تيسير العادات والتقاليد الاجتماعية
الخطبة الأولى: تيسير العادات والتقاليد الاجتماعية
حين يتمكن الإنسان من أداء عمله، وتحقيق أي مقصد من مقاصده بيسر وسهولة، فإن ذلك يريحه نفسيًا، ويوفر عليه الوقت والجهد لصالح إنجاز أعمال ومقاصد أخرى. أما إذا واجه صعوبات وتعقيدات في طريقه لإتمام أي غرض من أغراضه، فإنه يتأزم نفسيًا، ويضطر لإنفاق مزيد من الجهد والوقت على حساب أعمال أخرى. لذلك يرغب الإنسان أن يرى اليسر والسهولة في جميع أعماله، وأداء مهماته.
المجتمعات التي تكون من سماتها اليسر والسهولة في الأنظمة والأعراف، يعيش أفرادها بارتياح نفسي، ويكونون أكثر قدرة على الإنتاج، وتوفير الوقت والجهد. أما المجتمعات التي تعيش في ظل تعقيد الأنظمة والأعراف، فإن أبناءها يصيبهم الإنزعاج والتذمر الدائم لأن أداء أي عمل يعني لهم الدخول في معركة عنيفة.
لقد عاشت البشرية طوال تاريخها تكافح من أجل التطوير في المجال العلمي والتكنولوجي، رغبة في تقليل الجهد على الناس، وتوفيرًا للوقت. فالجهد الذي كان يستهلكه الإنسان في إعداد الطعام مثلًا جرى خفضه واختصاره بتوفر الوسائل الحديثة.
ومن أبرز سمات الدين الإسلامي أن جعل اليسر مقصدًا من مقاصد التشريع. فقد ورد أن رسول الله كان يوصي أصحابه كثيرًا: " بشروا ولا تنفروا، يسروا ولا تعسروا"[1] . لا يقبل الإسلام تعقيد حياة الناس، ولا أن يكلفهم فوق طاقتهم، يقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾. ويقول تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾. والنصوص التي تؤكد على أهمية اليسر والسهولة كثيرة.
هناك جهتان مؤثرتان في تعزيز حالة اليسر أو غيابها في البيئة الاجتماعية:
الأولى: الأنظمة الرسمية الحكومية.
بعض الدول تكون أنظمتها معقدة، وإجراءاتها الروتينية مكثفة. فإذا أراد المواطن أن ينجز عملًا فإن ذلك يتطلب منه وقتًا وجهدًا، لمراجعة الدوائر الحكومية، وتوفير الشروط المطلوبة، ما يطلق عليه البيروقراطية أي سلطة المكاتب. هذا يشكل حالة ايذاء، ويحد من حركة الناس وإبداعهم، وقدرتهم على الإنتاج، كما أنه يسبب مشاكل كثيرة على مستوى الأداء الاقتصادي وحركة التنمية. لذلك فإن الدول التي تسعى لتخفيف الأعباء والإجراءات، تستقطب المستثمرين، بينما يهرب رأس المال المحلي من البلاد التي لها أنظمة وإجراءات معقدة.
ورد عن رسول الله أنه قال: "اللهم من ولي شيئا من أمور أمتي فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه"[2] . وهذا حضٌّ على تيسير أمور الناس، ونهي عن تعقيد الإجراءات والأنظمة.
إن مجتمعاتنا تعاني مشكلة التعقيدات في الدوائر الرسمية، فالقضية الصغيرة قد تأخذ من الوقت والجهد الشيء الكثير، إما بسبب الأنظمة المعقدة، أو في بعض الأحيان بسبب عدم وضوح الإجراءات، أو بسبب الميول الشخصية للموظفين، فكل موظف يضيف تعقيدات وفق ما يحلو له، أو يماطل المراجعين دون مبرر.
نحن في عصر تتجه فيه الدول إلى الحكومة الالكترونية. حتى يتم تسهيل وتعجيل إنهاء معاملات الناس، وتصريف أمورهم، مما يوفر الراحة للمواطنين، ويسرع بحركة التنمية الوطنية.
الثانية: التقاليد والأعراف الاجتماعية.
في كل مجتمع تتشكل عادات والتزامات اجتماعية قد تكون حسنة. وفي بعض الأحيان تكون هناك أعراف وتقاليد، يكلف أداؤها جهدًا وعناء على أبناء المجتمع، وهذا يخالف ما تقره الشريعة من قاعدة اليسر وعدم الحرج. يقول أحد العلماء في تفسير الآية الكريمة: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، أريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم، لماذا تعقدون حياتكم وتضعون تقاليد وأعراف تسبب إزعاجًا وإيذاء لكم؟
في مجتمعاتنا كثير من مناسبات الأفراح والأتراح تخللها أعراف وتقاليد فيها بعض الحرج والعسر. إن مشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم أمر حسن، ولكن لا ينبغي المبالغة في المراسيم والبروتوكولات على حساب راحة الناس وأوقاتهم. فعلى سبيل المثال، اصطفاف عدد كبير من أهالي وأصدقاء العريسين، وكذلك في مجالس العزاء، ومصافحة كل واحد منهم ومعانقته، وأخذ الصور التذكارية أصبح سببًا للكلفة والحرج والإيذاء.
ينبغي التخفف من هذه الأعراف. وهذا يحتاج وعيًا من الجميع، فالله يريد لنا اليسر فلماذا نطلب غير ذلك لأنفسنا، ثم نتداول التذمر والتشكي من هذه التقاليد التي أثقلنا بها أنفسنا، وبإمكاننا تغييرها وتبديلها.
الخطبة الثانية: التعليم بين ضخامة الميزانية وضعف المستوى
الارتباط بين مستوى التعليم ومستوى التقدم في الأمم، معادلة بديهية لا تحتاج إلى نقاش وبرهان. فكلما تقدم مستوى التعليم في أمة، تأهلت للتقدم والنجاح، وإلا فالتخلف هو المصير المحتوم. لذلك تتنافس الأمم والمجتمعات في الاهتمام بالتعليم.
ونحن نستقبل عامًا دراسيًا جديدًا، علينا أن نؤكد على أهمية طلب العلم. فهو لا يرتبط بالحصول على شهادة من أجل وظيفة، وإنما يرتبط بمستقبل الأمة والوطن. التعليم هو الذي يشق طريق التقدم والتنمية أمام الأوطان، فكلما كان الاهتمام بالتعليم أكبر كانت فرص التقدم أكبر. إنه من الواجب علينا أن نزرع حب العلم في نفوس أبنائنا، ونختار لهم المكان المناسب للتحصيل العلمي. حين تبدأ الدارسة ونرى الطالب ينتظر الإجازة بفارغ الصبر وهو للتو قد بدأ، فإن ذلك يعني أن الرغبة في التعلم لم تأخذ مكانتها في نفسه، أو لعلّ البيئة الدراسية غير مهيئة، وعلينا حينها البحث عن بديل أفضل.
العائلة معنية بهذا الأمر. أن ترغّب ابناءها للدراسة، وتبحث لهم عن أفضل المدارس. هذا ما ينبغي أن يكون رسالة كل عائلة في الحياة. بعض العوائل في مجتمعات أخرى تعيش هذا الهاجس، وتنفق بسخاء على تعليم أبنائها، وقد تتخلى عن أمور ترغب فيها، لصالح تعليم الأبناء. وقد رأيت بعض المقيمين في بلادنا مع إمكانية تسجيل أبنائهم في المدارس الحكومية، إلا أنهم ورغم محدودية دخلهم، يبحثون عن مدارس خاصة تضمن لأبنائهم تعليمًا أفضل.
لا شك أن الدولة تتحمل المسؤولية الأولى في رفع مستوى التعليم في البلاد. ونركز في حديثنا على ثلاثة أبعاد من شأنها أن ترفع مستوى التعليم:
البعد الأول: المناهج التعليمية.
كلما كانت المناهج متطورة تدفع الطالب للتفكير، وتفجير طاقته نحو الابداع والتفوق العلمي، فإن العملية التعليمة تكون أرقى وأفضل. أما إذا كانت المناهج تعاني من خلل وضعف، فإن المخرجات ستكون ضعيفة ومتدنية. مع الأسف الشديد، فإن مناهج التعليم عندنا في المملكة تعاني هذه المشكلة، وباعتراف كل الأطراف، بما في ذلك المسؤولين في وزارة التعليم. لأسباب مختلفة، فإن مسيرة تطوير التعليم لا تزال متلكئة. لا يزال التعليم يعتمد الكم وليس الكيف، مجموعة كبيرة من الكتب والمقررات يدرسها الطالب، وخاصة في مراحل دراسته الأولى، وهو لا يستفيد منها، ويكون ذلك على حساب المناهج التي تنمي فكره ووعيه. كذلك الاعتماد على مسألة التلقين والحفظ أكثر من الاعتماد على التفكير والإبداع.
البعد الثاني: كفاءة المعلمين.
المعلم مفتاح العملية التعليمية، فلا بد من الإعداد الجيد للمعلمين، سيما معلمي الصفوف الأولية. فهي الأساس لتشكّل ذهنية الطفل، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : "من لم يتعلم في الصغر لم يتقدم في الكبر"[3] . التعليم في هذه المرحلة ينبغي أن يصرف فيه جهد أكبر، والمعلم فيها يجب أن يكون واعيًا ومدركًا بأهمية دوره، ومتقنًا لأساليب التعليم. وفي المقابل لا بد أن ينال المعلم حقه من التقدير. حيث لا تزال رواتب وامتيازات المعلمين في مستوى غير مناسب، وهذا ما يسبب ضعف الحافز في أداء الواجب، وإن كنّا نراهن على الوعي الوطني والشعور الديني من أجل أن يقوم كل معلم بواجبه تجاه طلابه.
البعد الثالث: البيئة التعليمية.
كلما كانت المدارس مهيأة ومريحة للطلاب كانت الرغبة في التعلم والاجتهاد أكبر. لكن المؤسف أنه لا تزال كثير من المدارس، حسب الاحصائيات الرسمية، في وضع سيئ؛ بيوت مستأجرة يحشد فيها الطلاب، وفي كل فصل ما لا يقل عن ثلاثين طالبًا، وبعض الغرف تكون صغيرة يصعب فيها حركة المعلم والطلاب، ناهيك عن مشاكل النظافة وسلامة المبنى!
كيف سيكون أداء المعلم في مثل هذا الوضع؟ وكيف يستوعب الطلاب دروسهم؟ كيف للمدرس أن يعطي، وكيف لهم أن يستوعبوا؟ وحين لا تكون البيئة التعليمية مريحة يضعف انجذاب الطلاب نحو المدرسة والدراسة.
إن هذا لا يتناسب مع ميزانية ضخمة للتعليم هي من أكبر الميزانيات على مستوى الدول، وقد بلغت هذا العام 204 مليار! أين تذهب هذه الأموال؟ لماذا لا يكون هناك متابعة ورقابة لإصلاح الثغرات؟
مع الأسف الشديد، حتى المؤسسات العالمية بدأت تتحدث عن تأخر وتخلف المستوى التعليمي في بلادنا. "المخرجات رديئة والنظام التعليمي ما زال يعاني من تدني الجودة، وحسب نتائج صادرة عن البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (بيسا) والذي يعد جهدا تعاونيا للأعضاء المشاركين من منظمة بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بهدف قياس مدى نجاح الطلبة الذين بلغ سنهم 15 سنة ممن هم على وشك استكمال تعليمهم الإلزامي والاستعداد لمواجهة تحديات مجتمعاتهم اليومية فإن الإمارات تأتي في المرتبة 42 تليها الأردن 55 ثم تونس 56 ثم قطر 61 أما السعودية هي الدولة العربية ما قبل الأخيرة في امتحانات المقارنة الدولية للأداء في مجالي الرياضيات والعلوم"[4] !
بلادنا من أغنى الدول، وكثافتها السكانية ليست بالكثيرة، وترصد مبالغ ضخمة للتعليم، أفلا يحق لنا أن نتساءل: لماذا هذا الوضع المتدني في التعليم؟ أين الخلل في المسألة؟
وضع التعليم في بلادنا يدق ناقوس الخطر، ويوجب على الجميع أن يسعى لعلاج الأمر. يتمثل ذلك في الجهة الرسمية، ثم العائلة بأن تعوض هذا الخلل الرسمي باهتمامها المباشر بتعليم أبنائها.
بهذا نكون قد خدمنا أنفسنا وأدينا الواجب تجاه أبنائنا، وتجاه أوطاننا.