كيف نستقبل شهر رمضان؟
ينبغي للإنسان أن يهيئ نفسه لاستقبال الأمور المهمة في حياته وأن لا يتعامل معها بعفوية واسترسال. فإذا أراد أن يلقي كلمة - مثلا- فعليه أن يعمل للتحضير لها جيدا، وعلى غرار ذلك إذا أراد أن يحضر اجتماعاً فيجب أن يُعد نفسه ويرتب أفكاره، وكذلك الحال إذا أراد أن يقابل شخصاً مهماً فعليه أن يفكر فيما يمكن أن يتحدث فيه معه. إن من يستعد ويتهيأ لاستقبال الأمور فسيكون أقرب إلى النجاح في أموره، فشتان بين من يحضر اجتماعاً وقد أعد حديثه ورتب أفكاره بصورة منهجية جيدة، وبين آخر يفاجئه ما يطرح الآخرون دون أن يستعد ذهنياً ونفسياً للتفاعل مع أطروحاتهم، أو يكون مبادراً في طرح الأفكار وقضايا النقاش. إن الإسلام يربي الانسان على التحضير وإعداد النفس في كل الأمور حتى ينجح فيها وحتى يستثمرها ويوظفها بالشكل السليم. ولا أدل على ذلك من حثّ الشريعة للإنسان المسلم على التحضر والتهيؤ للعبادات اليومية بالتزام الآداب والمستحبات، كما ينسحب الأمر ذاته على الأعمال والممارسات العادية للمسلم، فإذا قرأنا كتب الآداب والسنن فسنجد الكثير من التوجيهات حول آداب شرب الماء وأكل الطعام والوضوء والصلاة، بل لا تستثني آداب دخول بيت الخلاء، كل ذلك حتى يتعود المرء على الاستعداد والتهيؤ لأي أمر في حله وترحاله.
إن شهر رمضان ليس زمناً عادياً بالمعيار الإلهي، بل هو زمن مميّز مبارك وعظيم عند الله. من هنا نفهم النصوص الكثيرة التي توجه المسلم لاستقبال شهر رمضان المبارك. إن على المسلم أن يتهيأ نفسياً وعملياً لاستقبال هذا الشهر الكريم. ويندرج في هذا السياق ما ورد عن الإمام الرضا ، فقد روى عبدالسلام بن صالح الهروي قال دخلت على أبي الحسن علي بن موسى الرضا في آخر جمعة من شعبان فقال لي يا أبا الصلت: إن شعبان قد مضى أكثره وهذا آخر جمعة منه فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل، ولا تدعن أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقدًا على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنبا أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه، واتق الله وتوكل عليه في سر أمرك وعلانيتك[1] . كما ورد عن رسول الله خطبته الشهيرة في المسلمين قبيل شهر رمضان والذي جاء فيها (أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفساكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب)[2] . هذه النصوص والأدعية الواردة في استقبال شهر رمضان وعند رؤية الهلال كلها تصب في سياق التهيؤ لاستقبال هذا الشهر الكريم.
وضمن إطار التهيؤ للشهر الفضيل تركز لنصوص على جملة أمور عملية ومنها:
أولاً: أن يراجع الإنسان نفسه ويصحح أخطاءه. فقد حثت النصوص الشرعية الإنسان المسلم على استباق الشهر الفضيل بإعلان التوبة والأوبة الى الله من ذنوبه ومعاصيه، وذلك حتى يدخل إلى الشهر الكريم وهو نقي من الذنوب والآثام، وورد في الرواية (وتب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل)، ينبغي للمرء أن يتفكر لحظات يحصي فيها أخطاءه وذنوبه، ثم ليقرر الاقلاع عنها، فالتوبة تعني الإقرار بعدم العودة للذنب والخطأ.
ثانياً: أداء حقوق الناس. وذلك بأن يقرر المرء قبل حلول شهر رمضان، أن يؤدي الحقوق المادية والمعنوية للناس، فإذا كان للناس عليك حقوق مالية فبادر لدفعها وتبرئة النفس منها، ويعجب الإنسان من القادر على أن يعطي الآخرين حقوقهم ولا يبادر لفعل ذلك، ويشمل ذلك بطبيعة الحال الحقوق الشرعية، فهي لله تعالى من جهة وللناس من جهة أخرى. إن على الإنسان أن يصفي هذه الحقوق لأنه مقبل على الصيام فليكن افطاره على طعام ورزق حلال. وقد ورد عن رسول الله : (كلوا الحلال يتم لكم صومكم)[3] ، ذلك ان من يحمل على عاتقه حقوق وأمانات الآخرين فيأتيه شهر رمضان فلا يصفي هذه الحقوق التي عليه، فيخشى أن يكون ماله مشبوها في كثير من الحالات. وورد عن النبي الأكرم حديث آخر جاء فيه: (العبادة مع أكل الحرام كالبناء على الرمل)[4] ، إن البناء على الرمل لا يثبت بل هو أقرب للزوال، وهكذا ثواب العبادة التي يتبعها أكل الحرام فهو معرض للتلاشي والانتهاء.
ثالثاً: تطهير القلوب من الأحقاد. اذ ينبغي على المسلم أن يستقبل شهر رمضان المبارك بالصوم والدعاء والمناجاة والعبادة بقلب نقي طاهر، أما إذا كان قلب المرء أسوداً يحمل الحقد على هذا وذاك، فإن هذا القلب لن يجلب النظرة الإلهية ، فالله تعالى لا ينظر إلى ذوي القلوب السوداء المليئة بالحقد. من هنا فإن على المرء أن يصفي نفسه من الأحقاد في هذا الشهر الفضيل. ورد عن الإمام الرضا (في أول ليلة يغل المردة من الشياطين ويغفر الله في كل ليلة لسبعين ألف فإذا كان في ليلة القدر غفر الله لمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم، إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله عز وجل أنظروا هؤلاء حتى يصطلحوا)[5] ، فلماذا يحرم الإنسان نفسه من مغفرة الله ورحمته لمجرد أنفة وحمية تحجزه عن حل مشكلة مع أخيه.
رابعاً: ينبغي للمسلم أن يضع لنفسه برنامجاً عبادياً خلال الشهر الكريم. فلا ينبغي أن يكون يوم صومك كيوم فطرك، فأين برنامجك لقراءة القرآن الكريم وأينك عن الدعاء والعبادة وصلاة النوافل وصلة الرحم ومساعدة الفقراء وطلب العلم والمعرفة. للقيام بجل هذه الأمور ينبغي أن يضع الإنسان لنفسه برنامجاً يستثمر خلاله هذا الشهر الكريم.
نحمد الله تعالى أن بلغنا وإياكم شهر رمضان المبارك، ونسأله تعالى أن يبلغنا صيامه وقيامه وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والطاعات. وأن يوفقنا وإياكم للاستفادة من بركات هذا الشهر الكريم.
إن من أبرز معالم المنهجية الوعظية الاسلامية أن يكون الإنسان جادًا في مواجهة الأخطاء والخلل. فالنصوص الدينية الواردة ليست مجرد ارشادات أخلاقية وحسب، وإنما إلى جانب ذلك تعد توجيها إلى المنهجية السليمة في التعامل مع مختلف الأمور والقضايا. وبخلاف ما يجري من تساهل بعض الناس بالأخطاء والثغرات ونقاط الخلل في هذا الموضوع أو ذاك، تشدد النصوص الدينية الى أن يهتم الإنسان بأي خطأ مهما بدا صغيرا أو حقيرا. وورد في الرواية عن رسول الله أنه قال: (إياكم والمحقرات من الذنوب فإن لكل شيء طالبا)[6] ، وتنطوي الرواية على الحث على عدم التساهل بالذنوب مهما بدا صغرها، فلا ينبغي للمرء أن يحتقرها أو يستهين بها، وتشدد على أن هذه المنهجية خاطئة، وورد عن الإمام الباقر : (لا مصيبة كاستهانتك بالذنب ورضاك بالحالة التي أنت عليها)[7] ، وفي رواية أخرى: (لا تستصغرن سيئة أنت تعمل بها فإنك تراها حيث تسوؤك)[8] . من هنا فلا ينبغي الاستهانة بأي خطأ، وإنما ينبغي أن تكون لدى المرء منهجية واضحة في التعامل معه.
لا تكمن مسألة المعاصي في كبر أو صغر الذنب، وإنما يكمن جوهر المسألة في عظم من نعصيه وهو الله سبحانه. اذ كيف يتجرأ المرء على معصية خالقه؟. ولهذا ورد في الحديث عن رسول الله : (لا تنظروا إلى صغر الذنوب ولكن أنظروا إلى من اجترأتم)[9] . وعلاوة على ذلك فإن الاقدام على المعصية يجرّئ المرء، إذا استهان بذنوبه، على اقتراف المزيد من الذنوب الأخرى، وورد في هذا الشأن عن الإمام الرضا : (من لم يخف الله في القليل لم يخفه في الكثير)[10] .
وينسحب ذات المفهوم على علاقة الإنسان مع نفسه، فلا ينبغي التساهل ازاء ذلك. فلو انتاب أحد ما علة أو مرض مهما صغر، فلا ينبغي أن يتركه دون علاج حتى يستفحل، بل هو مأمور بالمبادرة للعلاج فورا، فإذا ترك هذا المرض القليل فلربما تفاقم وأصبح مرضا عضالا، فلا يستهينن أحد بوضعه الصحي، وعلى غرار ذلك مختلف الشؤون الشخصية.
كما ينطبق ذات الأمر على المستوى الاجتماعي، فلا ينبغي أن يستهين المرء بأي مشكلة مع أي أحد من الناس. إن هناك من الناس من يستهين بالآخر، لا لشيء إلا لأن ذلك الآخر لا يشكل خطراً ولا يستطيع أن يفعل شيئا، وهذا غير صحيح. يقول الإمام زين العابدين في هذا الصدد: (لا تعادين أحداً وإن ضننت أنه لا يضرك، ولا تزهدن صداقة أحد وإن ضننت أنه لا ينفعك، فإنك لا تدري متى ترجو صديقك، ولا تدري متى تخاف عدوك)[11] .
وهكذا ينبغي أن تُلتَزم منهجية المبادرة لعلاج المشكلات على مستوى الأمم والأوطان. فلا يكاد يخلو بلد من مشاكل قلت أو كثرت، ولكن الفرق يكمن في التفاوت في مدى استجابة هذا البلد أو ذاك لتحدي علاج المشكلات المستديمة والطارئة، فهناك حكومات تولي مشاكل بلدانها العناية الفائقة، فتسلط الأضواء على ازماتها وتبحثها بصورة جادة وتنقب عن حلول حقيقية ومبادرات فاعلة للخروج منها، فهي بذلك إنما تحاصر المشكلات قبل تفاقمها، أما بعض الحكومات فإنها غالبا ما تؤثر الصمت وغض الطرف عن مواجهة الأزمات، فتراهم يستهينون بها، ويلتفون عليها، فإذا بالمشاكل تكبر وتتفاقم حتى تكون المعالجة عندها أصعب والخروج منها أخطر.
ومن أسف نقول إن أشد خلل تعاني منه بلداننا العربية والإسلامية هو غياب المنهجية في علاج الأزمات. إن مجتمعاتنا تئن تحت وطأة العديد من مشاكل الفقر والبطالة والتمييز بمختلف أشكاله، وأزمات لا حصر لها، وعوضاً عن أن نجد المواجهة الجادة لهذه المشاكل، لا نجد سوى سياسة قائمة على غض الطرف عن هذه المشكلات، ولو فتشنا عن تفسير لهذا الأمر لوجدنا أن المسؤولين الرسميين مشغولون بذواتهم، ولفرط أنانيتهم لا يكاد الواحد منهم يشعر بأدنى قدر من معاناة الآخرين، وكأن لسان حاله يقول، ما دامت مشاكل التمييز والفقر والبطالة والإسكان وغيرها بعيدة عني فلا تستحق مني الاهتمام. إن الاشخاص الذي يتبوؤون موقع المسؤولية ينبغي أن يستشعروا آلام من هم تحت مسؤوليتهم، لكن ونتيجة لانشغال هؤلاء بهمومهم الخاصة، فإنهم غالباً ما يتركون المشاكل تزداد وتتطور حتى تتفجر، وحينئذ يكون العلاج أصعب وأخطر. إن غياب المنهجية الواضحة في معالجة الأزمات هي "أم المشاكل" في أي بلد وداخل أي حكومة.
إن من غير الصحيح مراهنة بعض الحكومات على عنصر الزمن في تجاوز المشكلات. إذ كثيراً ما نجد بعض المسؤولين يراهنون على تحمل الناس وتكيفهم وتعايشهم مع المشاكل، وفي ظن هؤلاء المسؤولين أن هذا هو السبيل لتجاوز الازمات، ولكن هذا الكلام غير سليم، سيما في هذا العصر، فالناس بدءوا يعون ما لهم وما عليهم، وإذا كانت الأجيال السابقة تسكت وتتكيف مع الأزمات فإن الأجيال الصاعدة بخلاف ذلك تماماً، فقد أصبح الناس يتمسكون بحقوقهم ويجهرون بمعاناتهم، ويمارسون الضغوط من أجل الخروج من أزماتهم. ولذلك فإن مراهنة الحكومات على تقطيع الوقت للخروج من الأزمات منهجية غير ذات جدوى وغير مضمونة العواقب.
ثمة هناك بعض الحكومات تجهد في محاولة القاء المسؤولية عن الأزمات على أفراد أو جهات بعينهم. هذه الحكومات يحلو لها اختزال بعض القضايا الكبرى بأطراف بعينها، فإذا تحدث شخص ما أو حركة من الحركات عن مشكلة، فإن الحكومة وعوضا عن أن تهتم بمعالجة المشكلة نفسها، تجدها تختزل المشكلة في هذا الشخص أو تلك الحركة وتتناسى جوهر الأزمة!، ويتوهم هؤلاء أنهم إذا قضوا على هذا الطرف أو اعتقلوه أو اسكتوا هذه الحركة أو ذاك الحزب، فإنهم بذلك يُنهون الموضوع. غير أن الحقيقة هي أن الأزمات لا تنتهي ما دامت جذور المشاكل قائمة، فقد يتغير الأشخاص او الجهات المعبرة عنها، إلا انه إذا سكتت جهة فستأتي جهات أخرى، وإذا ما اعتقل شخص أو مات فسيأتي آخرون، ذلك أن القضايا الكبرى ليست مرتبطة ارتباطاً عضوياً بأشخاص بعينهم. ولذلك ينبغي معالجة المعاناة الحقيقية عند الناس بالتوجه مباشرة لعلاج تلك المشكلة واقتلاع تلك المعاناة. إن الأحداث المتصاعدة، والأشخاص الذين يجهرون بالمشكلة، سواء أصابوا في طريقتهم أو أخطأوا، هؤلاء ليسوا هم جوهر المشكلة كما يحاول البعض الايهام بذلك، وإنما هناك مشكلة عبر عنها هؤلاء، فإذا لم تعالج ستبقى تتفجر بصورة أو أخرى، وهذا ليس في مصلحة الوطن.
نحن ندعو المسؤولين في بلادنا العربية والإسلامية إلى الالتفات لمشاكل شعوبهم، ومضاعفة الجهود لمعالجة الفقر والبطالة وضعف الخدمات والتمييز بين الناس وسائر المشاكل المختلفة. ينبغي المراهنة على معالجة هذه المشاكل، والنأي عن المراهنة على الالتفاف، أو الاعتماد على عنصر الزمن في تجاوز الأزمات، فلم يعد الأمر كذلك، فقد أصبح العالم منفتحاً وأصبحت هنالك قوى تبحث عن النفوذ باستثمار الأزمات التي يعاني منها هذا الشعب أو ذاك، ولذلك ينبغي من أجل تحصين استقرار الوطن وأمنه المبادرة لعلاج المشاكل التي يعاني منها الناس، وانتزاع فتيل الأزمات القائمة قبل فوات الأوان.
نسأل الله أن يصلح ما فسد من أمور المسلمين.