سماسرة الضغائن والأحقاد
«... عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم خَطَبَنَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيم...»[1] .
اصلاح النفس مهمة رمضانيّة
استقبال شهر رمضان المبارك ينبغي أن يشيع في نفس الإنسان المؤمن الأملَ والتفاؤلَ؛ فيستقبل هذا الشهر بروحٍ يغمرها الأملُ والبهجةُ والسرورُ؛ لأنّه مقبل على فرصٍ هائلةٍ عظيمةٍ من المكاسب، يمكنه تحصيلها وحيازتها، مكاسب معنويّة روحيّة كبيرة، حيث ضيافة الله وسعة عطاءه ومواهب رحمته ولطفه، فالإنسان في هذه الفترة مقبل على شهر عظيم، يمكّن الإنسان من القرب نحو خالقه أكثر وأكثر، ويمكّنه من الحصول على أكبر قدرٍ من الثواب ونيل مغفرة الله سبحانه وتعالى، هي فرصة عظيمة تمكّن الإنسان من إصلاح نفسه وتغييرها إلى الأفضل والأحسن، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قبيل شهر رمضان يلتفت إلى الناس قائلاً لهم: «سبحان الله!! أتدرون ما يستقبلكم وماذا تستقبلون» ويكّرر هذه الكلمة مرّات ثلاث؛ إن شهر رمضان ليس وقتاً عاديّاً، وينبغي أن يعرف الإنسان المسلم تميّز هذا الشهر العظيم والكريم.
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إنّه قال: «... لَا يَكُونَنَّ شَهْرُ رَمَضَانَ عِنْدَكُمْ كَغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً، وَفَضْلًا عَلَى سَائِرِ الشُّهُور...» [2] ؛ وعلى هذا الأساس فإن على الإنسان أن يُقبل على الشهر الكريم بتفاؤل، ولكننا نجد ـ ومع الأسف الشديد ـ إن بعض الناس يكون شهر رمضان بالنسبة لهم عبئاً، إمّا تهربّاً من الصيام أو تثاقلاً منه، وكما قال ذلك الأعرابي حينما هلّ هلال شهر رمضان عليه وكان الوقت قائظاً فقال: «أقبلت إلينا في الصيف، والله لأقطَّعنك بالأسفار»، على أن الفقهاء جوّزوا السفر في شهر رمضان، لكن ما يفوّته الإنسان على نفسه من فرصة عظيمة أكبر وأجلّ، علماً إن قيمة شهر رمضان لا ترتبط بالصوم فقط؛ حيث يمكن للمسافر أيضاً أن يعيش بركات هذا الشهر الكريم أيضاً.
وهذا الاستقبال كما يكون بالتفاؤل، ينبغي من جهة أخرى أن يحفّز الإنسان للمزيد من الفاعليّة والنشاط في عمل الخير؛ فشهر رمضان ليس شهر راحة، وإنما شهر كفاح وجدّ ونشاط؛ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم كان يستعد لهذا الشهر، ويقضيه بالمزيد من أعمال الطاعة والخير، بما في ذلك معارك الجهاد التي حصل بعضها في شهر رمضان المبارك.
من هنا نجد إن النصوص تدعو الإنسان للإكثار من عمل الخير في شهر رمضان، فإن الدوام على صلاة النافلة في شهر رمضان، والإكثار منها، وتلاوة القرآن، وعمل الخير، والنشاط الاجتماعيّ والمعرفي، كلّها أعمال خير يستحسن بالإنسان أن يمارسها ويربّي نفسه عليها في هذا الشهر الفضيل، وإن لم يكن ملتزماً بها في غيره من الشهور، وإن ما تعوّد عليه بعض الناس من كون هذا الشهر شهر راحة وكسل وتقاعس، ما هو إلا غفلة عن حقيقة هذا الشهر الكريم، والذي هو شهر نشاط وفاعليّة واجتهاد في عمل الخير.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إنّه قال: « مَنْ أَدّى فِيهِ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، كَانَ كَمَنْ أَدّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُور»[3] ، فعلى الإنسان أن يفتّش فيما عنده من أرشيف عن الفرائض الإلهيّة ـ الأعمّ من كونها ماليّة أو عباديّة ـ التي لم يؤدّها، وبقيت عالقة في ذمته، فعليه المسارعة إلى تأديتها في هذا الشهر الفضيل؛ فإن أداء الفرائض في هذا الشهر أفضل وأكثر ثواباً؛ فالصدقة والبذل في هذا الشهر الكريم مثلاً أفضل منها في باقي الشهور؛ فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ»[4] .
«وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ»[5] .
فهو شهر بذل وعطاء أكثر، وهكذا على مستوى جميع البرامج حيث ينبغي أن تُكثّف، وعن الإمام الرضا عليه السلام: «أَكْثِرْ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِرِّ الْإِخْوَان...»[6] .
التواصل الاجتماعي أمر مطلوب
ينبغي أن تزداد وتيرة البرامج الاجتماعيّة والتواصل والبرّ وصلة الرحم في شهر رمضان، أكثر من غيره من الشهور، ولهذا جاءت الأحاديث حول إفطار الصائم مثلاً، حيث عُدّ هذا الأمر نوع من النشاط والتفاعل الاجتماعي، فقد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «فِطْرُكَ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ وَإِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ صِيَامِك»[7] .
وفي رواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: «مَنْ فَطَّرَ صَائِماً، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ»[8] .
شرطان لحصول التوفيق
السؤال الذي ينبغي الإجابة عليه هنا هو: كيف يتوفّق الإنسان لاستثمار شهر رمضان، وللاستزادة من بركاته وخيراته؟ هذا ما أشارت له فقرة من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في خطبته حيث قال:
«فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ»[9] ؛ فإن النيّة الصادقة والقلب الطاهر أمران مهمّان في كسب التوفيق في هذا الشهر الكريم، وحينما يسمع الإنسان الأحاديث والنصوص الروائيّة التي حثّت على ذلك، فلا ينبغي عليه الاكتفاء بالدعاء لطلب التوفيق فقط، وإنما عليه العزم والإرادة الجدّية للوصول إلى ذلك، فالإنسان هو الذي يقرّر ويعزم، فالتوفيق ليست حالة نفسانيّة تأتي إلى الإنسان بشكل غير اختياريّ، دون عزيمة وإرادة من داخل هذا الإنسان، هذا على مستوى «النيّة الصادقة» وهي القرار وتهيئة البرامج كشرط أوّل لحصول التوفيق.
أمّا الشرط الثاني فهو: «طهارة القلب»؛ فعلى الإنسان أن ينظّف ما في قلبه من الأحقاد والضغائن والحسّاسيّات على العباد، وهذا الأمر يهيّؤه لاستثمار شهر رمضان، على الإنسان أن يعيّ جيّداً إن لا وجود لعائق يعيقه من داخله عن عمل الخير كما هي الإعاقة الحاصلة من الأحقاد والضغائن، فإن وجودها يعيق عن أعمال الخير وعن الانفتاح على الله سبحانه وتعالى، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يهتم بنظافة داخله وقلبه من جميع الأحقاد، كما يمارس تنظيف بيته ومنزله حينما يهمّ بعض الضيوف بزيارته، كيف والقادم هو شهر رمضان، «سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا تَسْتَقْبِلُونَ وَمَا ذَا يَسْتَقْبِلُكُم»[10] .
وفي رواية جميلة عن رسول الله صلى الله علي وآله وسلّم عن أنس:
«كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ[آله] وسَلَّمَ فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ[آله] وسَلَّمَ، مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ[آله] وسَلَّمَ، مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ[آله] وسَلَّمَ تَبِعَهُ أحد الأصْحابِ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَأوِيِهِ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَكَانَ هَذَا الصَّحَابِيِّ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا َتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، ولَمْ يَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا.
فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكادَ أَنْ يَحْقِرَ عَمَلَهُ، قْالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ[آله] وسَلَّمَ يَقُولُ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ[آله] وسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ.
قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ...»[11] .
هذا الحديث يكشف عن واقع ينبغي على المتدينين العمل به ووضعه كأساس في تصرّفاتهم، فإن الإكثار من الصلاة والصيام وباقي العبادات لا فائدة منه ما لم ينعكس على أخلاق الإنسان وتعامله مع نفسه ومع غيره، تجد الإنسان في بعض الأحيان يشفق على بعض المتدينين ممن يبالغ في الشعائر والفرائض وهو في نفس الوقت يحمل بقعاً سوداء في داخل قلبه على عباد الله، فيكره هذا، ويحقد على ذاك، وهو يظنّ بأنّه من اتباع العقيدة الصحيحة والمذهب السليم؟! فإن أهل البيت عليهم السلام لا يريدون قلوباً سوداء، وإنما يطلبون قلوباً طاهرة من الأحقاد والأغلال، والذين يكرهون الناس ويبغضونهم على أقل اختلاف، فإن البغض قد ينشأ في بعض الأحيان جرّاء مشكلة خاصّة، وقد يكون في بعض الأحيان لكون ذلك المبغوض من اتباع الديانات أو المذاهب الأخرى، وربما يكون من داخل نفس المذهب إلا أنّه له رأي آخر، ولا ندري كيف جاءت الوصاية لهذا الإنسان على بني البشر؟! ولماذا تلويث القلب بالأحقاد والضغائن والتي من أسوأها: الحقد على الأرحام والأقرباء بسبب خلافات على قضايا معيّنة وتافهة.
سماسرة الأحقاد وتجارها
لكن الأمّة لا تعاني في الوقت الحاضر من الأحقاد الفرديّة، وإنما الأحقاد الاجتماعيّة بين الطوائف والأديان والمذاهب والشعوب، التي يدير كفّتها تجار وسماسرة أحقاد، هؤلاء السماسرة والتجار ينتظرون حدثاً يحصل من هنا وهناك ليؤجّجوا الخلاف والأحقاد والضغينة، خصوصاً والأمّة تعيش في الوقت الحالي مرحلة تحوّل ترافقها أحداث وصراعات في أكثر من بلد عربي وإسلاميّ، فيستغل هؤلاء هذا الوضع ليفجّروا مخازن الأحقاد والسموم فيبثونها وينشرونها، وعلى الفرد المسلم أن يحذر مثل هؤلاء، وأن يواجه هذه الحالة، بنشر ثقافة التسامح والصفح والتجاوز، وليس المهم أن ننشر ثقافة العبادة والدعاء دون أن ترافقها دعوة للتسامح والمحبّة، ورفض هذه التعبئة والتعبئة المضادة، هذا هو ما تحتاجه الأمّة في هذا العصر.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهّر قلوبنا من الأحقاد والأغلال والضغائن، وأن يمنحنا النيّة الصادقة والعزيمة الراسخة على استثمار هذا الشهر الكريم، اللهم بلّغنا لشهر رمضان، ووفقّنا لصيامه وقيامه، وتقبّل فيه أعمالنا وطاعاتنا.