً من العمر. ويبقى السؤال؛ ما الذي يدفع بشاب يعيش في مجتمع مسلم محافظ ينبغي أن يزوده بالثقافة الدينية السليمة، وبزخم روحي يعمر قلبه بالأمل والرجاء، علاوة على حجم الثراء المادي الكبير، والدخل الوطني الذي بلغ أرقاماً قياسية، فكيف لهؤلاء الشباب أن يقدموا على الانتحار؟. إن هذا مؤشراً على وجود خلل كبير ينبغي أن تقرع لأجله الأجراس.
والملفت ان نسبة 58 % من المقدمين على الانتحار هم من الذكور فيما تمثل الاناث نسبة 42%. غير أن الأكثر إثارة للقلق هو ما تشير اليه بعض الدراسات من أن حوالي 20% من حالات الانتحار لا يتم تسجيلها ضمن الإحصاءات الرسمية لاعتبارات عائلية واجتماعية. ومعنى ذلك أن الأرقام التي تصدرها وزارة الداخلية عن عدد حالات الانتحار لا تحكي عن واقع الحالة الذي هو أكبر من هذه الأرقام فهناك حالات لا تسجل رسمياً، وإنما تصفى في مراكز الشرطة.
أسباب الانتحار:
الأول: تعثر الإصلاح السياسي والإداري
تمثل حالة الانسداد وتعثر الإصلاح السياسي والإداري أحد أسباب تزايد حالات الانتحار في البلاد. ذلك ان تعثر مسيرة الإصلاح تعني بقاء الفساد المعشش، الذي يعد بدوره سببا رئيساً لجملة من الأزمات وعلى رأسها تفشي البطالة وانتشار الفقر والحرمان خاصة لدى جيل الشباب. ان كثيرا من الشباب الذين يشكلون غالبية سكان البلاد يعانون من أزمات حياتية مريرة، فقد بات البحث عن الوظيفة مهمة شاقة، أما الحصول على سكن فقد أصبح أمنية شبه مستحيلة، حيث إن أكثر من 70% من مواطني المملكة لا يمتلكون سكنًا خاصا، في بلد حباه الله بمساحات شاسعة، وأراض مترامية، في مقابل امتلاك أشخاص من النافذين لملايين الأمتار من الأراضي. ان عدم تمكن هذا الشاب من الحصول على مجرد شقة سكنية يقطن فيها مع أسرته قد يدفع به نحو الانحراف وأحد أشكال ذلك هو الاقدام على الانتحار.
الثاني: الانغلاق الاجتماعي
لا تعود أسباب الانتحار في وسط الشباب إلى الأزمات المادية وحدها فللانغلاق الاجتماعي نصيب وافر. اذ تشير الاحصائيات إلى أن 16% من المنتحرين هم من الموظفين، و18 % يحملون شهادات جامعية. ومعنى ذلك أن هناك أسبابا أخرى ينبغي أخذها بعين الاعتبار، ومنها الانغلاق الاجتماعي الذي يلقي بظلاله القاتمة على النساء خاصة. ان سوء المعاملة داخل العائلة، وفرض الوصاية والهيمنة الذكورية على الفتيات دفعت ببعضهن للاقدام على الانتحار، وقد أشرنا فيما سبق إلى طرف من المشاكل التي تواجه الفتيات، ومنها منعهن من الاقتران بمن تجده احداهن كفؤا لها، الأمر الذي حذا ببعضهن نحو خيار التخلص من الحياة. وقد قرأت أن مستشفى القطيف المركزي يستقبل عدداً من الحالات لفتيات وزوجات حاولن الانتحار بسبب ما لقينه من سوء المعاملة والعنف العائلي، وانسداد الأفق في حياتهن.
الثالث: الوضع السيئ للعمالة الوافدة
ان معاناة العمالة الوافدة في بلادنا من سوء المعاملة تعد أحد أسباب لجوء بعضهم للانتحار. فهؤلاء الوافدون من عاملين في المؤسسات والشركات، أو خدم وسائقين في المنازل يقبلون على بلادنا من أجل توفير لقمة العيش لأنفسهم ولعوائلهم، فيواجه البعض منهم ظروفا صعبة، تتمثل في سوء المعاملة، وتأخر دفع رواتبهم الشهرية، ولقد قرأنا مؤخرا ما تناولته الصحف عن ذلك الرجل الذي حبس عامله من الجنسية الهندية 18 سنة في مزرعة نائية بقرية قعر الذيب بالنفود بمحافظة حائل دون أن يدفع راوتبه الشهرية، ولم يسمح له بالسفر إلى بلاده، ولا حتى بالاتصال بعائلته!. ان معاملة من هذا القبيل هي ما تدفع بعض هؤلاء إلى الاقدام على الانتحار. إن هذا النوع من التعامل يمثل ظلما فظيعا، ورد عن الامام علي : (ظلم الضعيف أفحش الظلم)[13] ، (وإياك وظلم من لا يجد عليك ناصرًا إلا الله)[14] ، نحن في بلد حباها الله بالخير والبركات وهي مهبط الوحي، فلا يصح أبدًا أن تحصل فيها مثل هذه الحالات.
نسأل الله أن يصلح أمورنا وأمور بلاد المسلمين.