التدين الموروث والبعد الأخلاقي
الخطبة الأولى: التديّن الموروث والبعد الأخلاقي
ورد عن أبي عبد الله قال: لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة[1] .
الدين رؤية للحياة، وقيم وشرائع أنزلها الله تعالى لهداية عباده، وإصلاحهم وإسعادهم.
والتدين هو التزام الدين عبر الإيمان برؤيته، وتبنّي قيمه، وتطبيق شرائعه.
لكن فهم الدين وتنفيذ تعاليمه قد تلحقه بعض الشوائب والانحرافات في مختلف الأجيال والمجتمعات، فتكون هناك صورة سائدة للدين، وشكل متداول لممارسته، من وحي الظروف والبيئة الاجتماعية للمنتمين إلى الدين.
لذا يتوجب على أبناء كلّ جيل أن يعيدوا فحص وقراءة ما تلقّوه من أسلافهم من الدين، عبر الانفتاح المباشر على المنابع والمصادر الدينية الأصيلة، ودراسة مستجدات حياتهم وتطورات عصرهم الذي يعيشون فيه.
ولا يصحّ الاسترسال مع الموروث الديني فهمًا وممارسة اعتمادًا على الثقة بالأسلاف؛ لعدم إحراز عصمتهم من الخطأ، ولأنّ تقدم الزمن، وتطور الحياة، واختلاف الظروف، قد يفرض تغييرًا في الفكر، أو اختلافًا في البرامج وأنماط السّلوك.
من هنا كانت ممارسة الاجتهاد في فهم الدين واستنباط أحكامه، فريضة قائمة على أبناء كلّ عصر ومجتمع، يجب أن يتصدى لها من تتحقق بهم الكفاية اللازمة، ويكونون بمستوى الحاجة والمطلوب.
ومن هنا أيضًا كان الأمر بالنظر في الكون، والتأمل في سنن الحياة، والتدبر في آيات القرآن الكريم، أمرًا موجّهًا إلى جميع الأجيال والأفراد. وليس خاصًّا بأبناء جيل خاصّ أو أفراد محدّدين.
ولا معنى لهذا الأمر إن لم تترتب عليه آثار في العلم والعمل.
الأخلاق والتدين الموروث.
يركز التدين التقليدي الموروث في مجتمعاتنا غالبًا على جانبين من الدين:
الجانب الأول: هو المعتقدات، والجانب الثاني: هو العبادات والشعائر الدينية، ولسنا الآن في معرض البحث عن تفاصيل هذين الجانبين، لكننا نريد الإشارة إلى ضعف الاهتمام في التدين التقليدي بجانب آخر من الدين وهو جانب الأخلاق والسلوك الاجتماعي.
حيث يفخر المتديّن بإيمانه العقدي، ويعتزّ بانتمائه لهذا الدين وهذا المذهب، ولا يقبل الانتقاص من شيء من متبنياته الدينية، كما يحرص على أداء عباداته من صلاة وصوم وحج، بدقة قد تصل إلى حدِّ الهوس والوسواس، ويهتم بالمشاركة في الشعائر والطقوس المذهبية متحدّيًا الضغوط والعقبات.
لكن هذا المتديّن نفسه قد لا تراه حريصًا على تنمية ذاته وتطوير مهاراته وكفاءاته، ولا يبدي الجدية في تحمل مسؤولياته، ولا يهتم بالإتقان في عمله ووظيفته.
يدقّق في مراعاة أحكام الطهارة والصلاة، ولكنه يتساهل في مراعاة حقوق الآخرين في محيطه العائلي والاجتماعي.
يصرف الجهد والوقت في المشاركة في المراسيم والشعائر الدينية، لكنه يبخل حتى بالقليل من جهده ووقته في الأعمال التطوعية، ومؤسسات الخدمة الاجتماعية.
ينفق الكثير من ماله في رحلات الحج والعمرة، وزيارة العتبات المقدسة، لكنه لا يتفقد أحوال الفقراء والمساكين في مجتمعه.
وقد أنتج هذا النمط من التديّن التقليدي مجتمعات تقلّ فيها الكفاءات، وينخفض مستوى الإنتاج، وتنتهك حقوق الإنسان، ويتضاءل العمل التطوعي، ويتدنى التكافل الاجتماعي، وذلك لغياب الاهتمام وضعف التركيز على الجانب الأخلاقي من رسالة الإسلام.
محورية الأخلاق في الدين:
حين نتأمل آيات القرآن الكريم، وأحاديث السنة الشريفة، وهما المصدر الأساس لفهم الدين، ومعرفة قيمه وتشريعاته، نجد للبعد الأخلاقي فيهما مقام الأولوية وموقع الصدارة، فالأخلاق ليست قضية كمالية ثانوية، تدخل في نطاق المستحبات والمندوبات، كما ينظر إليها التديّن التقليدي، بل هي الغاية والمقصد الأساس في الدين.
حيث تضع أكثر من آية في القران الكريم مهمة التزكية في طليعة وظائف النبوة، كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[سورة الجمعة، الآية:2]، وقوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[سورة البقرة، الآية:151].
وفي مورد آخر يُحدّد القرآن الكريم هدف رسالات الأنبياء، ومقصد الوحي الإلهي، بأنه اقامة العدل في حياة البشر، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[سورة الحديد، الآية:25].
ويحصر رسول الله مهمة بعثته فيما روي عنه بقوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»[2] ، وفي حديث آخر: «إنما بعثت لأتمم حسن الأخلاق»[3] ، وفي حديث ثالث: «بعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها»[4] .
أما المعتقدات الدينية من الإيمان بالله وبالوحي وبالمعاد يوم القيامة، فإنّ المطلوب تجلّي آثارها في أخلاق الإنسان وسلوكه الشخصي والاجتماعي، وإذا لم تتحقق تلك الآثار، فذلك يكشف عن زيف الإيمان، ووهن الاعتقاد، وهذا ما تصرح به سورة الماعون، يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴿1﴾ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴿2﴾ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴿3﴾ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴿4﴾ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴿5﴾ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ﴿6﴾ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴿7﴾.
كما تقرن عشرات الآيات الكريمة ذكر الإيمان بالعمل الصالح الذي هو ثمرة الإيمان، والكاشف عن صدقيته، كقوله تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [سورة البقرة، الآية:62]، ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى﴾ [سورة الكهف، الآية:88]، ﴿ وَالْعَصْرِ﴿1﴾ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴿2﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾[سورة العصر].
إلى جانب المعتقدات، فإنّ العبادات الدينية تستهدف تعزيز القيم الأخلاقية في نفس الإنسان، لتنعكس على سلوكه وممارساته، فحين تتحدث سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد عن حِكم العبادات وعلل التشريعات، نراها تركز على الغايات الأخلاقية، تقول: «فجعل اللّه الإيمان تطهيرًا لكم من الشرك، و الصلاة تنزيهًا لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، و الصيام تثبيتًا للإخلاص، و الحج تشييدًا للدين، والعدل تنسيقًا للقلوب»[5] ، ونجد في النصوص الدينية في مجال علل الأحكام وحكم التشريعات كثيرًا مما يؤكّد هذه الحقيقة.
الأخلاق وسيلة التقرب إلى الله
من الطبيعي أن يسعى المتديّن لعمل ما يقرّبه إلى الله سبحانه، ويؤهّله لرضاه، ولنيل المزيد من الأجر والثواب.
ولأن الثقافة الدينية التقليدية تركز على ذكر فضل الأعمال العبادية والبرامج الشعائرية، لذلك يقبل المتديّنون عليها، ويتنافسون على المبادرة إليها، والقيام بها.
فصلاة النوافل، والصيام المستحب، وتكرار الحج والعمرة، وزيارة العتبات المقدسة، وإقامة الشعائر الحسينية، وبناء المساجد والحسينيات، كلّها أمور تشهد إقبالًا واهتمامًا كبيرًا من قبل جمهور المتديّنين، بسبب ما غرس في قلوبهم ونفوسهم من فضل هذه الأعمال، وما أعدّ الله للقائمين بها من أجر وثواب.
وينبغي لنا أن نسرّ ونفخر بالإقبال على هذه البرامج العبادية والشعائرية؛ لأنّها جزء لا يتجزأ من الدين، والإقبال عليها مكسب للحالة الدينية.
لكن الإشكال يكمن في تجاهل الثقافة التقليدية؛ لأهمية القضايا الأخلاقية والسلوكية، وضعف التركيز على دورها في بناء شخصية الإنسان المتديّن، وعدم تداول ما ورد من النصوص في فضلها وثواب وأجر التحلي بها.
مع أننا نجد كثيرًا من النصوص الدينية التي ترجّح بعض السلوكيات الأخلاقية على كثير من الممارسات العبادية، وتتحدث عن ثواب وأجر كبير عند الله سبحانه وتعالى لذوي الأخلاق الفاضلة والمواقف النبيلة.
وحين نقرأ حديث القرآن عن أهمّ صفات المؤمنين الصالحين، نرى الحضور المكثف للصفات الأخلاقية، إلى جانب السمات العقدية والعبادية، كالآيات الأخيرة من سورة الفرقان حيث بدأت بقوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً﴾[سورة الفرقان، الآية:63]، مروراً بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾.
وجاء عن رسول الله أنه قال: «من حسن خلقه بلغه الله درجة الصائم القائم»[6] .
وفي حديث آخر عنه: «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة»[7] .
وعنه: «ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق»[8] .
وعنه: «إنّ أحبّكم إليَّ وأقربكم مني يوم القيامة مجلسًا أحسنكم خلقًا وأشدّكم تواضعًا»[9] .
وعن الإمام الصادق: «إنّ الله تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله»[10] .
سوء الخلق إثم أكبر
إذا كان المتديّن يحذر من الوقوع في الذنوب والمعاصي، ويتجنّب ما يوجب سخط الله وغضبه، فعليه أن يعلم أن ذلك لا يقتصر على ترك الواجبات العبادية، أو ارتكاب الآثام الشخصية، بل إنّ سوء التعاطي والتعامل مع الآخرين قريبين كانوا أم بعيدين، هو من أكبر المعاصي وأشدّ الذنوب والآثام، وهذا ما تؤكّده نصوص دينية كثيرة:
فقد روي عن رسول الله أنه قال: «سوء الخلق ذنب لا يغفر»[11] .
قيل لرسول الله: «إنّ فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: لا خير فيها، هي من أهل النار»[12] .
عن النبي عند دفن سعد بن معاذ أنه قال: قد أصابته ضمّة، فسئل عن ذلك فقال: «نعم، إنه كان في خلقه مع أهله سوء»[13] .
وورد عنه قوله: «إنّ العبد... ليبلغ بسوء خلقه أسفل درك جهنم»[14] .
ويتحدث أمير المؤمنين عن اتّساع عفو الله تعالى لأيِّ تقصير يحصل من الإنسان تجاه ربه، لكن عدوان الإنسان على شيءٍ من حقوق أخيه الإنسان المادية أو المعنوية، هو ذنب غير قابل للتجاوز من قبل الله تعالى، حتى يسترجع صاحب الحقّ حقّه، يقول: «أَلَا وَ إِنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَةٌ فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ وَ ظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ وَ ظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَا يُطْلَبُ فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً»[15] .
هكذا تبدو محورية الأخلاق وأولويتها من خلال الفهم الواعي للدين، مما يوجب إعادة النظر في الثقافة التقليدية السائدة، التي تبخس هذا البعد الخطير حقّه.
وتشتد الحاجة لإعادة صياغة الخطاب الديني في هذا العصر، وتغيير سلّم الأولويات والاهتمامات في طروحاته، لما تواجهه مجتمعاتنا من تحدّيات نابعة من سرعة تطور وتيرة الحياة، ومن الانفتاح الواسع على سائر الثقافات والمجتمعات.
إننا بحاجة لخطاب ديني يحفّز دوافع الخير في نفس الإنسان، ليكون أكثر كفاءة وفاعلية وعطاءً، وإلى ثقافة دينية تبثّ روح المحبّة والتسامح واحترام الحقوق المتبادلة بين الناس، ليصبحوا أقدر على التعايش والتعاون لخدمة مصالحهم المشتركة.
الخطبة الثانية: مخرجات الازدراء والتعبئة الطائفية
﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [سورة الكهف، الآية: 49].
اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الإنسان مسؤولًا عن أعماله، وعما يتمخّض عنها من نتائج، صغيرها وكبيرها. وفي سبيل أن يحسب المرء حسابًا لأيِّ عمل أو تصرف من أعماله وتصرفاته، فقد كشفت الشرائع السماوية عن أنّ جميع أعمال البشر من قول أو فعل هي قيد الضبط والتوثيق الرباني. ومهما فعل الإنسان من فعل أو ألقى من قول، ونسي ذلك لاحقًا، فلا يعفي هذا النسيان المرء من نتائج وآثار أفعاله، وفي هذا يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّـهُ وَنَسُوهُ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سورة المجادلة، الآية: 6]، هكذا لكي يكون الإنسان مراقبًا لأفعاله، وليضع في اعتباره أنه سيكون حتمًا في مواجهة آثار أعماله، عاجلًا أم آجلًا.
أعمالك مثبتة عليك
ولطالما كررت آيات القرآن الكريم التذكير بحقيقة أنّ جميع أعمال الإنسان مثبتة عليه، مهما كانت ضئيلة وحقيرة في نظره. قال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾[سورة الكهف، الآية: 49]. والأكثر من ذلك، أنّ الأمر ليس مقتصرًا على إحصاء الأعمال وحسب، وإنما تفيد نصوص كثيرة أنّ الإنسان في القيامة سيرى أفعاله ماثلة أمامه رأي العين، كما يفيد بذلك ظاهر الآية الكريمة: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾، وجاء في آية أخرى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [سورة آل عمران، الآية: 30]، ويقول تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [سورة الزلزلة، الآيتان: 7-8].
فقد ذهب بعض المفسّرين إلى القول بأنّ معنى أن يجد الإنسان أعماله حاضرة يوم القيامة، أي إنّه يرى أعماله مكتوبة ومثبتة عليه، وقال مفسّرون آخرون أي إنّه يجد جزاء أعماله، فيما ذهب فريق آخر من المفسرين إلى القول بأنّ الأمر ليس متوقفًا على تسجيل الأعمال فقط، ولا على ملاقاة الجزاء وحسب، وإنما علاوة على ذلك يجد المرء أعماله حاضرة في يوم القيامة، أي إنّه يراها متجسّدة أمامه كما هي. واستدلّ المفسّرون على ذلك بجملة من الروايات والأحاديث الشريفة. ولعلّ في تجسد الأعمال في يوم القيامة أبلغ حجة وأكثر تأثيرًا على الإنسان، وذلك على غرار ما يجري في الحياة الدنيا إذا ما صادف وكان الفعل مصوّرًا وموثّقًا بكاميرا رقمية مثلًا، فإنّ ذلك سيمثل ولا شك دليلًا دامغًا لا يمكن دحضه.
أهمية توثيق الممارسات
إنّ الآيات والنصوص الدينية التي تشير بتجسّد الأعمال في يوم القيامة، غرضها أن يتحمل الإنسان المسؤولية عن تصرفاته، وألّا يقع في شرِّ أعماله يوم العرض الأكبر. ذلك أنّ الإنسان إذا ما اعتقد أنه سيجد تلك الأعمال شاخصة أمامه، فستضفي عليه البهجة إن كانت خيرًا، أو تسوؤه إن كانت شرًّا. فإذا عمل المرء عملًا طيّبًا، وتم توثيقه على أيِّ نحوٍ من الأنحاء، فإنّ ذلك سيكون مصدر ارتياح وسعادة له، والعكس بالعكس فيما لو تم تصيّده وتصويره خلسة وهو يرتكب عملًا مخلًّا، ثم شُرع في ترويج ذلك التصوير، فإنّ ذلك ولا شك سيتسبب في إزعاج دائم للإنسان، يذكره بضعفه وإجرامه باستمرار.
ولا يخفى على أحدٍ ما للتسجيل المصور من أثر بالغ في الرأي العام، بخلاف ما إذا كان الأمر مجرّد خبر منقول. ولقد رأينا كيف تسبب تسجيل مصور واحد في تحريك الرأي العام العالمي، حين بثّت إحدى وكالات الأنباء تسجيلًا مصوّرًا للحظة إطلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي النار على الطفل الفلسطيني محمد الدرة، ولفظ أنفاسه الأخيرة وهو في حضن أبيه.
وكذلك الحال مع الصور المسرّبة من سجن أبو غريب في العراق سنة 2004 إبّان الاحتلال الأمريكي، التي هزّت الرأي العام العالمي حين أظهرت بعض الجنود الأمريكيين وهم يرتكبون شتى صنوف التعذيب والتنكيل بحقّ السجناء العراقيين. وكما على الصعيد العالمي، كذلك تسببت بعض اللقطات المصورة على الصعيد المحلي في إحداث ضجة كبيرة وسط الرأي العام المحلي، أدّى بعضها إلى اتخاذ إجراءات رسمية حيال العديد من الحالات، إنْ على مستوى العنف الأسري أو التحرش الجنسي، أو ما أطلق عليه بمطاردات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وذلك ما يدلّ على مستوى التأثير الذي يتركه التوثيق والتسجيل وعرض الأعمال أمام الإنسان.
ولعلّ آخر ما تسرّب في هذا الصدد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هو التصوير المأخوذ الأسبوع الماضي لمجموعة من الجنود الذين كانوا يجوبون بلدة العوامية وهم يطلقون إساءات صريحة بحقّ أهالي المنطقة. بلغ بهم حدّ قذف أعراض الناس بعبارات سوقية بذيئة. إنّ هذه الحادثة المصورة ينبغي أن تتخذ إزاءها إجراءات صارمة، خاصة وأن هذه الحادثة مثّلت توثيقًا مسجلًا تم تصوير أحداثه من داخل مركبة أمنية ومن قبل الجنود أنفسهم.
إنّ المأمول هو أن تكون هذه الحادثة المصورة باعثًا لحراك وطني، يدين هذه الممارسة وأمثالها، ويرفض الأرضية التي تنطلق منها. لقد كان هؤلاء الجنود الذين ظهروا في التسجيل المصور، هم ضحايا للتعبئة الطائفية، التي تشحنهم شحنًا باتجاه ازدراء الآخرين، تارة بوصف الروافض وأخرى بالصفويين وما إلى ذلك من بذاءات.
إنّ هذه التعبئة التي تقوم بها منابر وأوساط عريضة على مرأى ومسمع من الجميع، هي التي أوجدت الأرضية الطائفية الجاهزة، حتى إذا وجد هذا المعبّأ طائفيًّا أدنى سلطة بيده، فإنّ مظاهر تلك التعبئة سرعان ما تظهر آثارها فاقعة على سلوكه وممارساته حيال الآخرين. ورغم أن بعض الصحف تناولت الحادثة[16] إلّا أننا كنا نتوقع أن نجد قدرًا أكبر من التفاعل مع وقائع هذا التسجيل، وما يشير إليه من ظاهرة طالما عانى منها المواطنون في المنطقة. لقد كنا نتوقع تفاعلًا أكبر إعلاميًّا واجتماعيًّا ورسميًّا، ينصب في مجموعه باتجاه إدانة مثل هذه التصرفات القذرة البغيضة، حتى نثبت للعالم أنّنا كمواطنين في غاية الاهتمام بالحفاظ على كرامة بعضنا بعضًا، فإذا أهينت كرامة أيّ فئة منّا في أيّ منطقة كانت، وإلى أيِّ مذهب انتمت، فتلك إهانة للوطن والشعب بأجمعه. فلا يجوز للواعين أن يطووا كشحًا عن هذه الإساءة؛ لأنّ ضحاياها هم فئة معينة، إنها بالدرجة الأولى إهانة لكرامة الوطن أجمعه.
ولعلّ أقل ما ينتظره الناس في أعقاب هذه الإساءة بحقّ المواطنين هي أن تتخذ إجراءات رادعة. حتى يوضع حدٌّ لهذه الحوادث التي يعاني منها أهالي المنطقة منذ أكثر من سنتين، ولكلا تتكرر في قابل الأيام. ولا بُدّ أن تسنّ القوانين والتشريعات المجرمة للتحريض على الكراهية، فعلى غرار تشكيل هيئة للدفاع عن حقوق الإنسان، أو هيئة لمكافحة الفساد، ينبغي أن تتجه بلادنا نحو تشكيل هيئة بقرار من أعلى مؤسسات الدولة تتصدّى لكافة أشكال التمييز، وليكون لديها التفويض الكامل لمواجهة التمييز الطائفي والعنصري بمختلف أشكاله وألوانه، حتى لا يكون هناك مجال لمثل هذه التصرفات والممارسات المسيئة للوطن والمواطنين.