اختيار التخصّص العلميّ
ورد عن أبي عبد الله الحسين بن عليّ صلوات الله عليه عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله إنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ وَمَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»[1] .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام إنّه قال: «كُنْ بَعِيدَ الْهِمَمِ إِذَا طَلَبْت»[2] .
نجد في هذه الحياة أشخاصاً متفوقين بارزين، ذوي إمكانات كبيرة في العلم أو المال أو الجاه، ونرى الأكثريّة من الناس يعيشون وضعاً عاديّاً، بل إن بعضهم يعيش فقيراً في إمكاناته وقدراته؛ فتجد عالماً يحترمه الناس ويلتفون حوله ويقدّرونه، وحوله أناسٌ كانوا يعيشون نفس الظرف الذي عاشه ونشأ فيه، لكنّهم لا يمتلكون جزءاً بسيطاً من المكانة التي يمتلكها هذا العالم، ولعل بعضهم كان زميلاً وترباً له أو نداً له، لكن هذا أصبح عالماً وذاك بقيّ شخصاً عاديّاً.
وتجد طبيباً متمرسّاً أصبحت له مكانة في تخصصه، ودخل متقدّم لكفاءته الطبيّة، وترى إلى جانبه سكرتيراً أو عاملاً يعيش وضعاً ضعيفاً من ناحية الإمكانات، ولعله كان يعيش ظرفاً شبيه الظرف الذي كان يعيشه رب عمله.
وفي أحدي الدول ركبت مع شخص لكي يوصلني إلى عيادة طبيب من الأطباء، فصار ذلك الشخص يحدّثني عن علاقته مع الطبيب الذي أقصده، وإنّه جاره وزميله في المدرسة، وتربطه به علاقة طفولة، وهكذا أراد أن ينقل لي صورة الظرف الذي عاشه والمشابه لظرف هذا الطبيب، وحينما وصلنا إلى الطبيب ـ والذي هو جرّاح يمارس إجراء العمليّات باستمرار ـ أخذ يحدثني عن مبالغ طائلة وكبيرة جداً يتقاضاها لعمله، فعملية تستغرق عشر دقائق مثلاً قد يتقاضى عليها مبلغاً يقارب عشرة آلاف دولار، مع أن زميل صباه وطفولته السائق الذي أوصلني كان يقول لي إن مرتّبي الشهري لا يصل إلى نصف هذا المبلغ!!
فمع أن كليهما عاشا في بيئة وظرف ومجتمع واحد، فلماذا أصبح هذا طبيباً له كلّ هذه الإمكانيّات، وزميله وجاره وندّه موظف لا يحصل على جزء يسير من الإمكانيّات التي يحصل عليها هذا الطبيب؟!
وربما تجد محاميّاً ـ ومهنة المحاماة معروفة بدخلها الكبير والوافر ـ يترافع في قضيّة واحدة يكتسب فيها ملايين الريالات كما حدّثني ـ مثلاً ـ ليلة البارحة محام بأنّه ترافع في قضيّة كبيرة يقدّر ربحها بالنسبة إلى أصحابها بمبلغ أربعة مليار ريال وقد تقاضى عليها نسبة عشرة بالمئة من مجموع المبلغ النهائي إذا قُدّر له كسبها.
ويحدّثني أحد المحاميين أنه بعد كسبه للقضية التي ترافع عليها، واستحقاقه بذلك مبلغاً كبيراً من المال، أخبره القاضي الذي كان يتولّى القضاء في هذه القضية، قائلاً له: إن ما تقاضيته على هذه القضية يعادل مرتّبي الشهري لمدة سنة أو أكثر، مع أنّك حصلت على هذا المبلغ من خلال ترافعك في قضيّة واحدة!!.
إذن من حقّ الإنسان أن يسأل عن السبب الذي يكمن وراء التفاوت الحاصل بين الناس ـ سواء كان في العلم أو المال أو الجاه ـ، فلماذا نجد إن بعضهم يعيش وضعاً متقدّماً متميّزاً وكثير منهم يعيشون وضعاً عاديّاً أو فقيراً؟
ربما يكون للظروف والبيئة مدخليّة في بعض الأحيان في إيجاد مثل هذا التفاوت، ولكن الدرجة الأساس التي تفسّر هذا التفاوت هي: إن همّة الإنسان واجتهاده هما اللذان يصنعان مستقبله؛ فالإنسان الذي لديه همّة عالية، ويبذل جده واجتهاده لتحقيق تلك الهمّة، فسيكون النجاح والتميّز حليفه في الغالب، وتصبح له إمكانات ضخمة في أي مجال من المجالات، بينما الإنسان الذي يفتقد الهمّة العالية، والاستعداد لبذل الجهد والاجتهاد للوصول إلى المواقع المرموقة، لا ترى له مستقبلاً محفوفاً بهذه القوة والتميّز، من هنا جاءت التوجيهات الدينيّة السامية تدعونا لامتلاك الهمم العالية.
إن علينا ـ ونحن نرى أبناءنا وبناتنا ممّن تخرّجوا من المرحلة الثانوية وهم أمام فرصة اختيار التخصّص ـ شحذ الهمّة العالية فيهم، حتى يكون اختيار التخصّص نابعاً من همّة وطموح وتطلّع، لكن المؤسف إن البعض من ابنائنا يستهين بموضوعة اختيار التخصّص؛ حيث إن عيونه تترقّب من يدور حوله من أصدقائه غير الجادين، فأينما رسا اختيارهم تابعهم على ذلك، على أساس الجو المحيط بهؤلاء الأصدقاء وظروفهم، وقد لا يكون ذلك الاختيار يؤهّله لمستقبل أفضل.
وهناك قسم من ابنائنا يختارون التخصّص على أساس السهولة والراحة، سواء على مستوى الدراسة أو المكان، ولا شكّ إن مثل هؤلاء الطلاب لا يمتلكون طموحاً ولا همّة.
وقد قرأت مؤخّراً مقالاً عن اختيار التخصّص في الجامعات المتقدّمة في الولايات المتّحدة ذات الدرجة الأولى كهارفارد مثلاً؛ فإن هذه الجامعة قد خصّصت نسباً معيّنة للدول، حيث لا يمكن أن تقبل إلا على أساس هذه النسبة، وقد تحددت نسبة المملكة العربيّة السعوديّة في جامعة هارفارد بخمسة مقاعد في السنة فقط، وخصصت لإسرائيل واحداً وعشرين مقعداً؛ والإسرائيلون يتنافسون فيما بينهم للحصول على هذه المقاعد، بينما لا نجد تنافساً فيما بين الطلاب السعوديين على هذه المقاعد الخمسة؛ لأنهم يتهيّبون صعوبة الجامعة، كما ينقل صاحب هذا المقال، وهو سعوديّ مثقّف كان يعمل في السفارة السعودية بواشنطن، وربما نجد هذا التهيّب يتناقل فيما بين الطلاب، يحذّر بعضهم بعضاً من الانتساب إلى الجامعات التي يعتبرونها صعبة أو متشددة، ليحدث هذه الظاهرة لدى جميعهم.
وهذا يكشف عن عدم وجود همّة عالية لدى ابنائنا؛ حيث ينبغي أن يكون اختيار التخصّصات من قبل طلابنا نابعاً من همّة وطموح، وليس بحثاً عن أجواء الراحة وما هو أسهل.
ولا يقتصر هذا الأمر على الجامعات الدوليّة، بل تجد الطالب في وطنه قد يعزف عن الجامعة ذات التخصّص الأفضل، وفرص القبول فيها أكثر، لكونها بعيدة عن مكان إقامته وسكناه، ويفضّل عليها الجامعة القريبة لكونها أريح، ولا ندري أي مستقبل يصنع بهذه الطريقة؟!
علينا أن نشحذ الهمم في نفوس أبنائنا وبناتنا، حتى يكون اختيار التخصّص متناسباً مع الطموح والمستقبل الأفضل الذي نريده لهم، على أن لا نغفل العوامل الأخرى التي لها دور في اختيار التخصّص نظير: قدرات الإنسان وميوله، لكن أثبتت التجربة أيضاً إن الهمّة العالية تمكّن الإنسان من تجاوز الكثير من الصعوبات والعراقيل.
كما إن اختيار الطالب لتخصّصه على أساس عاطفيّ انفعاليّ من دون وعي ودراسة لا يمنحه الفائدة المرجوّة، بل ومن الممكن أن يغيّر تخصّصه بعد ذلك؛ إذ تشير الدراسات إلى أن نسبة (15%) من الطلّاب يغيّرون تخصّصاتهم بعد السنة الأولى من مباشرتهم، وما هذا إلا إضاعة للوقت والجهد خلافاً لما إذا كان الاختيار مدروساً، فإن المستقبل العلميّ والوظيفيّ يكون أفضل وأنجع.
وقد تشكلت بحمد الله في بلادنا جهاتٌ تعطي استشارة وخبرة في هذا المضمار؛ حيث تعين الطالب والطالبة على الاختيار المناسب، وعلينا الاستفادة من هذه الجهات والتواصل معها والاستفادة من خبرتها، لكن الأرضيّة التي أودّ التأكيد عليها هي: «الهمّة العالية»؛ فما هو السبب الذي يحدو بالناس في البلدان الأخرى أن يتخرّج منهم مكتشفون ومبدعون وعلماء معطاؤن ونحن لا نجد ذلك بالمستوى المطلوب في مجتمعاتنا؟! فهل عقمت مجتمعاتنا وانكفأت قدرات ابنائنا على نفسها لتكون أقل استعداداً من قدرات الآخرين الذهنيّة؟!
لا شكّ إن الأمر ليس كذلك، لكن الهمّة التي نفتقدها هي التي منحت للآخرين هذا التفوّق في الغالب؛ حيث تراهم يبذلون جدّاً واجتهاداً في هذا المجال.
وقد كان البعض يتحدّث في الماضي من الأيام أن الأجواء التي تحيط بتلك المجتمعات وبيئتهم هي التي منحت لهم هذه الكفاءة والاستعداد، لكن الفرصة في هذه العصور مواتية لأبنائنا للدراسة في بلدانهم وجامعاتهم فما هو المبرّر لعدم التقدّم إذن؟! فها هي البعثات الدراسيّة متوفّرة في الخارج، وبالتالي فالبيئة التي تتوفّر للأجنبي المتميّز متوفّرة لأبنائنا، كما أن المنهج الدراسي والجامعة التي تتوفّر لهم تتوفّر لأبنائنا أيضاً.
نحن نأمل في أن يجتهد الأبناء، وأن يكون للعوائل دور في تشجيع أبنائهم، وإذكاء حالة التطلّع والطموح في نفوسهم، حتى يكون الاختيار للتخصّص اختياراً مدروساً، ومن وحي حالة الطموح والتطلّع والهمّة العالية.
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «خَيْرُ الْهِمَمِ أَعْلَاهَا»[3] .
وعنه عليه السلام: «مَنْ رَقَى دَرَجَاتِ الْهِمَمِ عَظَّمَتْهُ الْأُمَمُ»[4]
وعنه عليه السلام: «هُمُومُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ»[5] .
فإن الصعوبات والهموم التي يحملها الطالب وهو يختار تخصّصه المتقدم، تتناسب مع حجم الهمّة التي يتحلّى بها.
نسأل الله تعالى أن يوفّق ابنائنا وبناتنا لكي يكونوا كفاءات تخدم الوطن والمجتمع.