الثقافة المهدوية وسوء التوظيف
روى الشيخ الطوسي عن جابر قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي ونحن جماعة بعد ما قضينا نسكنا فودعناه وقلنا له: أَوْصِنا يا ابن رسول الله، فقال: «ليعن قويكم ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنا فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقا فردوه، وإن اشتبه الامر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا، فإذا كنتم كما اوصيناكم، لم تعدوا إلى غيره فمات منكم ميت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيدا< [1] .
احتلت قضيّة الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه موقعاً بارزاً في الفكر والتراث الإسلاميّ، وهي لا تختص بمذهب دون مذهب؛ فعند الاطلاع على المصادر الإسلاميّة لمختلف المذاهب نلاحظ حضوراً لقضيّة الإمام المهدي، والروايات موجودة في مختلف كتب المسلمين، وهي ليست رواية أو روايتين، بل هي من حيث الإجمال وبغض النظر عن درجاتها من حيث السند والاعتبار تصل إلى المئات، وكلّها تؤكّد على ثبوت هذه الحقيقة، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد بشّر أمته بمجيء رجل من أهل بيته يكون به ختام الدنيا، حيث يقيم حضارة العدل والحقّ، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.
إن قضيّة الإمام المهدي تشكّل حيّزاً ثقافيّاً في الفكر والتراث الإسلاميّ، لكن نجد إن هذه الثقافة تنقسم إلى اتجاهين:
الاتجاه الأوّل: وهو الذي يأخذ بهذه القضيّة نحو مسار الجدل في تفاصيلها؛ فهناك مجمل يتفق عليه المسلمون وهو: إن أحداً من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وعترته، وبالتحديد من ولد فاطمة صلوات الله وسلامه عليها، يظهر في آخر الزمان، لإقامة دولة الحق والعدل على مستوى العالم، فقد أخرج أبو داوود في سننه عن أم سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»[2] .
وقد صحّح هذا الحديث رجال الحديث من أخواننا من أهل السنّة وعند المدرسة السلفيّة بالخصوص، كالألباني في سلسلة الحاديث الصحيحة[3] .
وهذا المجمل متفق عليه، وهناك تفاصيل كأيّ قضيّة عقديّة أخرى، بدءاً من التوحيد، ومروراً بالنبوّة، وانتهاءً بالمعاد، أو كأيّ قضيّة فقهيّة كالصلاة والصوم والحجّ؛ فإن المسائل والتفاصيل الداخليّة هي مساحة للاختلاف بين العلماء والفقهاء، بسبب اختلاف الروايات والنصوص، أو بسبب اختلاف الفهم والاستنباط من تلك الروايات والنصوص.
هناك ثقافة أخذت بموضوعة الإمام المهدي عليه السلام نحو هذه التفاصيل، بحيث أصبحت هذه القضيّة واحدة من ساحات الجدل والخلاف المذهبي.
والاتجاه الثاني: أخذ قضيّة الإمام المهديّ عليه السلام باتجاه الأمور العاطفيّة، والاستغراق في هذا الجانب، وسوء اسقاط الروايات على الواقع الذي يعيشه.
وهذا التطبيق هو نوع من التأويل لهذه الروايات، يختلف فيه الناس باختلاف دوافعهم وأفكارهم ومصالحهم وبيئاتهم، لذلك أصبحنا نشهد ادعاءات على هذا الصعيد بناءً على بعض الروايات التي تتحدث عن صفات المهدي، فطبقها البعض على نفسه، أو هناك من طبقها عليه، فحصلت إدعاءات كثيرة للمهدوية في تأريخ المسلمين، وغالباً في صفوف إخواننا من أهل السنّة وآخرها ما حصل في المملكة العربيّة السعوديّة وفي مكّة المكرّمة بالذات في قضيّة جهيمان حينما أدّعى إنه هو الإمام المهدي وطلب البيعة من الناس في مطلع سنة 1400 للهجرة؛ في الحادثة الإجرامية المشهورة في البيت الحرام، إذ طبّق روايات صفات الإمام المهدي على نفسه، وطبّقها عليه أصحابه، واستعانوا ببعض الأطياف والمنامات التي أوحت لهم إن هذا هو المهديّ.
كما إن هذه الثقافة المهدويّة في جزء من بعدها العاطفيّ أنبتت أدعياء السفارة والنيابة الخاصّة عنه عليه السلام؛ حيث يدعي بعضهم لقاءه بالإمام، وإنه استسفره وصلة بينه وبين الناس، وهذه الدعاوى خرج الكثير منها في الأوساط الشيعيّة؛ فدعاوى المهدويّة أكثرها في الأوساط السنيّة، ودعاوى السفارة أكثرها في الأوساط الشيعيّة؛ وذلك لأن إدعاء المهدويّة في الأوساط الشيعيّة يواجه صعوبةً لتعذر إمكانية تطبيق النصوص الشيعيّة عليه؛ لكن إدعاء السفارة والنيابة عنه يمكن تغطيته ببعض النصوص الملتبسة!!.
وهناك من يقبل بمثل هذه الدعاوى، كما نلاحظه في أكثر من بلد كإيران والعراق والبحرين وربما في بلدان مختلفة، وبسبب تأويل النصوص على الأشخاص وعلى الأحداث المعاصرة، وبالاستعانة بالأطياف والأحلام.
كما إذا رأى طيفاً يتراءى له من خلاله إن الإمام قال له ذلك، أو رأوا جماعة فيه ذلك، ومن الطبيعي حينما تأخذ القضية هذا المنحي في الأطياف والأحلام، يصعب حينئذ وضع الضوابط والمعايير فيها؛ إذ تتنوّع الأحلام والأطياف بين الأشخاص والجماعات حسب الاتجاهات واختلافها.
وكيف يقبل العقلاء لأنفسهم أن ينقادوا على أساس الأحلام والأطياف والخرافات، ولم يكن هذا الأمر ليحدث لولا وجود أرضيّة؛ فإن جزءً من الخطاب في الوسط الديني منح الأحلام والأطياف قيمة كبيرة، فتجد بعض العلماء والخطباء ينقلون أطيافاً وأحلاماً كشواهد وأدلة في ما يريدون توجيه الناس له وإقناعهم به، ولسنا الآن بصدد الحديث عن الأطياف والأحلام وما تحمله من قيمة معرفيّة، إذ إن لهذا الأمر موطناً آخر، ولكن نؤكدّ على عدم إمكانيّة القول بمصدريّة الأطياف والأحلام لأيّ حكم أو موقف شرعيّ، لا تساعد عليه الأدلّة الواضحة والمعتبرة في المجال التشريعيّ، وما هذا إلا من سوء التعامل والاستفادة من الثقافة المهدويّة.
وكذلك الحديث عن علامات عصر الظهور، وهو الشغل الشاغل لكثير من الناس؛ حيث تراهم يبحثون عن بعض النصوص الروائيّة لتفسير أيّ حدث من الأحداث الواقعة، وبالتالي يدّعون أن هذا العصر هو عصر الظهور، أو إن عصر الظهور قد اقترب، مع إن الأمر بيد الله سبحانه وتعالى، ولا يدري الإنسان إن ظهور الإمام الموعود هل هو في هذا العصر أو في عصر آخر، في هذا القرن أو بعد قرون، لكن البعض من الناس يأخذ بالثقافة المهدويّة بهذا الاتجاه الخاطئ، وهذا قسم من الثقافة المهدويّة التي توظّف توظيفاً سلبيّاً.
بينما يجب الاستفادة من الثقافة المهدويّة بالاتجاه الإيجابيّ والذي يفيد: إن جوهر القضية المهدويّة هو التطلّع لدور الأمّة الرياديّ، وإقامة الحقّ والعدل في ربوع الأمّة والعالم، فينبغي علينا الاستفادة من الثقافة الموجودة في تراثنا بهذا الاتجاه، وذلك:
أولاً: تعزيز الأمل والتطلعات للإصلاح في داخل الأمّة، وتبنّي دور الريادة على المستوى العالميّ؛ لأن قضيّة الإمام المهدي لا تتحدّث عن إصلاح شيعي أو إسلاميّ فقط، وإنما تتحدّث عن إصلاح كونيّ، حيث عبّرت النصوص عنه أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
علينا أن نعزّز بفكرة المهدويّة الأمل في نفوس الناس لأنهم يواجهون أمواجاً من الظلم، وعصوراً من الاستبداد والقمع، وجولات لانتصار الباطل والفساد، لكن الإنسان المؤمن يجب أن يتمسّك بالأمل مهما أدلهمت الظروف وحلكت، ولكن بعض الناس قد ربط ترمومتره[4] على الأحداث اليوميّة؛ فحينما يتحقّق انتصار يكون متفائلاً، وحينما تحصل نكسة تراه متألماً محبطاً.
إن القضيّة المهدويّة تريد أن تجعل الأمل ثابتاً في نفس الإنسان المؤمن، وأن ينظر إلى الأحداث ضمن معادلة التدافع البشريّ، ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[5] ؛ حيث يحصل انتصار هنا وانتكاسة هناك، تقدّم هنا وتأخر هناك، لكن الإنسان المؤمن لابد أن يحافظ على الأمل مشبعاً في نفسه برحمة الله، متطلّعاً إلى الفرج.
فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله؛ فإن أحب الأعمال إلى الله انتظار الفرج»[6] .
فينبغي أن تكون القضيّة المهدويّة وسيلة لتعزيز هذه الحالة النفسيّة المتفائلة، في مقابل حالة الانكسار والانهزام النفسيّ، واليأس والقنوط أمام المشاكل والظروف الحالكة.
ثانياً: ينبغي الاستفادة من الثقافة المهدويّة في بناء الكفاءة استعداداً للمشاركة في بناء الواقع والمستقبل الموعود؛ فإن المؤمن الذي ينتظر أن تملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويتطلّع لإزالة الظلم والجور عنها ينبغي أن يهيّأ نفسه بالكفاءة والقدرات ليكون جزءاً من عمليّة تحقيق هذا الوعد الإلهيّ كما نقرأ في فقرات الدعاء:
اللَّهُمَّ إِنَّا نَرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ، تُعِزُّ بِهَا الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا النِّفَاقَ وَأَهْلَهُ، وَ تَجْعَلُنَا فِيهَا مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى طَاعَتِكَ، وَالْقَادَةِ فِي سَبِيلِكَ، وَتَرْزُقُنَا بِهَا كَرَامَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة[7] .
وكيف يكون الإنسان من الدعاة والقادة إلا إذا توفّر على الكفاءة والقدرات؛ من هنا فإن الثقافة المهدويّة يجب أن تدفع الإنسان المؤمن لتنمية قدراته وكفاءاته حتى يكون أهلاً لحمل هذه التطلّعات والآمال والهموم.
وقد جاء عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام في حديث مطوّل مع أبي خالد الكابلي القول: «يا أَبَا خَالِدٍ إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ الْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ وَالْمُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ»[8]
أيّ إن القدرات والاستعدادات التي يمتلكها المنتظرون لظهوره عليه السلام أفضل من الأجيال التي سبقتهم، وهذا الأمر طبيعيّ بسبب تطوّر الحياة وتراكم الخبرة والمعرفة والتجربة، وهكذا تضيف الرواية تعليلاً لهذه الأفضليّة قائلة:
«لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالْمَعْرِفَةِ فَصَارَتْ بِهِ الْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدَةِ »[9] .
فهم يعيشون أفق التطلّعات والالتزام بالقيم، وكأن الإمام عليه السلام يعيش معهم؛ فالغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة.
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام يضع فيها برنامجاً لمن يريد أن يكون من أصحاب الإمام المهدي المنتظر عليه السلام بعيداً عن البرامج التي لا تركّز على المهام البنائيّة والتربويّة:
«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَائِمِ فَلْيَنْتَظِرْ وَلْيَعْمَلْ بِالْوَرَعِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ مُنْتَظِرٌ»[10] .
فعلى الإنسان المنتظِر أن لا ينزلق إلى مزالق الحرام والانحراف والفساد، وعليه التحلّي بمحاسن الأخلاق في برامجه الشخصيّة وفي تعامله مع الأخرين.
وهكذا يقدّم الإمام نتيجة من هذه المواصفات وطريقة الانتظار قائلاً:
«فَإِنْ مَاتَ وَقَامَ الْقَائِمُ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَدْرَكَهُ، فَجِدُّوا وَانْتَظِرُوا...» [11] .
والجِدُ الذي تطلبه الرواية هو: الجد في العمل والحركة، وفي كسب المعرفة وبناء الكفاءة؛ لذا ينبغي على الإنسان أن يتوجّه لبناء كفاءته وطاقته، وأن لا يكتفي بالتوجهات العاطفيّة فقط، فقراءة الدعاء والتوسّل والاحتفاء والانتظار أمرٌ حسن لا نقاش في حسنه، ولكن ينبغي أن يرافق ذلك بناءً للقدرات والكفاءات.