قدرات الخصم
في عالمنا العربي والاسلامي، مازلنا كأنظمة وحركات، نعيش الأحلام الوردية تجاه خصومنا، ولا أقصد بالخصم هنا المعنى الدقيق للكلمة، وإنما أقصد الطرف الذي نعارضه أو يعارضنا.
التجاهل لقدرات الخصم وعدم التعامل معها بمنطقية ووعي، يدمّر الكثير مما نبنيه ونشيده على مدار سنوات عديدة.
«الاستخراط» التام من قبل الأنظمة العربية لقوى المعارضة فيها، والإذلال المستمر والمتصاعد لشعوبها، هو عرَضٌ قاتلٌ لمرض الأنظمة المزمن القائم على عدم تقدير تلك الأنظمة لقدرات الخصم، ومن ثم التعامل معه بقانون التطويع والعقاب والتشويه والتأجيل والاستهتار بكل مطالبه وحقوقه.
حديث بعض المعارضين للأنظمة هو الآخر لا يخلو من هذه الإشكالية، وذلك حين يتعامل معها باعتبارها لا حول لها ولا قوة، وأنها بين عشية وضحاها يمكن أن تترك كل مصالحها وتفر، أو تسلم عن يد وهي صاغرة ومنكسرة وذليلة.
التقدير السليم لقدرات الخصم هو أول الخطوات العاقلة في الدخول لأية حلبةٍ أو صراع، لأن الخطأ في التقدير ثمنه فادح وكلفته باهظة.
وأصعب كلفة هي حين يصل هذا الطرف أو ذاك أو كلاهما للطريق المسدود، فلا التراجع ممكن، ولا الاستمرار ينبئ عن أفق، وحينها تتحول الصراعات إلى نوع من الإنهاك الذي يراهن عليه كل طرف، ويعتقد أن الآخر هو الأقرب إليه – لنفس الحسابات والتقديرات الخاطئة – وأنه سيرفع الراية عمّا قريب.
الأنظمة باستهانتها بقدرات الشعوب توسّلت بالقوة المفرطة، وأمعنت في استخدام البطش، وقست ثم قست إلى أن حوّلت الشوارع والميادين إلى ثكنات عسكرية، فيها كل أنواع الأسلحة التي تسمح بها الظروف وتتحمّلها الساحة والأوضاع المحيطة.
والحركات لعدم تقديرها السليم لقوة الطرف الآخر توسلت بالحماسة - المفرطة أحياناً – فاندفعت وتحرّكت وكأن المعادلة تعتمد عليها فقط، بعد أن حذفت الآخر من قاموسها وجميع حساباتها.
ربما تكون الصورة أقرب لو تمعنا في الوضع السوري وما آلت إليه الأمور هناك، وكذلك الوضع المصري الحالي الذي كاد أن يتفاقم لولا شعور الدولة بقوة الشعب والمعارضة مهما كان حجمها، وضرورة التوافق ولو ببعض التنازلات.
صدق القضية وسلامتها، أحقيتها وضرورتها وإنسانيتها، الاستعداد للبذل والعطاء لها، الإخلاص والتفاني من أجلها، الفداء بكل ما يملك الإنسان من غالٍ وثمين في سبيلها، كل ذلك لا يعفي أحداً من ضرورة الحسابات الدقيقة، وأخذ الآخر على محمل الجد، والتعامل مع القضايا باعتبار أن لها طرفين أو أطرافاً قد تتشابك وتعقد المعادلات.
العقل بدون حماسة يكبل المجتمعات ويسلبها إرادة التغيير، والحماسة دون عقل تحرق المجتمعات، وتسبب انفلاتا غير محسوب العواقب. والوعي السياسي هو الذي يمازج بين العقل والحماسة، بين معادلات الأرض واستمداد العون من السماء، بين الاندفاع بقوة وإعطاء الفرص لمحاولات التوصل إلى حل.
الاستخفاف الدائم من قبل أي طرف بالآخر هو خسارةٌ لكلا الطرفين، واحترام الخصم من الطرفين - بمعنى التعامل معه بواقعية – هو الذي يوصل إلى نتائج تساوي ثمنها المدفوع.
لا أود أن تفسر كلمة الواقعية في المقال باعتبارها استسلاماً للواقع، كما لم أحبّذ استدعاء التاريخ ومواقف رسول الاسلام المتدرجة في تعامله مع أعدائه، كي لا أسقطها على المقال بتسرع.