ألمسنيه يا عطية
ما أكثر الكلمات والأحاديث والجمل والكلمات الرنّانة من المسئولين، وهم يتحدثون عن مختلف الشئون والوزارات والاختصاصات والأخلاقيات والروحيات.
المسئولون السياسيون والمسئولون الاجتماعيون – وجهاء مثقفون – والمسئولون الدينيون – خطباء علماء موجهون – لهم جميعاً كلمات وتوجيهات وخطب ووعود، لا تجد لها واقعاً قائماً حقيقياً بمقدار ما لها من صخب وصوت مضخم.
كنت في زيارة صديق لي عاد للتو من زيارة الأربعين، وكان متأثراً ومتعلقاً بالإمام الحسين ، وكان يكرّر ليس من يحيي المناسبة هنا كمن يقترب من كربلاء، وليس كمن يرى القبة، وليس كمن يصل إلى الضريح، فهناك شعور مختلف تماماً.
خرجت من عنده وأنا أفكر في أثر الزيارة عليه، وسرح بي خيالي في تاريخ الواقعة في أول زيارة الأربعين، حيث وصل الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري، وكان ضريراً، ومعه عطية العوفي، وبعد أن اغتسل في النهر وتطيّب، طلب من عطية أن يأخذه إلى القبر، وحين وصله قال له يا عطية ألمِسْنِيه (ضع يدي على القبر)، فلما ألمسه إياه خرّ مغشياً عليه.
كنت أفكّر في أثر الأمور المحسوسة حتى في القضايا الدينية والمعنوية، التي لا يشترط فيها الحضور، لأن الإيمان بها قلبي، ومع ذلك فإن تمازج الإيمان الداخلي مع أي محسوس وملموس خارجي له يكون ذا أثر كبير، ولعل في قوله تعالى: «وَإِذ قال إِبراهيمُ ربِّ أَرِنِي كَيف تُحْيِي الموتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِن قال بلَى ولَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (البقرة: 260)، إشارة إلى ذلك.
كل الخطب والكلمات والتوجيهات والانتصارات الوهمية لا تعطي أثرها في الخارج ما لم تتحوّل إلى ملموس ومحسوس، وخصوصاً في الأمور التي من طبيعتها التجسد والكون في الخارج، وحضور أعيانها مشخصةً ملموسةً محسوسة. وحين يتحدث السياسيون الرسميون عن الأوضاع المستتبة والأمن المتفشي، والراحة النفسية لمواطنيهم المساكين، فلا نطالب أحداً منهم سوى بألمسنيه يا عطية.
وحين نسمع الثرثرة والهراء في بلادنا العربية عن حقوق الإنسان، وتمتعه بكل ما يتمتع به المواطن في أرقى دول العالم من حقوق، هذا الحديث المتواصل والمكرور الذي يوصل أحياناً إلى حد الاشمئزاز، فإن كل ما نطلبه هو ألمسنيه يا عطية.
الدينيون وما أدراك ما الدينيون أو المتديّنون، قمة في الوعظ والإرشاد والتوجيه والتقوى والسمو الروحي، ولكن حين يختلفون أو تتضارب مصالحهم وتوجهاتهم، أو آراؤهم في أية مسألة من المسائل، فسترى نفسك مضطراً للصراخ في وجوههم ألمسنيه يا عطية.
حين يتحدّث أحدنا نحن أبناء هذا الصنف عن الأخلاق، ونأتي بقصص وذكريات عن هذا العالم وذاك ممن وصلوا إلى دار الحق، نُخيّل للناس أننا على هذا الطريق ولا نحيد عنه أبداً، ولكن يصعب على عطية أن يلمسهم شيئاً من أخلاقنا، إلا من نفر قليل ممن رحم ربك.
تعال لموازنات دولنا المليارية المذهلة، واسمع أحاديث المسئولين الرسميين من دون استثناء حولها، لكن أكثر من كذا مليون (عطية) مواطن لا يمكنهم أن يلمسوا منها سوى التضخم، وزيادة الأسعار، وغلاء الإيجارات، وأعداد مئوية مرتفعة لا تجد مسكناً ولا مأوى تملكه.
عطية سيتعب ويجهد ولن يجد في البنية التحتية ما يقدّمه للناس، فالصحة والتعليم والوزارات الخدمية أو التخطيطية، كلها في حال يرثى لها، الشيء الوفير الذي يمكن لعطية أن يتلمس الكثير منه، وأن يلمسه للناس هو الفساد المتفشي، والموازنات التي تذهب سدى بسوء استخدامها، وتوجيهها لوجهات لا تمت إلى البلاد والعباد بصلة، وما على عطية سوى الحصول على أرقام الحسابات الخاصة.