روافد الاستقرار النفسي والعائلي
الخطبة الأولى: روافد الاستقرار النفسي والعائلي
طبيعة الحياة تقتضي من الإنسان الحركة وبذل الجهد، في المجال الذهني، والبدني، والنفسي. فيبذل الإنسان جهدًا ذهنيًا لترتيب أمور حياته، ومتطلبات عيشه، ومواجهة المشاكل التي تعترضه. كما يبذل جهدًا بدنيًا من أجل توفير لقمة العيش، ووسائل الحياة. ويتحمل أعباء نفسية بسبب ما قد يواجهه من عوائق وما يطرأ على علاقاته الاجتماعية من مشاكل، لذلك يحتاج الإنسان إلى محطات للهدوء والراحة من أجل أن يكون قادرًا على مواصلة الجهد. وقد هيأ الله للإنسان أسباب ووسائل الراحة والاستقرار، والتي يتحدث عنها القرآن الكريم في أبعاد: الزمان، والمكان، والشراكة الإنسانية.
أولًا: بعد المكان.
وهو المسكن الذي يأوي الإنسان إليه، ويشكّل أهم وسائل الاستقرار، لأنه يقي الإنسان من تقلبات الجو كالحر والبرد والمطر والريح، كما يحميه من الهوام والوحوش، إضافة إلى أنه يتيح له ممارسة خصوصيته الكاملة. يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾. أي محطة للراحة والاستقرار.
ثانيًا: بعد الزمان.
جعل الله تعالى للإنسان مقطعًا من الزمن مخصصًا للراحة والسكون. وهو الليل، يقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾. فحينما يلقي الظلام بسدوله على الحياة، فإنه يوفر للناس أجواء الهدوء والسكون.
ثالثا: بعد الشراكة الإنسانية.
وأهم شراكة يحتاجها الإنسان هو العلاقة الزوجية، التي من خلالها يكون له عائلة تصبح مصدرًا لاستقراره النفسي والاجتماعي، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.
هذه الأبعاد الثلاثة؛ البيت والليل والعائلة، تشكل منابع الاستقرار النفسي، والراحة الذهنية، والبدنية، شرط أن يحسن الإنسان الاستفادة منها. يقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾. أي أنهم لا يحسنون الاستفادة من هذه الوسائل في تحصيل الراحة والاستقرار لأنفسهم.
كيف لهذه الأبعاد أن توفر الراحة والاستقرار في حياة الإنسان؟
البيت أجواء التربية والسعادة.
مجرد وجود جدران وأثاث للبيت، لا يعني أن أسباب الراحة قد توفرت فيه. إنما يوفر البيت الراحة إذا توفرت فيه الأجواء المناسبة، حينما يكون مكانًا للتربية ومنبعًا للدفء العاطفي. فالإنسان بحاجة الى ما يشبع أحاسيسه ومشاعره، وحتى يتم ذلك فلا بدّ من تواجد أفراد العائلة مجتمعين في البيت أكثر قدر ممكن من الوقت. فالبيت ليس بمثابة فندق للنوم، ولا مطعم للأكل. إنما هو إطار وعش يجتمع فيه أفراد العائلة. واجتماعهم مع بعض ينبغي أن يكون نفسيًا قبل أن يكون جسديًا، فقد يجتمعون ولكن مع انشغال كل واحد بنفسه، كما يعبر القرآن الكريم: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾، سيما مع وسائل الاتصالات الحديثة، حيث تجد كل فرد من العائلة مقبلًا على شاشة جواله، وهو جالس حتى على طاولة الطعام. وفي بعض الأحيان يكاد وقت الالتقاء العائلي يكون معدومًا، فالأب لطبيعة عمله لا يتواجد كثيرًا في البيت، وإذا عاد من عمله جلس مع رفقائه، والأم مشغولة بأمور البيت أو الوظيفة، والأولاد بمذاكرة دروسهم، أو مشاهدة التلفزيون، أو الجلوس مع أصحابهم، وهذا خطأ كبير. على الوالدين أن يحرصا على تخصيص أوقات لاجتماع أفراد العائلة، يتحدثون مع بعض ويتلقى الأولاد التوجيه والعناية من الوالدين، فذلك له أهميته الكبرى، فقد كان رسول الله يقول أصحابه: "جلوس المرء عند عياله أحب إلى الله من اعتكاف في مسجدي هذا"[1] . ولا بدّ كذلك من توفير أجواء السعادة، والبعد عن الخلاف والشجار سيما بين الوالدين، فذلك يؤثر على نفسيات الأولاد، ويدعوهم لهجر منازلهم.
الليل وقت الراحة والاجتماع
جعل الله الليل سكنًا، لذلك ينبغي للإنسان أن يكون في بيته ليلًا مع عائلته؛ لأن السهر خارج البيت خاصة من قبل الزوج أو الزوجة، أمر سيء يؤثر على العلاقات الأسرية والتربوية. لقد تورط مجتمعنا في بعض العادات السيئة المؤثرة سلباً على الاستقرار العائلي، ومنها عادة التأخير في حفلات الأعراس النسائية إلى ما بعد منتصف الليل وقرب الفجر، وكذلك سهرات بعض الرجال في المزارع والديوانيات إلى وقت متأخر من الليل، على حساب زوجاتهم وأبنائهم!!
عادة السهر من أسوء الحالات في مجتمعاتنا، ولها آثار عكسية. منها ضعف الإنتاجية حيث يذهب الطالب إلى المدرسة، والموظف إلى العمل، وهو يعاني من النعاس والتعب، بل من أسباب كثرة الحوادث المرورية في الصباح هو تأثيرات السهر وعدم كفاية الجسم من الراحة والنوم. في الدول المتقدمة يقفلون أسواقهم في الساعة الخامسة مساء، وتبقى بعض المحلات حتى العاشرة ليلًا، عدا المحلات الضرورية. وأغلب الناس يكونون في منازلهم ليلاً!
العائلة ودفء العلاقة
إذا كوّن الإنسان عائلة، فعليه أن يحميها بعلاقات المودة والحب المتبادل بين أفراد العائلة؛ لأن هذا الأمر يحصّن الجميع من الانحراف، وينمّي عندهم الأخلاق الفاضلة. ورد عن الإمام الصادق : " ن المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خلال يتكلفها وإن لم يكن في طبعه ذلك: معاشرة جميلة. وسعة بتقدير. وغيرة بتحصن"[2] . أي أن الغيرة لا تكون بالرقابة، بل بالتحصين وهو الاشباع العاطفي.
نحن الآن نستقبل عامًا دراسيًا جديدًا، فلتقرر كل عائلة أن تنظم أوقاتها وأمورها، وتوفّر أجواء الراحة والاستقرار لجميع أفرادها، لنصنع أجواء النجاح والتفوق لأبنائنا وبناتنا في مسيرتهم التعليمية، ونشأتهم التربوية.
الخطبة الثانية: استدعاء التدخل الأجنبي عار ودمار
حدّث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أصحابه مستنهضًا هممهم للدفاع عن وجودهم وكرامتهم أمام الأعداء، مبديا تعجبه ممن يتيح الفرصة لعدوه على نفسه قال : "وَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ وَ يَهْشِمُ عَظْمَهُ وَ يَفْرِي جِلْدَهُ لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ"[3] .
مع الأسف الشديد أصبحت أمتنا الإسلامية في واقعها المعاصر مصداقًا لهذه الكلمة. أمة تمكّن العدو من نفسها، تجلب العدو إلى ديارها وأوطانها، تمول العدو حتى يقضي على مصادر قوتها!!
ما هذا الواقع الذي تعيشه هذه الأمة؟
إذا كانت حالة الاحتراب الداخلي بين أبناء الأمة سيئة، فإن الأسوأ من ذلك أن يستعين بعضها على بعض بالعدو الأجنبي الطامع. إن ذلك يعني منتهى الانحطاط السياسي، والتدهور الأخلاقي. إن أحدًا لا يشك أن الصهاينة هم أعداء هذه الأمة، يحتلون أراضيها ومقدساتها، وهم الذين يعوقون تقدمها. يدعمهم في ذلك أمريكا وأوروبا، الذين زرعوا هذا الكيان الغاصب في قلب الأمة فلسطين، وما كان لهذا الكيان أن يستمر لولا دعمهم الكامل له ووقوفهم خلفه، أمريكا تصرّح بكل جرأة ووضوح أنها تريد أن تضمن التفوق العسكري لإسرائيل في المنطقة، وأن أمن اسرائيل هو جزء من أمنها القومي.
إذًا حينما يتدخل الأمريكيون والغربيون في أي قطر من أقطار عالمنا الإسلامي، فإنهم لا يتدخلون لمصلحة هذه الشعوب، بل لمصالحهم، ولهدف حماية أمن إسرائيل. الشعارات التي يرفعونها كحماية المدنيين، كلها تلميع لمواقفهم المشبوهة، وإلا فأينهم عن المدنيين الفلسطينيين حينما كانوا يقصفون في غزة؟ أولم يسكتوا عن الحكام المستبدين سنين طويلة؟ بل كانوا هم الذين يدعمونهم ويشجعونهم على الاستبداد والفتك بشعوبهم!
لا أعتقد أن أحدًا لا زال يؤمن بأن الأمريكان تحركهم القيم الإنسانية، أمريكا ليست جمعية خيرية، وإنما هي دولة لها مصالح، وتعمل ما بوسعها لتحقيقها. ويا ليت أنهم يتحركون دفاعًا عن مصالحهم الذاتية فقط، إنما يتحركون من أجل مصالح العدو الصهيوني، حتى الحكومات ما عادت تثق بنوايا الأمريكيين، فكل الحكومات تعلم أن الأمريكان قد يديرون لهم ظهورهم، في أي لحظة، وهذا ما شاهدوه وعاينوه بكل وضوح.
فإذا كنا نقرّ بأن هؤلاء لهم أهدافهم ومصالحهم، فكيف يصح لنا أن نقبل بتدخلهم في نزاعات الأمة الداخلية؟ وإننا إذ نعلن رفضنا القاطع لتدخلهم، فذلك لا يعني قبولنا بالأنظمة الاستبدادية، إن قناعتنا تزداد يومًا بعد يوم، بأن التدخل الأجنبي لن يحل المشكلة، بل سيزيدها تعقيدًا، ولسنا بحاجة إلى نظريات، فكل قضية تدخلت فيها أمريكا، زادت تعقيدًا وسوءًا. فأفغانستان لا زالت تعاني، ولأكثر من عشر سنوات والمشاكل في تصاعد! والعراق ومنذ التدخل الأمريكي، لا يزال ينزف، والحال كذلك في ليبيا. لا تزال هذه الدول بحاجة إلى عشرات السنين كي تنعم بالأمن والاستقرار، وحتى تستكمل بنيتها التحتية. إذًا لماذا نكرر الخطأ، ونراهن على صفقة خاسرة مدمرة؟
إن التدخل الأجنبي في أي بلد عربي سورية أو غيرها، لن يأتي لنا إلا بمزيد من الدمار، وزعزعة الأمن. وليت شعري ما بال من يستهجن بالأمس فكرة التدخل الأجنبي في العراق، ويرمي بها أطرافًا معينة للتشنيع بهم، كيف له أن ينادي الآن بالتدخل العاجل في سوريا، ومن قبل في ليبيا؟
أهذا هو الإسلام والقيم؟ أهذه هي مصلحة الأمة؟ ألا نعلم مدى الرعب التي تعيشه الشعوب جراء التدخل الأجنبي؟ ماذا سيحصل في المنطقة بسبب التدخل الأجنبي؟ ليس إلا المزيد من الدمار، والتعقيد، ومصادرة ثروات هذه الشعوب والمناطق.
لذلك نضرع لله تعالى بأن يحمي الشعب السوري وكل الشعوب من التدخل الأجنبي، ومن كل الأخطار، ومن الاستبداد والطغيان. ونؤكد بأن مناوئة ومعارضة التدخل الأجنبي لا يعني الدفاع عن أنظمة الاستبداد، وإنما يعني التشكيك والرفض بأن يكون هذا هو الحل.