الخطبة الثانية: التجديد في قراءة سيرة أهل البيت (ع)
محاصرة المعصية
وضعت الشريعة وسائل عديدة لتحصين المجال الاجتماعي، ومنها التشديد على ضبط السلوك الفردي، لتقييد ومحاصرة المخالفات والمعاصي من الافشاء والانتشار. فالمعصية جرم عظيم يجترئ من خلالها العبد على ربه وخالقه. فقد تغلب الإنسان شهوته وجهله، وتضعف إرادته، فيتجرأ على معصية خالقه جل وعلا، ذلك المنعم الخالق الموجد الذي له حق الشكر والطاعة على عبده. وهو سبحانه إنما توجه بالأوامر والنواهي رحمة بعبده المحتاج إلى لطفه ورحمته، لكن هذا العبد مع ذلك يجنح نحو التمنع وعدم الامتثال لهذه الأوامر والنواهي التي إنما وضعت لمصلحته. ان المعصية جرم عظيم لا ينبغي للإنسان أن يقع فيه، ولذلك وجب أن تحاط المعاصي بهالة من التهيب والحذر في نفس الفرد، والمجال الاجتماعي العام على حد سواء. ولعل احد الأساليب التي وضعتها الشريعة لإيجاد هذه الهالة هو محاصرة المعصية.
العباد ليسو معصومين من ارتكاب الأخطاء، لكنهم مطالبون في المقابل بالتزام الستر والحد من إفشاء مخالفاتهم ومعاصيهم على الملأ. فإذا حصلت المعصية فينبغي أن تحاصر ضمن نطاقها الأضيق والمحدود جداً، وذلك بالحرص على أن لا ينتشر خبرها؛ لأن من تداعيات الافشاء بالمخالفات والمعاصي، أن تخف وطأتها على النفوس الأمر الذي يجعلها أمرا اعتيادياً مألوفا. ان الله تعالى يريد أن تبقى المعصية محاطة بهالة من الحذر والتهيب في الوسط الاجتماعي العام، فلا تكون مبتذلة وكأنها أمر طبيعي يمكن أن يطال أي أحد.
من هنا نستطيع أن نفهم كيف جاءتنا النصوص والتعاليم الدينية مشددة على ضرورة أن يتكتم المرء على معاصيه التي يقع فيها، وأن لا يجهر بها، فالإجهار بالمعصية ذنب آخر يضاف إلى جانب المعصية. فقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : (مجاهرة الله بالمعاصي تعجل النقم)[1] ، وورد عنه : (إياك والمجاهرة بالفجور فإنها من أشد المآثم)[2] ، أنه من الإثم الكبير أن يقع الإنسان في المعصية ثم يجاهر بما فعل، فالمرء مأمور بالتستر على مخالفاته ومعاصيه، ذلك إن افشاء المعصية يقود إلى تطبع النفوس بها فلا يتردد أحد بعد ذلك عن اقترافها جهرة. ولعل الأسوأ من ذلك، هو الانقياد نحو التبجح بفعل المعاصي، حتى أنك تجد بعض الناس يفاخرون بمعاصيهم كما لو أنهم حققوا عملا بطوليا يستحق الثناء عليه!، وهذا جرم أكبر من لمعصية ذاتها. يقول أمير المؤمنين : (التبجح بالمعاصي أكبر من ركوبها)[3] ، وعنه في رواية أخرى: (لا وزر أعظم من التبجح بالفجور)[4] .
إن على المرء أن ينأى بنفسه تماماً عن الحديث عن معاصيه التي سبق وأن تورط فيها. وقد روي في هذا السياق عن الإمام الرضا عن جده المصطفى : (المذيع بالسيئة مخذول والمتستر بها مغفور له)[5] ، فذلك الذي أخطأ ووقع في المعصية فإن الله قد يغفر له، ولا يعني ذلك بالضرورة مبررا لأن يستسلم المرء للمعاصي باستمرار، فيقترف الذنوب في الخفاء ويتستر عليها، اذ ينبغي من حيث الأصل أن يحذر المرء الوقوع في المعصية في السر والعلن، ولكن لو حصل ووقع في المعصية فهو مطالب بالتستر والنأي عن إفشاءها على أي نحو من الأنحاء.
وقد يجد بعض الناس أنفسهم تحت ضغط هائل من تأنيب الضمير بعد ارتكاب المعصية فيندفعون لإفشاء أسرارهم بغية التنفيس، إلا إن ذلك غير صحيح. فأوامر الشارع في هذا الشأن صريحة، نحو القطع بعدم الحديث عن المعاصي والأخطاء الشخصية أمام أي أحد كان وتحت أي مبرر. وقد روي عن رسول الله أنه قال: ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين)[6] ، ويقول (وإن من الإجهار أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، فيصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه)[7] . وفي رواية أخرى عنه : (اجتنبوا هذه القاذورة ـ المعاصي ـ التي نهى الله عنها فمن ألم فليستتر بستر الله )[8] . ولذلك يظل ستر المعاصي مطلبا أساسيا فلا مبرر لإفشائها مهما كانت الأسباب.
وأبعد من ذلك، ذهبت الشريعة إلى النأي عن إفشاء المعاصي حتى لغرض التطهر عبر إقامة الحدود. فقد يتساءل البعض عن حقوق الله التي انتهكها خصوصا تلك التي وردت فيها الحدود والتعزيرات، فهل ينبغي على مثل هؤلاء أن يتقدموا للحاكم الشرعي ليقيم عليهم الحد؟ يأتي الجواب القطعي هنا؛ لا يطلب الشارع من الإنسان فعل ذلك، بل الوارد هو النهي عن الاقدام على مثل هذا السلوك، فقد أتى النبي صلى الله عليه وآله رجل فقال: إني زنيت [فطهرني] فصرف النبي صلى الله عليه وآله وجهه عنه فأتاه من جانبه الآخر ثم قال مثل ما قال، فصرف وجهه عنه، ثم جاء الثالثة فقال له: يا رسول الله إني زنيت وعذاب الدنيا أهون لي من عذاب الآخرة فقال رسول الله : أبصاحبكم بأس يعني جنة؟ فقالوا: لا فأقر على نفسه الرابعة فأمر به رسول الله أن يرجم [9] . وقد أراد رسول الله بذلك أن يلتمس له العذر وأن يمنحه فرصة لأن يستر على نفسه، ولكنه أبى إلا أن يقر على نفسه أربع مرات فكان لابد من إقامة الحد عليه.
وورد في سيرة أمير المؤمنين أن رجلا أتاه في الكوفة، فقال يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني، فقال له : اذهب حتى نسأل عنك، ثم عاد مرة أخرى وسأل نفس الشيء، وقال له الإمام مثل القول الأول، إلى أن أقر أربع مرات فقال لقنبر: احتفظ به، ثم غضب، وقال: ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملا، أفلا تاب في بيته، فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحد[10] . هكذا يريد الله من الإنسان أن يستر على نفسه، فلا تكون المعصية مبتذلة على المستوى الشخص أو الاجتماعي، ولذلك لم يرد في الشريعة ما يجري في الكنيسة المسيحية مثلا، بأن يأتي المذنب للكاهن ويعترف بين يديه بذنوبه حتى يطلب له المغفرة، فليس مطلوبا من المسلم أن يأتي للمرجع أو عالم الدين ويقر له بذنوبه، ان استفتاء العالم وطلب النصيحة والمشورة أمر مطلوب، لكن حتى لو اضطر السائل إلى ذلك فليكن على طريقة القول؛ ماذا لو أن شخصا ارتكب كذا، لا أن يقول أنا قمت بكذا واقترفت كذا.
كما لا ينبغي أن يفشي المرء مخالفاته حتى أمام الخلص من أصدقاءه. لأن ذلك سيخفف من وقع المعصية في نفوسهم، علاوة على ما سيترك في نفوسهم من أشياء غير مرغوبة تجاهه، وينسحب ذات الأمر على الأزواج ايضا، فقد ينجر بعض المخطوبين أو المتزوجين حديثا سواء الزوج أو الزوجة، نحو الحديث عن ماضيهم الخاص فيسرد أحدهما للآخر، بحسن نية، كيف فعل كذا أو قام بكذا!، وهذا خطأ فادح، إذ ليس مطلوباً من البنت ولا الشاب أن ينجرا إلى تقديم مثل هذه الاعترافات، علاوة على غياب أي مبرر شرعي لحديث من هذا القبيل، بل على النقيض من ذلك، المطلوب من الإنسان أن يستر على نفسه كما ستر الله عليه. فالله يريد من الناس أن يتعاملوا مع بعضهم البعض حسب ظواهرهم، ولذلك لم يأذن بالتجسس ولا البحث عن أحوال الناس الخاصة ونشر معايبهم، كما لا يسمح للإنسان نفسه أن يتحدث عن عيوبه هو أيضا. وقد رأينا آثار ذلك في بعض المشاكل، حيث تلجأ بعض الفتيات لإخبار خطابهن بما فعلن في الماضي، وكيف تبن عن ذلك لاحقاً، لكن بعض الشباب قد لا يتحملون ذلك، حتى لو كان هو نفسه قد وقع في ذنوب مثلها أو أشد منها، فلا يعود يرتاح لهذه الحالة ما قد يجر إلى انفصام عرى الحياة الزوجية.
وهكذا شددت الشريعة على محاصرة المعصية ومحاصرتها التكتم والتعتيم عليها.
لقد استغرقت سيرة الأنبياء مساحة واسعة في القرآن الكريم. حيث تحدث القرآن مفصلا عن عدد من الأنبياء والرسل، وما واجهوه من أقوامهم وما قدموه من تضحيات من أجل اعلاء كلمة الله. هذه القصص التي تحدث عنها الذكر الحكيم لم تأت للتسلية ولا للترفيه، وإنما جاءت لتحقق أغراضا عليا.
يقول تعالى: ﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ هذه الآية الكريمة تأتي لتلخص هدف ذكر قصص وسيرة الأنبياء في القرآن، اذ ان في ذلك تعزيزاً لقيم الخير ومواقف الصمود في نفس رسول الله ، وفي نفوس الأجيال المقبلة، ولاشك أن تلك الآيات التي تتحدث عن المواقف والآلام التي تحملها الأنبياء، وعن النتائج العظيمة التي حققوها انتصارا للقيم والمبادئ، فإن ذلك يعزز قيم الخير في النفوس. وهنا يأتي المقصود بتثبيت الفؤاد الوارد في الآية الكريمة. حيث يواجه الإنسان اختلافات وتشكيكات في مختلف شؤون الحياة، إلا انه سرعان ما يصبح قلبه أكثر اطمئنانا حين يقرأ سير الأنبياء والأولياء والمصلحين، فيدرك عندها أن التشابكات المختلفة إنما هي الحالة الطبيعية التي يمكن اعتبارها من مستلزمات الدعوة إلى الله.
كما تكشف هذه القصص كذلك عن الحقائق والمفاهيم الصحيحة للدين والحياة، وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة: ﴿وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ﴾، فهي تعطيك الحقائق الصادقة.
كما تقوم قصص الأنبياء من ناحية ثالثة بصناعة المشاعر الإيجابية في النفس، فالإنسان لا يتحرك فقط بالعلم بل بالمشاعر أيضا، ان قصص الأنبياء تخلق مشاعر ايجابية في نفس الإنسان، فإذا ما قرأ المرء سيرة النبي أو الإمام فإنه يرى انبعاثة في نفسه تدفعه باتجاه محاكاة هذه المواقف العظيمة ، والاهتمام بمثل هذه المبادئ، والموعظة هي المشاعر السليمة.
كما تخلد هذه القصص التي ذكرها القرآن، من ناحية رابعة، رموز الرسالة على مر الأجيال، ولذلك يقول تعالى ﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، أي حتى تتذكر الأجيال القادمة هؤلاء الأبطال والرموز.
واستلهاما من هذه الآية الكريمة يأتي الاهتمام بسيرة رسول الله وسيرة الأئمة من أهل بيته، وكافة اولياء الله . فالاحتفاء بسيرة أهل البيت هو استلهام من هذا النهج القرآني، وتحقيق لتلك الأهداف التي ذكرها القرآن الكريم، باعتبارها غاية من ذكر سير الأنبياء وقصصهم.
من هنا تأتي أهمية الاحتفاء بذكريات أهل البيت ، وفي هذا الشهر المبارك شهر شعبان الذي حفه الله تعالى منه بالمغفرة والرضوان، يحتضن هذا الشهر ذكريات لأهل البيت، ففيه ميلاد الإمام الحسين وأبي الفضل العباس ، والإمام زين العابدين ، كما يصادف منتصف الشهر ذكرى الإمام المهدي المنتظر . هذه الذكريات إنما تحيا من أجل تحقيق هذه الأهداف، من هنا لا ينبغي الاهتمام بالطقوس المصاحبة لهذه المناسبات فقط، ولا من خلال ابراز الحالة العاطفية فحسب، وإنما ينبغي أن نصل إلى العمق والجوهر الذي يذكره القرآن الكريم في الآية المباركة، ذلك من أجل أن تتعزز قيم الخير في نفوسنا، ومن أجل أن نصنع المشاعر الإيجابية في داخل نفوسنا من خلال سيرة أئمة أهل البيت ، بغرض الاطلاع على تراثهم وتعاليمهم.
ولكننا يجب أن نعترف في ذات الوقت بأن هناك تقصيراً كبيراً على هذا الصعيد، اذ ان هناك اهتماماً لافتاً ينصب في غالبه نحو المظاهر، أما من حيث المضمون والجوهر فهناك نوع من التقصير في الحديث عن سير هؤلاء الأئمة الصالحين، والدفع نحو الاقتداء والتأسي بهم، هذا الإتباع للأئمة يأتي نتيجة المعرفة لسيرتهم ومواقفهم وهديهم، وفي هذا المجال نلحظ نقصا كبيرا في الساحة، بشأن توفر المعرفة بسيرة أهل البيت، وإن بدأت الآن ولله الحمد بعض الجهود لاظهار سيرة أهل البيت ، ولكن إلى ما قبل ستين عاماً كان هناك فراغ كبير في الساحة، اذ لم يكن بين أيدينا، الا الكتب القديمة المقتصرة على كتب السير والوفيات والتي تتحدث عن سيرة أهل البيت بلغة مؤلفيها وزمانهم، بينما نحن نعيش في عصرنا الراهن زمنا جديدا ومختلفا، يحتاج إلى لغة جديدة وأسلوب جديد، لقد كنا بحاجة ماسة إلى صياغة ذلك التراث بلغة عصرية علاوة على ضرورة تنقيح ذلك التراث، فقد داخل هذا التراث شيء من الشوائب استوجب معها التنقيح من خلال تسليط الأضواء على المواقف المفيدة لهذا العصر، لكننا كنا نعاني من فراغ في هذا الجانب.
لقد قيض الله سبحانه وتعالى لمهمة تقديم قراءة متجددة للسيرة النبوية وسيرة آل البيت عددا من المحققين. وجاء في طليعة هؤلاء العلامة الشيخ باقر شريف القرشي المتوفى بتاريخ 26 رجب 1433 عن عمر ناهز 86 عامًا، وقد ولد الشيخ الراحل ونشأ وتلقى علومه الدينية في النجف الأشرف، لقد عاش هذا العالم الجليل في أجواء الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وكان علماء الحوزة حينها منشغلين بالفقه والأصول غالبا، فتفرغ هو لكتابة سيرة أهل البيت بأسلوب جديد، ولغة عصرية، ومنهجية جديدة، في وقت لم يكن لدينا مثل هذه الدراسات ، لقد كان الراحل في طليعة من توجه في هذا العصر للكتابة والتحقيق في سيرة أئمة أهل البيت . لقد ألف العلامة القرشي كتاب حياة الإمام الحسن في مجلدين سنة 1373هـ أي قبل نحو ستين سنة، وكذلك كتاب حياة الإمام الحسين في ثلاثة مجلدات، كما كتب في السيرة النبوية، وسير باقي الأئمة بما مجموعها 40 مجلدًا. لقد كسر هذا العالم جمود الاهتمام بالفقه والأصول الذي كان سائدا في الحوزة حينها، فانتحى منحى آخر، بالرغم من أنه قطع شوطا كبيرا في دراسته العلمية، حتى تجاوز مرحلة المقدمات والسطوح وحضر بحوث الخارج، وكتب تقريرات بحوث الخارج لعدد من الفقهاء، لكنه مع ذلك اختار الاهتمام بسيرة وتاريخ أهل البيت على نحو الخصوص.
لقد دفع الشيخ القرشي ثمنا باهظا حين اختار أن يشق طريقه المختلف عن السائد في الحوزة آنذاك. فبالرغم مما يحظى به من احترام هذا اليوم، إلا انه واجه في ذلك الزمن قدرا هائلا من التثبيط، حتى نقل بعض الثقات أن الشيخ القرشي تعرض في بداية توجهه نحو التأليف إلى قطع راتبه الذي يناله على غرار باقي طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف ، وذلك بحجة عدم استحقاقه لذلك الراتب كونه منشغلا في التأليف وليس في الدراسة الحوزوية.
وبتقديمه قراءة متجددة لسيرة أهل البيت فقد لبى الشيخ القرشي حاجة ماسة وسد فراغا كبيرا طالما تاق اليه أبناء جيلنا المعاصر. فالجيل الراهن يريد أن يقرأ سيرة أهل البيت بلغة جديدة، بخلاف ما هو موجود في بطون الكتب التراثية المكتوبة بلغة قديمة، بغض النظر عن مضمونها. لقد حبا الله هذا الرجل قدرة أدبية جيدة وقلما رشيقا، فأنطلق في كتابة سيرة أهل البيت بلغة راقية جديدة، بخلاف الكتب القديمة التي كانت تكتفي بتناول سيرة أهل البيت بشكل تقليدي يبدأ بسرد سيرة الإمام فيترجم له من حيث الميلاد والوفاة مرورا بمآثره وفضائله، أما الشيخ القرشي فقد أخذ يتناول سيرة الأئمة من مختلف الجوانب، بالحديث عن البيئة المحيطة، والوضع الاجتماعي والاقتصادي والفكري والسياسي في عهد كل واحد من الأئمة، فاستطاع بذلك أن يقدم صورة متكاملة عن شخصية كل إمام وظروف عصره، وبجرأة غير معهودة تجاوز رحمه الله في كتاباته في السيرة كثيرا من الشوائب بما فيها من غلو ومبالغة، مقدما تحليله المتميز للكثير من المواقف والأحداث التي أحاطت بسيرة أهل البيت . ولقد ترجمت كل هذه المجلدات الأربعين إلى اللغة الانجليزية واللغة الفارسية، ويجري الاهتمام بترجمتها إلى اللغة الفرنسية، وهذا جهد عظيم ولا شك. لابد أن نترحم على هذا الفقيد الراحل، وأن نقدر هذا الجهد الكبير الذي قام به، وأن نعزز مثل هذا الدور.
وعطفا على ما سبق، تبدو الحاجة اليوم ماسة إلى تجاوز الجهد الفردي بقيام مراكز دراسات عن سيرة أهل البيت . فلم تعد المسألة مسألة فردية، بأن يتوجه شخص بمفرده للتأليف، بل المسألة باتت أكبر بكثير، فلا تزال هناك الكثير من المساءل التي يلفها الغموض حول سيرة أهل البيت، ولازال الاختلاف والاضطراب في النقولات التاريخية قائماً، تحتاج معها إلى جهود كبيرة تقوم عليها مراكز الدراسات والعلماء المحققين، لعلهم يستطيعون أن يجلوا هذه الحقائق ويكشفوا عن الغموض. لقد قرأ الشيخ القرشي الكثير من المخطوطات ونقب في العديد من المصادر، وحين يقرأ الإنسان كتبه والمصادر التي رجع إليها، يدرك حجم الجهد الذي بذله في ذلك الوقت الذي لم يكن الحصول على المعلومة حينها أمرا سهل المنال كما هو الحال في عصرنا الراهن. إن هذا الجهد الكبير ينبغي أن يتواصل بقيام مراكز للدراسات والأبحاث، وأن يفتح باب التحقيق واسعا، في الكثير من القضايا التي ترسل إرسال المسلمات.
يعاني الشيعة من نقص كبير في مجال كتابة التاريخ. فاهتمامات الشيعة بكتابة التاريخ تعتبر محدودة، بسبب الظروف السياسية التي عاشوها، لكن لم يعد هناك من مبرر اليوم في أن يستمر هذا الضعف في الاهتمام بتاريخنا. ينبغي أن تصرف المزيد من الجهود والأموال على دراسة تاريخ أهل البيت، سيما ونحن نبذل الكثير من الأموال على المظاهر بالاهتمام بسيرة أهل البيت، حتى أننا نرى البعض مستعدا لأن يصرف الكثير من المال على الاطعام والمضايف في الطرقات والبرامج المختلفة، التي لا نقف من حيث الأصل بالضد منها، ولكن المؤسف أن يكون ذلك على حساب الاهتمام بمضمون سيرة أهل البيت.
فلا ينبغي أن يكون الاهتمام بالمظاهر على حساب الأمور الجوهرية والأكثر أهمية في سيرة أهل البيت. ففي حين ننفق الأموال على الإطعام، ينبغي أن يصاحب ذلك على الجهة المقابلة اهتمام مماثل عبر طباعة الكتب للتعريف بسيرة أهل البيت.