المناسبات الدينية وممارسة التشويه
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾[1] .
رسالات الله هي شرائعه التي أنزلها لهداية عباده، وقد أوحى الله تعالى بهذه الشرائع لأنبيائه الذين أختارهم وكلفّهم مهمة تبليغ هذه الرسالات، وبعد الأنبياء جاء دور أوصيائهم؛ الذين يواصلون مسيرتهم في تبيين الشرائع والأحكام الإلهيّة، وبعد الأوصياء تكون المسؤوليّة ملقاة على عاتق العلماء، العارفين بشرائع الله، وهم يتحمّلون مسؤوليّة تبليغها وتبيينها للناس، فهم ورثة الأنبياء، كما ورد في الأحاديث والنصوص.
يتحمّل العلماء مسؤوليّة تبيين رسالات الله وشرائعه للناس، لكن هناك عوائق تنتصب أمام من يحمل رسالة الله، تمنعه من تبليغها وتبيينها، وقد يكون العائق سياسيّاً بوجود سلطة مخالفة للشرائع الإلهيّة، وبالتالي لا يستطيع العالم أن يأخذ حريّته ويتحرّك من أجل تبليغ هذه الرسالات؛ لأن ذلك يكلّفه ثمن الاصطدام بالسلطات المخالفة للشرائع؛ وقد يكون العائق اجتماعيّاً كأن يكون الناس لا يتقبّلون هذه الشرائع، أو تسودهم أفكار وتوجهات مخالفة لهذه الشرائع، ويرفضون من العالم أن يعارض توجهاتهم وما يمارسونه ويطرحونه، وسنتوقّف عند هذا العائق لكونه خطيراً.
إن مسؤوليّة العالم ـ كما أسلفنا ـ هي بيان الأحكام والمفاهيم الدينيّة، وإذ كانت هناك عادات وأعراف وتوجهات مخالفة للدين، فإن على العالم أن يتحمّل مسؤوليّته في تبيين خطأ هذه التوجهات والعادات، وقد يكلّفه ذلك ثمناً، لكنّه يجب أن يكون مستعداً لهذا الثمن حسب ما تقتضيه الحكمة لمصلحة الرسالة وليس لحماية ذاته.
والقرآن الكريم والنصوص تؤكّد على أن مسؤوليّة العلماء أن لا يتكتموا على الشرائع والأحكام الدينيّة، مراعاة لمشاعر الناس وعواطفهم وتوجهاتهم.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[2] .
ويقول في آية أخرى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾[3] .
وجاء عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله القول: «أيّما رجل أتاه الله علماً فكتمه وهو يعلمه لقي الله يوم القيامة ملجماً بلجامٍ من نار»[4] .
وعنه صلى الله عليه وآله: «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله»[5] .
من هنا كان على العلماء أن لا يسكتوا على انتشار المفاسد والبدع والمخالفات للدين، وخاصّة ما يكون منها باسم الدين، فهذا يكون من باب الافتراء على الله والدين، وحينما يسود شيء باسم الدين وهو مخالف له، فمسؤوليّة العلماء هي مواجهة مثل هذه الأمور.
والمؤسف إن أحد معاناة الأمّة الإسلاميّة هي نمو بعض العادات والتقاليد السيئة، وانتشارها في بعض المجتمعات الإسلاميّة، مع وجود العلماء، ولكن العلماء يتردّدون ويتحفظون في مواجهتها؛ لأن الناس لا يقبلون، حيث ترى البعض منهم متذمراً ومبرّراً إمساكه عن ردعها برفض الناس لذلك، ولو أن العلماء تعاونوا فيما بينهم، واجتمعوا، لأثّرت مقولتهم على الناس، خصوصاً في هذا العصر الذي تقدم فيه مستوى وعي الناس، لكن الأمر يحتاج إلى جهد علمائي حتى يقفوا أمام البدع والمفاسد.
ويهمنا هنا أن نشير إلى مورد وهو التعامل مع المناسبات الدينيّة؛ حيث تشكّل فرصة مهمة لتعزيز قيم الدين في نفوس الناس، ولإظهار الوجه المشرق للمجتمع من خلال هذه المناسبات، لكن في بعض الأحيان قد تبرز بعض الممارسات والتصرفات الانفعاليّة أو العاطفيّة، وأحياناً ممارسات طائشة وشطحات سلوكيّة، مما يعدّ تشويهاً للمناسبة ولصورة المجتمع، كما إنه استغلال سيء لهذه المناسبة الدينيّة؛ حيث ينبغي الاستفادة منها لخدمة قيم الدين، ولا يصحّ أبداً أن تصبح غطاءً لما ينافي تعاليم الدين.
وهذا الأمر قد يحصل لأن هناك بعض الجهلاء والسيئيّن والمغرضين الذين يبتغون تشويه الصورة، فيستغلون مثل هذه المناسبات، وهنا لابد وأن يأخذ العلماء دورهم، وأن يقولوا كلمتهم بوضوح؛ وها نحن نستقبل مناسبة مهمة هي ليلة النصف من شعبان، وفيها ذكرى الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، وهي ليلة عظيمة، كما أشارت لذلك النصوص، وجعلتها أعظم ليلة بعد ليلة القدر، فعلينا الاستفادة منها في تعزيز القيم الإيمانيّة والدينيّة، وفي البناء الروحيّ والأخلاقيّ، وفي تعزيز التلاحم الاجتماعي، وإظهار الصورة المشرقة لهذا المجتمع، ولمدرسة أهل البيت عليهم السلام، ومع الأسف الشديد في بعض الأحيان تكون هناك ممارسات سيئّة تحت غطاء هذه الليلة العظيمة المباركة.
فماذا يعني أن تكون هناك حفلات تفحيط في بعض الشوارع في هذه الليلة الكريمة؟! وماذا يعني أن يخرج عشرات من الشباب على دراجاتهم الناريّة يستعرضون بطولاتهم في الشوارع أمام الناس؟! وماذا يعني حصول حالات من الاختلاط غير المحتشم بين الجنسين باسم هذه المناسبة والاحتفاء بها؟! وماذا يعني تعويق السير في شوارع رئيسة بإقامة بوابات لتوزيع الحلويات؟
على أن ما أشرنا إليه لا يشكّل صورة عامّة، لكن السكوت عن بعض المظاهر والممارسات يفسح لها المجال لكي تنتشر وتسود أكثر وأكثر، وقد تحدّثنا في السنوات الماضية، ويجب أن نتحدّث كلّ عام، وأن يتحدّث جميع العلماء والخطباء وتكون لديهم مواقف واضحة من أجل حماية أجواء هذه المناسبات العظيمة، بغية أن لا تلوّث وتشوّه، وتكون غطاءً لممارسات خاطئة مخالفة لتعاليم الدين وقيمه؛ فنحن نريد أن نسرّ أهل البيت وأن نفرح لفرحهم، وهذه الممارسات لا تسرّهم عليهم السلام بل تحزنهم، وما شيعتهم إلا الذين يفرحون لفرحهم وما يسرّهم.
وبالتأكيد فإن مثل هذه الممارسات لا تسرّ أهل البيت عليهم السلام، بل تحزنهم، وتسيء إلى مذهبهم ومدرستهم المشرقة المباركة، لذلك ينبغي أن يكون هناك كلام واضح صريح، ولو أن العلماء في كلّ بلد ووحدوا كلمتهم، وأعلنوا رأيهم، وطلبوا ممن يُحيي المناسبة الالتزام بهذه التعاليم، لكان ذلك أدعى إلى إظهار هذه المناسبة بالمستوى اللائق.
نأمل أن تتضافر الجهود بدءاً من العوائل نفسها، فعلى كلّ صاحب عائلة أن لا يترك الحبل على الغارب لأولاده وبناته، وخاصّة ونحن نعيش ظروفاً فيها الكثير من المصاعب والتحديّات، والتي تملي على الأب والأم مزيداً من اليقظة في حركة أبنائهم وبناتهم في ليلة النصف من شعبان، وأن لا يعطوا مجالاً لاستعراض الجمال والمفاتن في مثل هذه المناسبة، كما قد يصنع البعض والعياذ بالله، وأن لا نترك الفرصة للسيئيّن لتلويث أجواء هذه المناسبة، وينبغي أن يعبّيء المجتمع قواه تجاه هذه الممارسات الطائشة، فإن ما يصنعه الشباب في هذه المناسبة من مضايف وبوابات على الشوارع، إن كان يهدف إلى التقرّب إلى الله تعالى وهو ما نحتمله فيهم فعليهم أن يكونوا في مواجهة هذه التصرّفات الطائشة، وأن لا يسمحوا للعناصر المغرضة والطائشة والجاهلة أن تستفيد من هذه المظاهر، في نشر ما لا يسرّ أهل البيت عليهم السلام، وتشويه المناسبة.
إن ليلة النصف من شعبان ليلة عظيمة لابد من استثمارها بالعبادة والتضرّع إلى الله تعالى، ليلة انتفاح على الله سبحانه وتعالى، «وهذه الليلة ـ ليلة النصف من شعبان ـ من الليالي المشرفات المعظمات اللواتي جعلن علامات لنزول الخيرات والبركات، وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن ينام فيها محيياً لعبادة الله عز وجل بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن»[6] .
«وَرَوَى زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام يَجْمَعُنَا جَمِيعاً لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، ثُمَّ يُجَزِّئُ اللَّيْلَ أَجْزَاءً ثَلَاثاً، فَيُصَلِّي بِنَا جُزْءاً ثُمَّ يَدْعُو، وَنُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَسْأَلُهُ الْجَنَّةَ حَتَّى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ»[7] .
هذا هو برنامج أهل البيت عليهم السلام في ليلة النصف من شعبان، وليس الخروج إلى الشوارع بطريقة غير مناسبة؛ فالاحتفاء وإدخال البهجة على نفوس الأبناء أمر مطلوب، لكن ينبغي أن يكون ضمن الضوابط الشرعيّة، ولا يصحّ أن نسمح بالانفلات عنها، وجاء في سنن ابن ماجة عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ:
«إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا ... »[8] .
ويتأكّد في هذه الليلة استحباب صلاة جعفر الطيّار؛ ومن المستحبات قراءة دعاء كميل، وزيارة الإمام الحسين عليه السلام، يجب أن نعمل لكي تكون هذه الليلة ليلة خشوع وسكينة والتزام بالقيم، وليس ليلة انفلات وشطحات وأعمال منافية لما يريده الدين وأهل البيت عليهم السلام.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا ولكم ولجميع المؤمنين والمسلمين ولأبناء البشريّة جمعاء هذه الليلة المباركة، وأن يجعلها ليلة خير وأمن وسلام وانتصار لجميع المؤمنين، وأن يفرّج الله تعالى في هذه الليلة عن المكروبين والمهمومين والأسرى والمحتاجين، والذين يواجهون الظروف الصعبة في مختلف البلدان، اللهم أكشف ضرّهم وأنصرهم وفرّج عنّا وعنهم وعن جميع المؤمنين.