متى ينزل الخطاب الديني من الحلم إلى الواقع؟
مساء الخميس الماضي، كنت في أحد أفنية الحرم الرضوي، حيث يغصّ بأعداد غفيرة من الزائرين العرب حيث يجتمعون لصلاة الجماعة وللبرامج الدينية المختلفة.
بعد الصلاة، كانت الفقرة للخطابة المنبرية، فصعد الخطيب وأخذنا معه في رحلة استمرت 40 دقيقة. كان يجيد فنون الخطابة، ولكن ما أحزنني هو المحتوى الذي أفرغه الخطيب بمحضر هذا العدد الهائل من الزائرين.
تمنيت أن يكون للمكان حضور في الخطاب يدفع للتميز في هذا المنبر عن المنابر المكرورة التي اعتادها الناس في مناطقهم. تمنيت لو أخذ في حسبانه قوة الإقبال الروحي التي يمتلئ بها الزائرون لهذه البقاع. وددت لو نظر الخطاب إلى تفرغ الزائرين وصفاء عقولهم وقلوبهم من ضغوط الحياة اليومية، ومشاكل العمل الروتينية. وجال سؤال كبير في فكري: متى ينكفئ الخطاب عن الأحلام والمنامات والرؤى، والخيالات التي تحتمل الصدق وتحتمل الخرافة والوهم؟ متى يعود لملامسة واقع الناس وحياتهم، وما يمكن أن يفعلوه، وما لا يمكن واقعاً وحقيقةً وليس مناماً وأحلاماً.
في اليوم التالي، خطر لي أن أذهب قبل الصلاة لألتقي بإمام الجماعة وأقدم له بعض العناوين التي أراها مناسبة للحديث في صحن الغدير، مع إدراكي أن اطلاع الخطيب وغناه وزاده هو الذي يثري العنوان ويعطيه معناه ويوصله إلى غايته، وكانت هذه بعض المقترحات التي عرضتها.
الأول: ما أحوجنا إلى الحديث عن بناء الذات وتنمية الكفاءات، وتعزيز القدرات في أنفسنا ومجتمعاتنا، فكل واحد منا يملك طاقات كبيرة تمكنه من القفز والتقدم، والأمر منطبقٌ بتمامه على المجتمعات كما هو على الأفراد.
المجتمعات التي فجّرت كفاءاتها وطاقاتها وحثت حراكها نحو العلم والمعرفة، استطاعت أن تصل وتثبت وجودها، وحينها زادت ثقتها بقيمها وتعاليم دينها، لأن الدين عندها لم يعد متهماً بالتخلف والرجعية والفقر والحاجة والعوز، فاستغنت عن تقريب الناس لدينهم ومعتقداتهم وقيمهم بقصص ما أنزل الله بها من سلطان كما هو الغالب.
المجتمعات النامية والمتقدمة والقوية تشغل العالم بمعتقداتها ورؤاها، بل هي قادرة على تصدير تلك المعتقدات والأفكار، فقوتها إشارة خضراء وورقة فاعلة، تمنحها الاحترام لدى الآخرين، وفي داخلها تضفي على أفرادها المعزة والفخر.
الثاني: يهز العالم العربي ما يعرف بالربيع العربي، وهو لايزال متموجاً في ساحات عديدة، لكن أخطاره بدت ظاهرة في ليبيا وسورية وحتى اليمن، وقبلهم السودان، فمحاولات التفتيت والتمزيق والبعثرة هناك من يعمل عليها ويسعى لأجلها.
من هنا تزداد حاجتنا للخطاب الناجح عن الوحدة والوقوف في وجه الفتنة بمختلف مسمياتها وعناوينها، الدينية منها وغير الدينية، فكلما كان المنطلق في صناعة الوحدة هو الدين والمصالحة الواعية والمشتركة للعرب والمسلمين عموماً، كلما كنا أقدر على التحمل والمواجهة لمخططات التمزيق بوعينا وإدراكنا لخفايا الأحداث، والمخططات التي تحيكها الأيدي الآثمة والمعتدية على قيمنا ومصالحنا، واستطعنا بذلك أن نفوّت فرص الأعداء في النيل من كرامتنا جميعاً، عرباً ومسلمين.
إن تحميل الناس مسئولية الوحدة والعيش المشترك ودفعهم للمساهمة فيها قولاً وكتابةً ونصيحةً وتعليماً وتثقيفاً وتربيةً وممارسةً، هو الذي يحوّلها من خندق الشعار إلى ساحة التطبيق والواقع، وهو الذي يصنع السد المنيع في وجه المخططات التي لا تريد لمجتمعاتنا الأمن والأمان.
الثالث: في حضرة الإمام وذكره وقراءة سيرته، لابد من الاقتراب من حياته العادية أكثر من أي أمر آخر، لعل أحدنا يفكر في تقمص بعضها أو جزء يسير منها، لأنها حياة وسيرة من زاويتها البشرية ولذلك يمكن أن يقتدى بها.
إن التركيز على الإعجاز في حياة الأئمة يُشعر المستمع بالفخر بهم، لكنه غير قادر على تحويل هذا الفخر إلى المتابعة والمسايرة والاقتداء، والقرآن الكريم يحثنا على الأسوة «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»، ولازم هذه الأسوة هو التعرف على حياته وسيرته في مسارها الطبيعي الخارج عن الإعجاز الثابت له . وللحديث بقية.