المزايدة في الدين
روى عن رسول الله أنه قال:
«وَيْلٌ لِلْمُتَأَلِّينَ مِنْ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ , وَفُلَانٌ فِي النَّارِ»[1] .
التنافس في عمل الخير وطاعة الله تعالى أمرٌ مطلوب في ذاته؛ فقد حثّت الآيات القرآنيّة الكريمة على ذلك في مواطن متعدّدة، وكذا النصوص الروائيّة والأدعية الشريفة؛ حيث دفعت بالإنسان نحو التقدّم في عمل الخير وطاعة الله سبحانه.
قال تعالى: ﴿وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُون﴾[2] .
وقال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرات﴾[3] .
كما جاء هذا المعنى في دعاء مكارم الأخلاق للإمام علي بن الحسين حيث قال: «اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَبَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إلَى أَحْسَنِ النِّيَّـاتِ، وَبِعَمَلِي إلى أَحْسَنِ الأعْمَالِ»[4] .
ومن هذه النصوص يظهر: إن على الإنسان أن يكون طموحاً لأن يكون أفضل من الأخرين تديّناً والتزاماً وسبّاقاً إلى الخير وطاعة الربّ.
لكن قد تنبثق للإنسان المؤمن بعض الأمراض التي تعيقه عن إنجاز هذه المهمة بخلوص نيّة وصفاء قلب، من قبيل: «التفاخر بالتديّن وازدراء تديّن الغير»؛ حيث نلاحظ إن البعض يرى في تديّنه الأفضل والأحسن والأنجع، ويكيل التهم لتديّن الآخرين وأديانهم، وما هذه إلا مزايدة باسم الدين.
وقد تحمّلت النصوص الدينيّة مسؤولية ذمّ هذه المزايدة، وتقريع من يمارسها بشدّة وصلابة، وهي نصوص ربما لا تكون صحيحة الأسانيد بآحادها، ولكن من حيث مجموعها ومجملها نراها منسجمة مع قيم الدين ومقاصده ومفاهيمه، نظير ما ورد عنه أنه قال: > وَيْلٌ لِلْمُتَأَلِّينَ مِنْ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ , وَفُلَانٌ فِي النَّارِ<.
والذي يُعني من التألّي على الله هو: إن الإنسان يُصدر حكماً على المستقبل الأخروي للآخرين، فيصنّف الناس على أساس قناعاته في: الجنّة والنار، ولا ندري من هو الذي منح له هذا الحقّ في تقرير مصير الآخرين؟!؛ إذ كيف يُسوَّغ له الحكم السلبي على عباد الله خصوصاً من يشاركونه في الدين والعقيدة.
كما جاء في الرواية عن أبي ذرّ الغفاري: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْماً وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: مَنْ ذَا الَّذِي تَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَ الْمُتَأَلِّي بِقَوْلِهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ»[5] .
وجاء في حديث آخر عنه: «لَا تَأْلُوا عَلَى اللهِ، لَا تَأْلُوا عَلَى اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ تَأَلَّى عَلَى اللهِ أَكْذَبَهُ اللهُ»[6] .
ومن مجموع هذه النصوص نفهم إن التفاخر بالدين أمرٌ محظور ومنبوذ من الناحية الشرعيّة، لكونه من مصاديق الرياء؛ فإن الله لا يقبل من عبده المؤمن ـ مهما كانت درجة تديّنه وعبادته ـ أن يتفاخر محاولاً اكتساب السمعة والفخر بين الناس على أساس عمله الديني؛ فقد جاء في الحديث: «عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ يَقُولُهُ فَذَكَرْتُهُ، فَأَبْكَانِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ، وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ.
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟
قَالَ: نَعَمْ... أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ...» [7] .
ومن هنا نجد إن الإمام زين العابدين علي بن الحسين يتضرّع إلى الله كي يجعله في قمّة الالتزام بالقيم والأخلاق، دون أن يسبب له ذلك شعوراً بالتعالي على الآخرين، أو بالتفاخر بينهم، حيث قال في دعاءه: «وَهَبْ لي مَعالِيَ الأخْلاقِ، وَاعْصِمْني مِنَ الفَخْرِ»[8] .
ومجمل القول: إن مكمن الداء في أوساطنا هو إن البعض من المتدينين يمنحون لأنفسهم الحقّ في تصنيف الناس، وتوزيع الرتب والمواقع عند الله بوعي أو بدون وعي، وربما يحسبون إن هذا الأمر مهمة قد منحها الله جلّ وتعالى لهم، فيصدرون أحكاماً في نجاة هذا وهلاك ذاك، وفي فساد عقيدة (أ) وصلاح عقيدة (ب)، وما هذه المزايدة إلا واحدة من المساوئ القائمة في حياة المسلمين الدينيّة؛ مع إن الدين بتعاليمه يربّي الإنسان المسلم على حسن الظنّ بإخوانه المسلمين، حتى وإن تملّك درجة أفضل في العلم والمعرفة الدينيّة، إلا أن ذلك لا يدعوه للازدراء بهم، بل يتحمّل مسؤولية رفع مستواهم وإقناعهم بما يملك، لا أن يتعامل معهم بازدراء، ويحكم بخروجهم عن الدين والملّة، لأنهم لا يتفقون معه في رأي جزئي أو مسألة تفصيليّة.
وقد روى: «الصَّبَّاحِ بْنِ سَيَابَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ القَولَ: مَا أَنْتُمْ وَالْبَرَاءَةَ؟ يَبْرَأُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرُ صَلَاةً مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ أَنْفَذُ بَصَراً مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ الدَّرَجَاتُ»[9] .
وليس هذا الداء مقتصراً على هذا العصر، بل نلاحظ جذوره موجودة في عصور الأئمة أيضاً؛ حيث كشفت بعض النصوص الروائيّة عن اختلاف المراتب في أصحاب الرسول والأئمة، وكشفت عن وجود هذه الظاهرة فما بينهم، كما جاء ذلك في روايةٍ: «عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَرَاطِيسِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ لَهُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الشِّيعَةِ وَمِنْ أَقَاوِيلِهِمْ، فَقَالَ يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ:
الْإِيمَانُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ لَهُ عَشْرُ مَرَاقِيَ، وَتُرْتَقَى مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ، فَلَا يَقُولَنَّ صَاحِبُ الْوَاحِدَةِ لِصَاحِبِ الثَّانِيَةِ لَسْتَ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا يَقُولَنَّ صَاحِبُ الثَّانِيَةِ لِصَاحِبِ الثَّالِثَةِ لَسْتَ عَلَى شَيْءٍ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْعَاشِرَةِ.
قَالَ: وَكَانَ سَلْمَانُ فِي الْعَاشِرَةِ، وَأَبُو ذَرٍّ فِي التَّاسِعَةِ، وَالْمِقْدَادُ فِي الثَّامِنَةِ.
يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ: لَا تُسْقِطْ مَنْ هُوَ دُونَكَ فَيُسْقِطَكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، إِذَا رَأَيْتَ الَّذِي هُوَ دُونَكَ فَقَدَرْتَ أَنْ تَرْفَعَهُ إِلَى دَرَجَتِكَ رَفْعاً رَفِيقاً فَافْعَلْ، وَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لَا يُطِيقُهُ فَتَكْسِرَهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِناً فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ؛ لِأَنَّكَ إِذَا ذَهَبْتَ تَحْمِلُ الْفَصِيلَ حَمْلَ الْبَازِلِ فَسَخْتَهُ»[10] .
ولم تكتفِ النصوص الدينيّة بشجب هذه الظاهرة ونقدها، بل طرحت حلولاً لتجاوزها من خلال بيان كيفيّة التعامل مع الذي لا يتفق مع الإنسان في شيء من القضايا الدينيّة، فجاءت ثلاثة مقاييس:
الأوّل: احتمالات الخطأ والصواب
فما هو الضمان بصحّة الرأي الذي يختاره الإنسان وسقم رأي غيره، فربما يكون الأمر بالعكس تماماً؛ إذ لا يمكن للإنسان العادي أن يدعي العصمة في آراءه على الإطلاق، بل هي مسائل اجتهاديّة سواء أكانت في القضايا الفكريّة أو الفقهيّة، والمجتهد بطبيعته قد يختلف في رأيه عن المجتهد الآخر، ومن يطمئن بمجتهد معيّن فيأخذ رأيه الفقهي أو الفكري فهو معذور عند الله، لكونه أخذ برأي مجتهد، أو إنه اجتهد، حينما تكون له القدرة على ذلك، فلا يُسوّغ الحكم القطعي بصواب الرأي وخطأ خيار الآخر؛ فنحن من الذاهبين إلى «التخطئة» التي تعني عدم إمكانيّة ادعاء الجزم بالوصول إلى الحكم الواقعيّ الحقيقي على الإطلاق؛ حيث إن كلّ مسألة تحتمل الخطأ والصواب سوى الضروريّات المتفق عليها.
وكم من فكرة تنازع الناس عليها، واختلفوا فيما بينهم حولها، لكن وبعد مرور فترة من الزمن تغيّرت الأمور، وساد رأي غير الرأي الذي كان سائداً في الماضي؛ ومع كون الأمر كذلك فلا ينبغي على الإنسان أن يتهم الآخرين في دينهم لكونهم يمتلكون رأياً آخر.
2ـ احتمال القبول وعدم القبول
يجتهد المؤمن في تبني ما يعتقد أنه حق، وفي العمل بما يوصله إلى رضا الرب تعالى، لكنه لا يستطيع إحراز قبول عمله من قبل الله تعالى، فهو يتهم نفسه بالتقصير دائماً، ويشعر بالخوف والوجل من عدم تحقق موجبات قبول الله تعالى لعمله، فكيف يصح لمؤمن أن يجزم بأن ما يمارسه من تدين هو المقبول عند الله، وأن تدين غيره المختلف معه غير مقبول؟ فقد يكون عمل الآخر مقبولاً، وعملك غير مقبول.
ومن هنا جاءت النصوص الدينيّة الكثيرة الناصّة على عدم إخراج الإنسان المؤمن نفسه عن حدّ التقصير، فيظلّ متردّداً في قبول عمله وعدم قبوله؛ فإن القبول وعدمه ليس من صلاحيات الفرد الحكم فيه وتقرير المصير، جاء في الرواية: «عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي خَلَفٍ:عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسىٰ، قَالَ: قَالَ لِبَعْضِ وُلْدِهِ: يَا بُنَيَّ عَلَيْكَ بِالْجِدِّ، لَا تُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ مِنْ حَدِّ التَّقْصِيرِ فِي عِبَادَةِ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَاعَتِهِ؛ فَإِنَّ اللّٰهَ لَا يُعْبَدُ حَقَّ عِبَادَتِهِ»[11] .
روى ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن محمد بن فضيل بن غزوان قال: قيل لعلي: كم تتصدق؟ كم تخرج مالك؟ ألا تمسك؟ قال: إني والله لو أعلم أن الله تعالى قبل مني فرضاً واحداً لأمسكت، ولكني والله ما أدري، أقبل الله مني سبحانه شيئاً أم لا. [12]
3ـ احتمالات حسن العاقبة وسوئها
فمن هو الإنسان الذي يضمن حسن عاقبته وسوء عاقبة الشخص الذي يتنازع معه، وعلى كلّ إنسان أن يدعو الله بحسن العاقبة، ولكن يبقى احتمال سوئها قائماً.
ورد عن رسول الله: >إن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة <[13] .
كلّ ما تقدّم يكشف لنا عن ضرورة عدم إعجاب الإنسان بتديّنه عموماً، سواء أكان على المستوى العقدي أو على المستوي السلوكي، وهذا لا يمنع من إبداء الرأي والدفاع عنه، ولكن من الخطأ تجهيل الآخرين وازدرائهم، وتحمّل مسؤولية تصنيفهم وإثابتهم ومعاقبتهم؛ إذ نصّت الآيات القرآنيّة على أن الحساب على الدين والعمل شأن إلهيّ خالص، قال تعالى:
﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾[14] .
﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾[15] .
وأخيراً نقف مع المحاورة التي جرت بين محمد بن مسلم الزهريّ وبين الإمام عليّ بين الحسين؛ حينما دخل الزهريّ مهموماً كئيباً عليه فبادره الإمام بالسؤال عن السرّ الذي يقف وراء همّه وكآبته وغمّه، فيبدي له الزهري انزعاجه من الطماعين والحسّاد ممن أحسن إليه، وهكذا يستمر الحديث بينهما حتى يقول له الإمام:
«إِنْ عَرَضَ لَكَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ بِأَنَّ لَكَ فَضْلًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَانْظُرْ إِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْكَ فَقُلْ قَدْ سَبَقَنِي بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي؛ وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْكَ فَقُلْ قَدْ سَبَقْتُهُ بِالْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي؛ وَإِنْ كَانَ تِرْبَكَ فَقُلْ أَنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَنْبِي وَفِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِهِ فَمَا لِي أَدَعُ يَقِينِي لِشَكِّي»[16] .
أجل؛ هكذا تربي النصوص الدينيّة الإنسان المؤمن في التعامل مع أقرانه المؤمنين، وتطلب منه عدم الإعجاب بالنفس والمزايدة باسم الدين، هذه الظاهرة التي تُعدّ من أخطر الأمراض في ساحتنا الدينيّة، وينبغي على الناس أن يحسنوا الظن ببعضهم بعضاً، وأن يديروا ما يختلفون عليه من أمور فقهيّة أو فكريّة بالحوار وضمن الضوابط العلميّة والأخلاقيّة.