العرف وشرعية الثبات
كثيرة هي القضايا والأمور التي نكتوي بنارها وندفع ضريبتها ونرزح تحت وطأتها، لكننا لا نتجرأ على التفكير في تغييرها، وإذا ما راودت فكرة التغيير قلب أحد من أبناء مجتمعنا فإنه يقف متأملاً وحالماً بمعجزة أو كرامة تبدل واقعه، وتقود فكرة التغيير والتحول نيابة عنه.
هكذا نحن بين قابر لفكرة التبديل والتغيير، وبين مشلول عن العمل بالفكرة في انتظار قرار أكبر منه، والأمران نابعان من الخوف، والخشية من العرف بكل حماته، وبسلاطة لسانه، وبجرأته التي تستفيد من خوفنا وهواجسنا.
العرف الاجتماعي الذي يمنح صفة الثبات والتوطين والشرعية والهيبة، ومن ثم يتحدى ويخيف، يرعب الناس من الداخل فيقتل تفكيرهم، ويهددهم من الخارج فيشل حركتهم، ويبقى سيفاً مسلطاً مهاباً ومحترماً من الجميع.
المعادلة واضحة إذاً، هناك استماتة عرفية للمحافظة على بعض القضايا والأفكار والسلوكيات، وهناك توثب لحمايتها والحفاظ عليها، وفي المقابل هناك رهبة حيدت العقول، وخوف يمنع من العمل والممارسة.
هذه المعادلة فرضت علينا تفكيراً معلولاً وسقيماً ومميتاً، وهو ما أشرت إليه بأن التغيير إذا ما أراد ان يتم فهو يحتاج إلى قوة وقدرات خارقة، وإلى شخصيات فذة، ويحتاج لقوة أكبر منا كأشخاص، ولها من القدرات ما ليس لي ولك، فلا تبادر أنت، وليتوقف ذاك، فكلكم غير مهيأ لإحداث التغيير أو حتى إحداث اختراق بسيط في المنظومة المتعارفة.
لكن الزمن علمنا أن انتظار القرار والتغيير والتبديل من أحد ما مهما كانت سلطته، دولة أو مؤسسة اجتماعية أو شخصية قد سلم الزمام لها، كل ذلك تقطيعا للوقت وانتظارا لما لن يكون.
مع ذلك نحن ننتظر، ومازلنا ننتظر ونعلق الآمال، لا لأننا نؤمن بقدرة هذه على التغيير بل – وكما أعتقد - لنحمي أنفسنا من تبعات الخطوة الأولى وثمنها الباهظ.
الأعراف والتقاليد التي تضرنا لا تحتاج منا – بعيداً عن صخب الإيحاء – سوى الإقدام ومواصلة الدرب وتحمل بعض العناء والمشقة، وحينها لن تصمد ولن تدوم، وسيتجاوزها المجتمع مهما زاد الضجيج وعلا البكاء عليها.
أكثر من 15 سنة والصحف الرسمية عندنا تكتب عن زواج القاصرات، وعن ضرورة أن يتحول الأمر إلى قرار بالمنع، وحدثت مراجعات، وأعطيت توصيات، لكن الموضوع ليس مجرد كتابة هنا أو قرار هناك.
منذ زمن مديد والناس يتحدثون عن ارتفاع صداق الزواج، وتكاليف حفلة الزفاف وما يسببه من أضرار اجتماعية وأخلاقية، فهل هذا الأمر يحتاج لقرار من أحد، أم يحتاج إلى وعي المجتمع بمشكلته واتخاذ مساره ضمن مصالحه؟ مصالحنا تلك التي تتضرر في أفراحنا هي كذلك تتضرر في أتراحنا، فالفقير وحتى متوسط الحال، يرهقه أن يصاب أحد من أهله بمكروه، لأن التكاليف حمل كبير، ومع أن هذه شكوى الجميع، لكن الحال مستمر، وتعب الناس منها واضح.
ها هم أولادنا يتركون الأعمال الميدانية، بحثاً عن العمل المكتبي المريح، خوفاً من تصورات الناس واستهانتهم وتعاملهم الدوني معهم، فيتسلمها الأجانب ليتضاعف الضرر على مجتمعنا في كل مجال، ابتداءً من أمن المجتمع وسلامة أخلاقه وقيمه، وانتهاء بما لا يعلمه إلا الله.
كل قضايانا كبيرها وصغيرها، بإمكاننا تغييرها إذا خرجنا من بعبع العرف، وامتلكنا جرأة الرأي والقرار، وأدركنا أن الثمن لابد منه، وأن طريق الخلاص مما يؤذينا ويرهقنا هو إرادتنا وصمودنا وإصرارنا على التغيير، الذي يبدأ ويكبر ويؤتي ثماره بعد حين.