التفكير من جديد
السهل هو أن يسترسل أحدنا في حياته ويمضي دون النظر للمستجدات، يأكل كما كان يأكل في صغره وشبابه ولا يلتفت للتغيرات التي طرأت عليه، ويسهر كما كان أيام قوته وحيويته ولا يتأمل الفوارق بين قدرته السابقة وما هي عليه حالياً. وهكذا في كل شأن من شئون حياتنا... الاسترسال هو السهل.
لاحظت من خلال دردشات ومفاكهات الكثير من الأصدقاء أن أغلب الناس لا يسعون وراء معرفة ما استجد في حياتهم، بل يحاولون الهرب من ذلك، وقد حصل ذات مرة أثناء حديث لي مع صديق عزيز يشكو من بعض الآلام فقلت له: من المستحسن أن تذهب لمستشفى موثوق وتخضع لتحاليل وفحوصات شاملة لجميع وظائف وأجهزة جسمك، فرد عليّ ببسمة تهكمية: لو ذهبت للفحص والتحليل لألصقوا بي كل مرض ولحرموني من كل شيء، ولحاولوا الإيحاء لي بأني على وشك الموت.
تعاملنا مع أجسادنا لا يختلف كثيراً عن تعاملنا مع شئوننا الحياتية المختلفة، فالاسترسال عندنا سمة استحسنّاها ونفرنا من غيرها.
فزعنا من غيرها كثيراً لأننا نعتقد أن إعادة التفكير خطأ، ولأننا نهاب الوصول إلى نتائج معاكسة لما نحن عليه، ولأننا نحذر كثيراً من كل من حولنا أن ينظروا لنا بسخرية واستهجان وعجز وضعف، وربما لأننا ربطنا إعادة التفكير بالنظر للخلف والالتفات للوراء، وما شابه ذلك من عناوين ومانشيتات لا تساعد على تحديث الأرضية التي بنيت عليها تصوراتنا.
إعادة التفكير لا تعني تغييراً على الدوام، ولا تبديلاً على كل حال، بل هي ضرورة لمعرفة أن ما كان صحيحاً وسليماً هل مازال كما هو أم يحتاج إلى تقليم أو تطعيم؟ التقليم والتطعيم، الإضافة والحذف هي أمور مهمة مهما كان صغرها وبساطتها.
إنها محسنات تجعل ما كان من الدواء - على سبيل المثال - مرّاً ذا طعم مقبول، وتجعل من الصورة المشوّشة صورةً ذات ألوان زاهية وجاذبة.
إعادة التفكير تعني الرجوع للمادة الخام الأولى بكل تفاصيلها والتي بنيت عليها خطواتنا أو مسيرتنا الحياتية والاجتماعية وتأملها وفحصها من جديد، بل محاولة التأكد من وجودها أو ارتفاعها، فالكثير من الأفكار والتصورات تبنى على مقدمات ملموسة ومحسوسة أحياناً، لكن حركة الزمان المتسارعة، وتغيراتها المتتالية قد تغيّر الكثير من معالم تلك المواد والمعلومات الأولية، الأمر الذي قد يحتم تغييراً في النتيجة، لننتقل بعدها إلى المقارنة بين الجديد من النتائج، وما كان سابقاً، والهدف هو معرفة ما إذا كانت متطابقة مع ما سبقها أم لا؟ ثم العمل بمقتضى المقارنة والتأمل والترجيح والتفاضل بين النتيجتين.
إعادة التفكير ليست خسارةً أبداً، لأنها في حال توافقت مع النتائج السابقة أعطت دافعاً إضافياً، وحافزاً مهماً، وحيويةً جديدةً للسعي والمواصلة بوتيرة أسرع، وأساليب أنجع، وزادت في التشبث بالطريق، تشبثاً يقل معه الإحساس بالمتاعب والآلام، ويقوى به الجلد على تحمل المشقة والصعاب.
تبقى الحالة الأخرى وهي أن تؤدي إعادة النظر إلى تبدل في النتائج والمؤديات، وهنا تكون الفائدة أكثر وضوحاً، لأنها ستحدّ من خسارة الاسترسال، وتقلل من الاستنزاف، وتوقف صرف الجهد غير المسترد عند حد معين.
التفكير من جديد ليس مخيفاً ولا معيباً بل هو حاجة لا غنى عنها.