قائد... وعواطف أمة
بين أوراق التاريخ المبعثرة ألقيت نفسي قارئاً ومتتلمذاً، أحياناً أقرأ المجتمع، وأخرى أدير وجهي لأتأمل الإرادة والإدارة السياسية لذلك المجتمع، وثالثة أحاول فيها معرفة الموقف والرؤية لزعامات المجتمع.
بين يدي الإمام الحسن بن علي المجتبى كانت وجهة قراءتي في الأيام المنصرمة، فكانت قراءة ممتعة لها علاقة بالشق الاجتماعي والسياسي في حياة الإمام الذي كان يقرأ أوضاع مجتمعه بطريقة ربما تداخلت فيها أمور كثيرة، وتشكلت نتيجتها مواقف لا تزال مثار جدل وأخذ ورد.
هذه رؤوس أقلام لانطباعاتي التي أرجو من القارئ الكريم مساعدتي في بلورتها للفترة التي بادر فيها الإمام لتحمل المسئولية والمشاركة في صياغة المواقف العامة من القضايا والتحديات التي تفرض نفسها على الأمة.
المتأمل في تفاصيل سيرته يدرك أن قراءة الإمام لزمانه وأحداثه كانت دقيقة ومتأنية للوضع، فهي تبتعد وتبعد الشخصانية من الحسابات ذات الصلة بقضايا الأمة، وتستثني مشاعر التشفي والانتقام والبحث عن تسجيل النقاط على حساب المجتمع، وتنطلق في أفق واسع ورحب، يتجاوز الذات ومكانتها وموقعيتها وغير ذلك مما يسيطر على عواطفنا البسيطة.
أفق يعي المصالح الكبرى للأمة فتهون كل القضايا الأخرى أمام المصالح الكبرى، وتصبح المفاضلة بين تلك القضايا ومصالح الأمة راجحة في طرف الأمة ومصالحها، لتنكفئ كل القضايا الصغيرة وإن بدت في صورتها الأولية ذات أهمية ومكانة.
أفق يحمل صاحبه على القراءة البعيدة لكل حركة وحدث، فلا ينشغل بالمردودات القصيرة، ولا يستهويه ربحها السريع، لأنه يقرأ الامتدادات والنهايات، وعلى أساس ذلك يخطو بعزيمة وثبات.
أفق يدرك أن حق الناس في حفظ دمائهم وأعراضهم وأموالهم له مركزية، وله أهمية تسمح أحياناً بترحيل بعض القرارات إلى فترات يرجح فيها حفظ تلك الدماء والأعراض، وتكون خسائرها (لا قدر الله) محمولة ومستطاعة، مع توفر نسبة كبرى من تحقق المصالح مقابل تلك الخسائر المحتملة والمتوقعة.
كان يمتلئ وعياً وثقة بخطواته، فكانت المواقف التي انطلقت من بعض أصحابه مفهومة عنده، ينقل لنا التاريخ عينة من هذه المواقف، فقد جاءه بعض أصحابه مسلماً:(السلام عليك يا مذل المؤمنين)، فكانت عبارة صادمة وعنيفة وذات مدلولات ومبتغيات جارحة، لكن الأفق الواضح للقائد يستطيع الاستيعاب والتجاوز دون أن ينخرط فيما لا يراه، فتحملها على مضض، وحاول دون جدوى أن يعدل من موقف قائلها، لكنه لم يستطع، فأوقفها عند حدها ولم يسمح لها بالتسرب إلى رؤيته، كما لم يسمح لها بالانعكاس على قراراته.
بين اندفاعات الناس وحماسهم وبعض عنفوانهم كان يرجح الرؤية والقراءة المتأنية، وكان يدرك أن حجم الأخطار قد يكون أكبر من الحماس في بعض المنعطفات.
تأثر الموقعية وانفضاض بعض الأصحاب وانقلاب البعض الآخر منهم، وبقاء الكثير من الأسئلة والمواقف متحركة بحركة التاريخ، ومتجددة بتجدد المجتمعات، كلها من مسببات الألم والحسرة في النفس، لكنها ليست مسألة ذات اكتراث كبير في وجدان الإمام، بحيث تؤثر على قراراته بعد تشخيصه لتكليفه الشرعي الذي هو أعلم به من غيره.
الاقتراب من الحياة السياسية والاجتماعية للإمام يكشف للقارئ أن أهم ما ينبغي للقائد في قراراته وخطواته، سواء كانت في هذا الطريق أو الطريق الذي يقابله، هو أن تكون على بصيرة ونضج بالحجم الذي عليه مصالح الأمة، وأن تكون خاضعة للتشخيص لا للضغوط، وأن تتعامل مع المعادلات الواقعية بعيداً عن الحماس والاندفاعات، وأن يكون المستقبل بكامل صورته وعناصره واضحاً ومحسوباً في اتخاذ هذه الخطوة أو تلك، ثم يمضي معتمداً على الله وعلى ما في يده من معطيات.