ذكر الله ثراء روحي وانضباط سلوكي
الخطبة الأولى: ذكر الله ثراء روحي وانضباط سلوكي
حضور أي شيء في ذهن الإنسان وتذكره له إنما ينطلق من أحد اسباب ثلاثة:
- وجود حب وانشداد نفسي لأي شيء يجعله دائم الحضور على البال، وكثير الذكر على اللسان، ورد عن أمير المؤمنين علي أنه قال: "مَن أحَبَّ شَيئاً لَهِجَ بِذِكرِهِ"[1] .
- شعور الإنسان بالحاجة إلى شيء يكون دافعاً لهيمنة ذلك الشيء على فكره، فحين الجوع والعطش، يعيش الإنسان دائماً هم الحصول على الطعام والشراب.
- وعند القلق والخوف من أمر ما ينشغل ذهن الإنسان به، وقد يصاب بالهوس والوسوسة تجاهه.
العلاقة مع الربّ
طبيعة علاقة الإنسان بربه عز وجل تفرض عليه أن يكون دائم الذكر لله تعالى. كل ما عند الإنسان من نعمة فهو من الله، أصل وجوده من فضل الله عز وجل. كما أن الإنسان يفترض أن يعيش الشعور بالحاجة الى الله تعالى. ومهما كان للإنسان من قدرة وإمكانية فهي ليست ذاتية، بدليل أنه لا يستطيع أن يحافظ عليها، وفي لحظة قد يفقد كل ما لديه. إنما يستمد الإنسان قدراته من الله عز وجل، فهو محتاج إليه في كل تفاصيل حياته، وحين يعرف الإنسان قدرة الله تعالى عليه، وعلى الكون كله، فإنه يشعر بعظمة الله سبحانه، ويسيطر عليه الخوف والرهبة منه، فيكون الله تعالى ملأ شعوره وأحاسيسه. وهذه مرتبة سامية في العبودية، وهي معرفة مقام الله تعالى كما يعبر عنها القرآن الكريم: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾.
لكن المشكلة تكمن في أن الإنسان يصاب بالغفلة، فينشغل بالاهتمامات الجزئية عن ذكر الله تعالى. من هنا تأتي النصوص الدينية لإعادة توجيه الإنسان إلى توثيق العلاقة بربه، وتذكيره به. وهذا الزمن المبارك، وهو شهر رمضان، أفضل الأزمنة التي توجه الإنسان إلى ذكر ربه، عبر تلاوة القرآن الكريم، والمناجاة. ورد عن رسول الله : " ليس عمل أحب إلى الله، ولا أنجى لعبد من كل سيئة في الدنيا والآخرة من ذكر الله تعالى"[2] . وفي حديث أن أحد الأصحاب سأل رسول الله : أي المجاهدين أعظم أجرًا يا رسول الله؟ فقال : "أكثرهم لله ذكرًا". قال فأي الصائمين أعظم أجرًا؟ قال : "أكثرهم لله ذكرًا". ثم ذكر السائل الصلاة، والزكاة، والحج، والصدقة، كل ذلك يقول : "أكثرهم لله تعالى ذكرًا"[3] .
من ثمرات ذكر الله تعالى:
ذكر الله عز وجل من أسمى العبادات. وهي تعود على الإنسان بأفضل الثمرات وأهمها:
أولًا: الثقة والثبات مقابل الاهتزازات والاضطرابات.
حيث يواجه الإنسان في هذه الحياة صعوبات ومشاكل، وذُكر الله هو ما يثبت قلبه ويطمئنه، لأنها القوة التي يشعر بأنه يمكنه أن يركن إليها ويستمد منها العون، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
ثانيًا: ضبط السلوك.
يتعرض الإنسان في هذه الحياة لتأثير الشهوات وإغراءات الشيطان، فكيف يضبط سلوكه وتصرفه؟ إنما يضبط سلوكه إذا كان الله تعالى حاضرًا في ذهنه. فكلما همّ بمعصية تذكر الله تعالى وترك المعصية. وحج عليه السلام على ناقته عشرين حجة، وكان يرفق بها كثيراً، ويقول المؤرخون: أنه ما قارعها بسوط، وقال إبراهيم بن علي: حججت مع علي بن الحسين فتلكأت ناقته فأشار إليها بالقضيب ثم رد يده وقال: آه من القصاص"[4] . ورد عن رسول الله : " وذكر الله على كل حال، ليس سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر فقط، ولكن إذا ورد عليك شئ أمر الله به أخذت به، وإذا ورد عليك شئ نهى عنه تركته "[5] . وورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق : " وذكر الله في كل موطن، اما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية"[6] ، يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾.
ثالثًا: طاعة الله.
حين يكون الإنسان دائم الذكر لله عز وجل، فإنه يمتثل أوامره، لذلك ورد عن رسول الله : "من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى الله فقد نسي الله، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن"[7] . وإذا أطاع الإنسان ربه فتحت له آفاق القرب منه.
رابعًا: عناية الله تعالى.
من أراد أن يكون الله معه في كل حين، ويدفع عنه السوء والبلاء، فليذكر الله عز وجل، حتى يذكره الله ويسوق له الخير: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾. وذكر الله يكون في كل حين في الصباح والمساء، وفي كل آن، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ ثم يؤكد الله تعالى بأن ذلك مدعاة لعنايته ونزول رحمته: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ﴾. وأولى هذه العناية الربانية هو إخراج العبد من عتمة الظلام إلى دنيا النور: ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾.
خامسًا: المنزلة العظيمة عند الله تعالى.
من أراد أن يعرف منزلته عند الله، فليسأل عن منزلة الله تعالى في نفسه. فمتى كانت منزلة الله عظيمة عنده، فإن منزلته عند الله تعالى تكون كذلك. ورد عن رسول الله : "من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله عنده فان الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه"[8] .
الخطبة الثانية: الحركات الإسلامية الضعف الذاتي والتحدي الخارجي
الاجتهاد في إدارة شؤون الحياة باب مفتوح لذوي الرأي، فالأحكام فيه ظنية وليست قطعية. هناك أحكام شرعية قطعية لا تحتاج لاجتهاد؛ فالصلاة واجبة، والزنى معصية، والربا حرام، وصيام شهر رمضان واجب، وهكذا بقية الأمور التي يكون حكم الله تعالى واضحًا فيها، يقطع به المسلم، وينسبه لله تعالى. لكن هناك أمورًا لا يستطيع الإنسان المسلم أن يقطع بحكم ويدّعي أنه حكم الله تعالى، كالأمور المرتبطة بإدارة شؤون الحياة وخاصة المتغيرات.
هذه الأمور تكون متاحة لاجتهاد الفقهاء وذوي الرأي، فترى الفقيه إذا أفتى بحكم في الأمور الاجتهادية يقول: هذا ما أرى والله أعلم! وللمجتهد المصيب أجران، وللمجتهد المخطئ أجر واحد. ولا يحق لمن يصدر حكمه في قضية خارجية أن يدّعي أنه حكم الله تعالى، فقد ورد عن رسول الله ، أنه كان يوصي كل أمير ـ يكلفه قيادة فرقة من الجيش ـ بتقوى الله، ومجموعة من الوصايا، ومن تلك الوصايا: " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك; فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"[9] . وهو نص صريح واضح لبذل الجهد في الاجتهاد، وعدم القطع بصحة الحكم وأنه حكم الله، لأن هذا الاجتهاد قد ينتج حكمًا يخالف حكم الله الواقعي، فينفر الناس من الدين ناسبين الخطأ له، بل على الفقيه أو الحاكم أن يبين أن ما وصل إليه من رأي إنما هو اجتهاد منه، فإن كان خطأ نسب الخطأ إليه وليس للدين.
من هذه المقدمة نريد أن نخصص حديثنا حول الحركات الإسلامية المعاصرة.
مصطلح الاسلاميين
المسلمون هو الإسم الذي يطلق على أبناء الأمة الإسلامية، فكل فرد فيها يسمى مسلمًا، وهذه التسمية من الله عز وجل: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾. فالإسلام هوية كل من ينتمي إليه، ولم يكن في السابق مصطلح (إسلاميين) كما أصبح يطلق مؤخرًا على بعض الجماعات.
مصطلح الإسلاميين نشأ في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية، حيث قامت في كثير من أقطار المسلمين أنظمة حكم ترفع هوية غير الهوية الدينية، كالماركسية، والشيوعية، والبعثية، والقومية، وهكذا. وكانت هذه الحكومات تجاهر بمناوئة الإسلام، ومعاداة الملتزمين بأحكامه، غير عابئة بمشاعرهم. فالحجاب الشرعي للمرأة المسلمة كان ممنوعًا في عهد الشاه رضا خان حاكم إيران، وكذلك الحال في تركيا في عهد أتاتورك، ولا يزال الأمر قائمًا في تركيا حول منع المحجبات من دخول الحرم الجامعي، بالرغم من أنها دولة مسلمة! كما منعت بعض الدول تربية اللحية باعتبارها شعار التدين، كما هو الحال في مصر، حيث يفرض على من ينظم إلى الجيش حلق لحيته. وصارت المواظبة على الصلاة مصدر قلق للسلطة الحاكمة، كما هو الحال في حكم البعث العراقي.
هذه الأنظمة ولّدت ردة فعل عند الغيورين على الدين والقيم الإسلامية. فاجتهدوا للدفاع عن هذه القيم، ومن أجل أن يكون الحكم في الأمة وفق الأحكام الإسلامية، وليس مخالفًا ومناوئًا للدين. هذه المجاميع التي تبنت هذا الدور أطلق عليها الجماعات الإسلامية، أو الإسلاميون.
اتسعت رقعة هذا التيار، وأصبح في كل مذهب وبلد جماعة تسعى لدفع الأمة للمطالبة بحكم الشريعة الإسلامية. فتشكلت ظاهرة الحركات الإسلامية في مجتمعات الأمة. وهي في الأصل تحمل هدفًا نبيلًا هو عودة الدين إلى حياة الأمة، ومواجهة السلطات التي أماتت أحكام الدين. لكن هذه الحركات، بمقدار ما كان لها إيجابيات كبيرة، من الطبيعي أن يكون لها سلبيات باعتبارها جهداً بشرياً لا يخلو من الثغرات والنواقص، إلا أن بعض هذه الحركات أوغلت في الاجتهادات الخاطئة حتى أضرت بالأمة، وبسمعة الدين الإسلامي.
أخطاء وثغرات الحركات الإسلامية
من أبرز ثغرات هذه الأحزاب الإسلامية:
1ـ عجزها عن مواكبة العصر.
حيث يريد أتباع هذه الأحزاب أن يعيشوا كما عاش الأسلاف سابقًا، في عصر مختلف تمامًا عن تلك العصور. فهم لم يستطيعوا أن يستخرجوا التعاليم والنظم الإسلامية بطريقة تلائم واقع هذا العصر وتغيراته. حيث تمنع بعض الجهات تعليم البنات مثلاً، وكثيراً من الأشياء التي يحتاجها الناس في هذا الزمن، كما رأينا في أفغانستان.
2ـ الإرهاب الفكري والعنف.
حيث تبنت بعض هذه الأحزاب الإسلامية ممارسة العنف، كما يسود أجواء معظم هذه الحركات ثقافة احتكار الشرعية والحق وأن من يخالفهم في شيء فهو خارج الملة والدين.
3ـ ضعف الكفاءة في إدارة شؤون الأمة.
حين أتيحت الفرصة لبعض هذه الحركات الإسلامية أن يديروا السلطة أو يشاركوا فيها، تبين مدى الضعف الذي يعانون منه، ولربما كان ذلك بسبب حداثة التجربة.
4ـ النزاع الداخلي.
بمجرد أن تختلف الآراء والتوجهات في هذا الأحزاب تبدأ حالة النزاع والاحتراب فيما بينهم، حتى أصبح البعض يشهر السلاح ضد من يتبع حركة إسلامية أخرى تخالفه الرأي، كما حدث في الصومال. حركة إسلامية رأت أن تدير الحكم بطريقة معينة، وهي الحكومة القائمة في مقديشو، لكن الطرف الآخر وهو حركة الشباب الإسلامي لم يقبلوا بهذا التوجه، ويعيش الطرفان حالة احتراب بشعة على حساب مصالح شعبهم البائس ووطنهم المدمر.
هذه عوامل ضعف ذاتية داخلية، يقابلها عوامل خارجية مناوئة جعلت مهمتهم صعبة معقدة، ومن أبرزها: اختراقات الاستخبارات الأجنبية لبعض هذه الحركات. فالقوى المستبدة لا تريد للمسلمين أن يعودوا لمفاهيم دينهم، في قضايا الحكم والسلطة، لأن هذه القيم تمنحهم عزة وقوة يستعصي على القوة الأجنبية اضعافها. لذلك تعمل هذه الدول الكبرى على إفشال أي حركة إسلامية تقترب من السلطة أو تصل إليها.
لهذا فإن هذه الحركات الإسلامية وإن كان منطلقها نبيلًا، لكنها تواجه انتكاسات وصعوبات كبيرة، وعليها أن تراجع مواقفها وأخطاءها. عليها أن تواكب العصر، وتتخلى عن حالتها الفئوية الحزبية، وأن تنفتح أكثر على جمهور الأمة خارج إطار التصنيفات والاصطفاف الحزبي.
كما ينبغي علينا أن ندرك أن الإعلام موجه بقوة ضد أخطاء هذه الجهات الإسلامية، ويعمل على شيطنتها، بترويج أخطائها بشكل تهويلي وتهريجي، لكن هذا لا ينبغي أن يمنع الأمة من التعرف على أبنائها الغيورين المخلصين.
كل ما يحدث الآن إنما يجري في سياق حركة الأمة نحو النهضة والتغيير والإصلاح، وحتى نصل إلى الغاية المنشودة، لا بد من تجاوز الثغرات والمشاكل وتحمّل العقبات والصعوبات.